فرضت السلطة في التطورات العلمانية للدولة، إشكاليات متعددة سواء على مستوى مركزيتها أو حدودها أو علاقتها بالسيادة ما يعود ذلك إلى محورية السلطة في الأنظمة السياسية عموما وفي النظم السياسية الحداثية الشمولية منها والليبرالية، وقد قامت السلطة في الدولة الحداثية على ارتباطها بمبدأ السيادة، والذي هو حق الأمر والنهي والتشريع، فكانت نائبا عن الشعب في تحقيق السيادة أو أنها حاجة السيادة على اختلاف بين الدستور و بين الفرنسيين والألمان، وعلى كلا القولين في السلطة فالنظم الغربية هي صاحبة السيادة في النهاية، وقامت السلطة أيضا في النظم الغربية على مبدأ التداخلية، فالدولة الحداثية هي دولة تداخلية وإن ادعت غير ذلك كما في النظرية الليبرالية، فهي تتدخل في التعليم والتجارة والصحة والمواصلات وغيرها من شؤون المجتمع والدولة.
والدولة الحداثية وبالتالي السلطة فيها تعمل في إطار
قيم حاكمة للدولة والمجتمع لا تستطيع الخروج عنها، بل إن وظيفتها أن تحققها و أن
تطبقها وتدافع عنها، بل لا تكون لها شرعية قانوينة أو شرعية جماهيرية مالم تحقق
هذه القيم في هيأة قوانين وتشريعات ومؤسسات وممارسات يومية للعمل السلطوي ويستوي
في ذلك النظم الشمولية والنظم الليبرالية، وعليه فنشر هذه القيم في المجتمع وحمايتها
من أهم وظائف السلطة الحداثية، ولذلك فهي تعمل على تنميط الفرد والمجتمع على قيم
وسلوكيات معينة تكون التصور العلماني للفرد والمجتمع، سواء في القيم المشتركة بين
النظم الشمولية والليبرالية أم فيما يختص به كل من هذه النظم أو تختلف عن بعضها
فالغرض في النهاية هو إنتاج فرد ذو قيم وأفكار وسلوكيات معينة، ومن هنا أتت مسألة
تشكيل الرأي العام سواء من خلال التعليم أو التشريعات أو الإعلام، وإن كان أقواها
هي الوسيلة الأخيرة وهي الإعلام وذلك بما
له من نعومة وتسلل إلى العواطف والعقول وقد استخدمت الأنظمة الحداثية الإعلام
والدعاية بشكل مكثف لتشكيل الرأي العام في دولها وظهر هذا واضحا عند الأمريكان
والنازيين والشيوعيين بتنوعاتهم المختلفة وتصوراتهم المختلفة لطرائق ووسائل تشكيل
الرأي العام حسب ما تريد السلطة وتبتغي.
وقد درس الرأي العام كثيرا من منظور علوم الإعلام والدراسات فيه متنوعة، أما
دراسته من منظور السياسة وعلاقته بالسلطة فلم يدرس في الحقيقة إلا قليلا، رغم
محورية الإعلان والدعاية كأداة في يد السلطة الحداثية للتحكم والسيطرة في توجهات
الجماهير.
ولا شك أن سلطة يوليو 1952 م استفادت كثيرا من خبرة النازيين الذين أسسوا
المخابرات للنظام الجديد، أو الحيرة الأمريكية في قضايا الدعاية وتشكيل الرأي
العام حسب
ولذا كان تشكيل الرأي العام حاضرا وبقوة في ذهن
عبدالناصر لتحقيق حلمه بالضغط على زر واحد فيتحرك المجتمع أو يقف، وقد كان تشكيل
الرأي العام حاضرا أيضا في ذهن السادات وخاصة لإضفاء الشرعية على نظامه بعد إسقاط
منافسيه أو نشر القيم الأمريكية التي أتى بها تحوله إلى الفلك الأمريكي
والرأسميالية والتطبيع مع اليهود أعداء الأمة، ومما يترجح لدى الكاتب أن ما يحدث
منذ انقلاب 3 / 7 / 2013 وحتى الآن أن الخطط الدعائية لوسائل إعلام النظام تنتهج
مناهج وخطط هي خليط بين الخطط الإعلامية لكلا العهد بين الناصري والسادات مع
إضافات بحكم الواقع والخبرة والأهداف.
والهدف العام للنظام الحالي يتمحور حول
العلمنة الشاملة للمجتمع والدولة وصبغ المجتمع والدولة بصفة الهوية الوطنية، وبقول
آخر كان الهدف هو إخراج الإسلام تماما ونهائيا من تكوين العقل الجمعي للمسلمين في
مصر وتحويل سلوكياتهم وأفكارهم وهويتهم إلى المنظور العلماني الذي يخرج الدين كليا
كمرجعية أو هوية، ولذا فسأحاول في هذه الورقة البحثية تفكيك مفهوم الرأي العام
ومراحل تشكيله من خلال السلطة ثم دراسة النموذج التاريخي في العهدين الناصري
والسادات للخروج بتصور يفيد في فهم ملامح تطور نظام 3 /7 لمسألة الرأي العام
وتشكيله والتلاعب به.
لا بد كخطوة أولى من تعريف الرأي العام بحيث يكون التعريف مقبولا من الجميع، وقد يكون من الأفضل تعريف الرأي العام كمفهوم مركب بتعريف مكونيه كل على حدة ثم جمعها في تعريف واحد يشمل المفهوم كله.
ويقصد بالرأي : وجهة نظر معينة تجاه مسألة أو مشكلة مثارة طابعها الجدل والمناقشة عبر عنها خارجيا بألفاظ أو رموز أو غيرها مما يسمح بفهم الحقيقة المعلن عنها.
ولفهم الرأي بشكل أكبر لا بد من التمييز بينه وبين التوجه وبينه وبين الحكم.
فالتوجه أو الاتجاه يعني الاستعداد المسبق لدى الفرد نتيجة خبراته وتجاربه الذاتية السابقة للتصرف بطريقة معينة إزاء موقف أو مشكلة معينة لم تتحدد بعد وعلى ذلك فإن الرأي يختلف عن التوجه في أن:
التوجه |
الرأي |
لا يتطلب مشكلة قائمة |
يتطلب مشكلة قائمة |
أنه استعداد نفسي لا يتطلب الإفصاح عنه |
يتطلب التعبير العلني عن وجهة النظر |
أكثر استقرارا أو ثباتا من الرأي |
يتصف بالتقلب وسرعة التغيير |
ولكن مع هذا لا بد من وجود علاقة بين الرأي والاتجاه، فالرأي مؤشر وعلامة على الاتجاه، فسؤالنا الشخص عن رأيه في مسألة معينة ورده بالإيجاب هو مؤشر وعلامة أن لديه استعدادا لتقبل هذا السلوك، وإن كان لا يعني قيمة التطابق التام بين التوجه والرأي، فقد أثبتت الدراسات الميدانية أن نسبة الانتقال من السلوك القولي ( الرأي) إلى السلوك الفعلي (نتيجة الاتجاه) تقل عن نسبة 50 %.
ويختلف الرأي أيضا عن الحكم وإن لم يمنع ذلك من وجود علاقة ما بينهما، ويظهر هذا الاختلاف في ناحيتين على الأقل:
الحكم: يفترض أنه نتيجة لتحليل دقيق وعميق لمختلف جوانب المشكلة المثارة، ومناقشتها وتقييم وزن وجهات النظر المتعارضة قبل الوصول إلى الحكم، لا يفترض فيه عنصر الإعلان سواء تعليق الأمر بحكم الفرد على مسألة خاصة أو عامة، فيمكن لسبب أو لآخر عدم الإفصاح عن الحكم، بل قد يعلن الشخص رأيا مخالفا تماما لهذا الحكم كما هو بالنسبة مثلا للنفاق في العلاقات الاجتماعية.
الرأي: يرتبط في العادة بوجهة نظر لا تفترض عمقا ولا تحليلا ولا مناقشة حادة لمختلف جوانب المشكلة ووجهات النظر المطروحة بشأنها، وهو وجهة نظر معلنة، أي يتم الإعلان عنها بألفاظ أو رموز من حيز الباطن إلى العالم الخارجي.
وهنا ننتقل إلى المكون الثاني وهو " العام " وفي الحقيقة فإن العام ينصرف إلى معان ثلاثة أساسية هي :
· يعني العام ما لايعد خاصا، فهو لا يتعلق بالفرد وإنما يرتبط بالجماعة أو المجتمع.
· يقصد بالعام ما هو مشترك بين مجموعة من البشر أو بين أغلبية أعضائها، فالمشاركة هنا مصدر العمومية، كقولنا الكرم لدى العرب.
· يقصد بالعام العلانية، بمعنى أنه معروف أو في حكم المعروف من الجميع
وبناء على ما سبق، فإن الرأي العام في ضوء التعريف السابق لمكونيه يمكن أن يعرف بأنه "وجهة نظر معلنة للجماعة أو المجتمع، أساسها تكامل آراء الناس وليس مجرد تجميعها حسابيا، تجاه مسألة عامة أو مثارة طابعها الجدل أو المناقشة واختلاف تعدد الآراء.
ويمكن من خلال التعريف السابق تسجيل بعض الملاحظات حول أبرز خصائص الرأي العام:
· يلاحظ أن الرأي العام ليس برأي خاص فهو لا يقتص على فرد واحد ورأيه في مسألة تخصه، كأنه يرى شخصه أن يتناول طعامه لأن ميعاد تناوله قد حان، وأن الرأي العام يتصل بالمجتمع ككل وينبع منه ويتعلق بمشكلة ماسة تتعدد بشأنها وجهات النظر.
· الرأي العام يعبر عن موقف مشترك يشترك فيه أو يتفق عليه أغلب أعضاء المجتمع، وبالتالي فإن الرأي لة كان خاصا أي يرتبط بمسألة خاصة ( كتنظيم النسل مثلا) حتى انتشر في المجتمع وتبناه أغلب أفراده، أو على الأقل جزء كبير منهم يصبح رأيا عاما بحكم هذا الانتشار.
· صفة العمومية في إطار الرأي العام لا تتعارض مع احتمال وجود آراء معارضة تخالف الرأي العام، دامت لا تصل في اتساع الاتفاق عليها إلى مستوى الشمول الذي يبلغه الرأي العام.
وفي أي استطلاع للرأي العام بخصوص أي مشكلة وعادة ما تنتهي إلى إدراج فئات الرأي العام في ثلاث فئات:
· فئة " موافق" أي متقبل وبدرجات مختلفة من الموافقة
· فئة " غير موافق" أي معارض أو رافض بدرجات مختلفة من المعارضة، وفئة " لايعلم" وهو من لم يكون رأيا محددا بعد إزاء القرار أو المشكلة.
· ويلاحظ أيضا أن افتراض بعض علماء السياسة أن ظاهرة الرأي العام في المجتمعات المختلفة تعاني من اختلال في حجم الشرائح المعبرة عنها على نحو لا تعرضه المجتمعات المتقدمة بحكم أن المشكلات المرتبطة بالمجتمعات المختلفة كالحمل والامية والخوف من السلطة، هذا الافتراض قابل للمناقشة فصحيح أن هذا الاختلال موجود بالفعل في المجتمعات المختلفة إلا أن ذلك لا يعني التسليم بالضروروة بأن المجتمعات المتقدمة تعبر عن توازن أو توزيع طبيعي لهذه الشرائح، خاصة مع التقدم الهائل في تعينات توجيه وتشكيل الرأي العان لدى وسائل الإعلام في المجتمعات المتقدمة.
· ومن خصائص الرأي العام أيضا السطحية وعدم أو ضعف العمق، وهو ما يراه بعض علماء السياسة في سمات الرأي العام في المجتمعات المتخلفة دون المجتمعات المتقدمة، وهو إطلاق غير صحيح، لأن من عادة معظم الناس عموما أنهم لا يمحنون في جل أوقاتهم إلا اهتماما محدودا بالمسائل السياسية ولا اهتمام دائم لديهم مسائل لا تمس حياتهم مباشرة، ففي الولايات المتحدة تشير معظم استطلاعات الرأي العام إلى أن أكثر من نصف الأمريكيين لا يعرفون ممثليهم في الكونجروس، ويقتصر الاهتمام بمعظم المسائل السياسية على قطاع أو جزء صغير من الجماهير من الحالات عن توزيع شرائح الرأي لدى هذا القطاع المهتم، وعلى ذلك يمكننا القول أن الجماهير في الدول المخنلفة، وبقول آخر يمكن القول بأن الجماهير هي الجماهير سواء في الدول المتقدمة أو المتخلفة بشكل عام.
· ويرتبط بالخاصية السابقة، اختلاف الرأي العام في ارتباطها بجماعات معينة من حيث قوة وكثافة وبشدة الرأي، وبالتالي اختلاف قدرة هذه الجماعات في قدرتها على التأثير في عملية صنع القرار، ففي الولايات المتحدة وغيرها والدول المتقدمة قد لا يكون للجماهير العادية سوى أدنى تأثير في هذه العملية نتيجة اللامبالاة والانقسام مما بصعب تحديد أو تمييز آراء هذه الجماهير ووجهات نظرها، ويختلف الحال عن ذلك مع أقلية مهتمة ويقظة قادرة على بلورة رأيها والتعبير عنه بوضوح والوصول إلى صانعي القرار ، فمثل هذه الأقلية تكون أكثر تأثيرا في الآخرين، ومثال ذلك أن اليهود في الولايات المتحدة وإن لم تتجاوز نسبتهم 3 % من إجمالي السكان، يساند معظمهم بشدة إسرائيل ويملكون وسائل التأثير في الرأي العام عبر وسائل الإعلام أو في الساسة الأمريكيين عبر اللوبي الصهيوني.
· ومن خصائص الرأي العام عموما في أي مجتمع متقدما كان أو متخلفا أنه سريع التغير والتقلب من موقف إلى نقيضه، وقد يعود ذلك إلى اتصافه بالسطحية وعدم العمق مما يجعله ظاهرة قابلة للنقد بسهولة يمينا أويسارا مع تيار الوقائع، كما يرجع ذلك في بعض الأحيان إلى أسباب موضوعية تتعلق بتبني الجماهير وخاصة القطاع اليقظ والمهتم بها إلى سلبيات كثيرة ترتبت على تنفيذ قرار ما كان يحظى من قبل بقدر كبير من التأييد أو على سبيل المثال ساند معظم الأمريكيين عام 1965م موقف ليدرن جونسون لدى تصعيده بشدة مع تزايد الخسائر البشرية الأمريكية في تلك الحرب، ووسائل الإعلام تلعب دورا خطيرا في هذا الإطار، ولا سيما بالنسبة لذلك القطاع الكبير من الرأي العام الذي يوصف بأنه متردد أو لم يقرر بعد.
·
وهنا
لا بد أن ننتبه إلى أن بعض الخصائص السلبية للرأي العام كالسطحية والتقلب التقلب
لا تعني إهمال الرأي العام أو التهوين من شأنه، ففي النظم الشمولية والتي يفيد
منها الرأي العام يعبر عن "رأي عام" باطنا كان أو كامنا بحكم القيود
المفروضة على حرية الرأي والتعبير، رغم ذلك تهتم هذه النظم المفروضة على حرية
الرأي والتعبير، رغم ذلك تهتم هذه النظم بالرأي العام اهتماما كبيرا، وذلك أن
الرأي العام في حالة تعيينه من جانب جماعة أو قيادة معارضة أو اتساع نطاق
الإضطرابات الشعبية العفوية قادر على الإطاحة بأي نظام مهما بلغت قوته وخجته وكفاءة
أجهزته الأمية والقمعية، ومن أمثلة ذلك الثورة الإيرانية والثورة الرومانية ضد
تشاو تشيسكو.
ومن الممكن الإشارة إلى ألمانيا النازية بكل أجهزتها القمعية، كانت الحكومة
النازية تهتم بحجم المساندة العامة للنظام وسياساته، وقد أنشأ شبكة متطورة لاختبار
وقياس ردود فعل الشعب تجاه أي قرار أو سياسة جديدة وتوجيه الدعاية الداخلية لصالح
النزام وجمع معلومات دقيقة عن الحالة المعنوية للشعب.
· ويمر الرأي العام في تبلوره بعدة مراحل، ولكن هذه المراحل ليست متساوية فيما تستغرقه كل منها من وقت أو جهد كما يمكن تصور اقتفاء بعض هذه المراحل في بعض الأحيان أو تكون بعضها في مرحلة واحدة في أحيان أخرى.
ويمكن متابعة مراحل تكوين الرأي العام في سبع مراحل من أهمها المراحل الأربعة الأولى:
·
مرحلة الإدراك:
ويعني إدراك المشكلة، ويبدأ هذا الإدراك في صورة تصور فردي للمشكلة، ويتأثر في
إدراك المشاكل العامة بأكثر من عامل من قبيل:
طبيعة الشخص، وثقافته وتقديره لمصالحه الذاتية والثقافة العلية، والتقاليد
الحضارية للمجتمع، والثقافة السياسية وتوجيهاتها وقيمها ومعاييرها، القيادة
السياسية وكيفية إدراك مشكلتها، وسائل الإعلام الجماهيري، وطريقة عرضها لأبعاد
المشكلة، وما تقدمه من معلومات قد تنطوي على تشويه للحقيقة أو تقديم جزء منها أو
تقديم الحقيقة كاملة.
· مرحلة الصراع: وتعني به الانتقال من إدراك المشكلة كتصور فردي إلى التعبير عن المشكلة في الشكل
ويبدأ الصراع دائما في
الإطار النفسي والعقلي للفرد نتيجة التناقض الذي قد يعاني منه الفرد بين إدراكه
مشكلة مبادئه ومعتقداته أو مصالحه الاقتصادية وغير الاقتصادية ، والفرد العادي
يسعى بطريقة لاشعورية لتكييف موقفه مع موقف الجماعات التي ينتمي إليها، وهذه
الجماعات قد تكون فئوية (النقابات مثلا) أو اجتماعية (كالشارع أو الناجية أو الحي
أو القرية أو المدينة)، وينتهي هذا الصراع الجماعي أ آجلا أو عاجلا إلى تغليب وجهة
نظر معينة داخل الجماعة الاجتماعية باعتبارها معبرة عن هذه الجماعة، ويساعد على
بلورة الصراع الجماعي وجود تنظيمات وأبنية سياسية أو غير سياسية.
قد يتحول الصراع إلى صراع نظامي في حالة وجود أحزاب سياسية فاعلة، حيث تتشكل مختلف
القوى والجماعات المرتبطة بالحزب خلف وجهة نظر واحدة.
· مرحلة البلورة والتركيز: بمعنى بلورة وتركيز وجهات النظر المختلفة في شرائح معدة عن مواقف أكثر تحديدا عقب مرحلة الصراع، ذلك أن الصراع أو المناقشة بين الآراء المختلفة تؤدي إلى إبراز وتحديد المفاهيم الأساسية للمشكلة ( إبعادها وعواملها ونتائجها) وهذا الإيضاح يقضي على التباين الجزبي أو المحدود وبالتالي التقريب بين المواقف والآراء المتشابهة، ويؤدي ذلك كله إلى عملية تركيز في شرائج الرأي الها في شكل ثلاثة مواقف رئيسية، موقف تأييد وموقف معارضة وموقف الحياد واللامبالاة.
· مرحلة الرضا: وهي الانتقال إلى خلق نوع من الوحدة في اتجاهات الرأي العام بصدد مسألة معينة أو جانب معين من هذه المسألة، ورغم أنه بانقضاء المرحلة الثالثة يكون الرأي العام قد أدى وظيفته وأعلن عن مواقف كافة القوى الاجتماعية، ولكن في بعض الأحيان و طبقا لطبيعة المشكلة وأهميتها وعمقها قد تبدأ مرحلة الرضا كما أو
مراحل الاندماج والاستقرار والشمول:
· ويقصد بالاندماج اتجاه الفرد لا شعوريا إلى استيعاب ما اتفقت عليه الجماعة ليصبح ذلك الجزء محل الاتفاق الجماعي ليس مجرد تعبير عن رأي أو وجهة نظر وإنما يرتفع ليصير عنصرا من عناصر النسق العقدي للفرد، بمعنى مبادئ وقيم الفرد التي على أساسها يتحدد سلوكه الفردي ورأيه
· ويقصد بالاستمرار أن تنتهي في الأمد الطويل عليه الرضا والاندماج، وهذه الصورة توصف بالمثالية لأن الرأي العام بطبيعته معقد ويتحدد بخصوص كل مشكلة ويختص باختفائها أو على الأقل بظهور مشكلة أخرى أكثر أهمية.
· ويقصد بالشمول ارتفاع تلك الجزئية من جزيئات الرأي العام (محل الرضا والاندماج) إلى أن تكون سمة من السمات القوية للمجتمع، ككراهية الفرنسين للألمان مثلا، ومن الملاحظ في المجتمعات النامية أن الرأي العام أن قدر له فرصة التعبير عن ذاته ينتهي في أحسن الأحوال منذ مرحلة الرضا بل ويغلب عليه ألا يصل إلى هذه المرحلة، إن لم يختنق ويتحلل خلال مرحلة الصراع.
دور و مقومات الرأي العام
- يؤدي الرأي العام أو يفترض فيه ذلك، دوراً حيوياً في العملية السياسية في النظم الديمقراطية، و لا سيما عن طريق الانتخابات و جماعات المصالح. فالانتخابات ليست مجرد آلية لإختيار الشعب للحكام، و لكنها وسيلة - ضمن وسائل أخرى - لتمكين الرأي العام من آداء وظيفته الحقيقية في الرقابة و الضبط و الحساب أو التأييد. و يسمح وجود جماعات مصالح نشطة بفرض التعبير عن الرأي بمختلف فئاته بشكل واضح أو بالأحرى بشكل أكثر وضوحاً من الانتخابات العامة. ذلك أن هذه الانتخابات تعد وسيلة غير واضحة تماماً في التعبير عن الرأي العام، إذ أنها تسجل "شهادة" يمنحها الناخبون للآداء الكلي لمرشح أو حزب معين و ليس بصدد مسألة أو مشكلة واحدة، و هو ما ينطبق بوجه خاص في نظام الحزبين في الولايات المتحدة و بريطانيا حيث يصوت الناخب لصالح أحد الحزبين الكبيرين دون تقييم أو التزام محدد بمسائل معينة.
دور الرأي العام في النظم غير الديمقراطية
- لا تقتصر أهمية دور الرأي العام على النظم الديمقراطية الغربية منها و غير الغربية، و لكنها تشمل أيضا النظم الأخرى الأقل ديمقراطية، بل إنها كانت تشمل أيضاً النظم الشمولية رغم أن الرأي العام فيها كان يعبر عن "رأي عام كامن أو باطن" بحكم القيود المفروضة على حرية الرأي و التعبير. ذلك أن الرأي العام في حالة تعبئته من جانب جماعة أو قيادة معارضة أو اتساع نطاق الإضرابات الشعبية العفوية قادر على الإطاحة بأي نظام مهما بلغت قوته و حجمه و كفاءة أجهزته الأمنية و القمعية (نموذج الثورة الإيرانية، و نموذج الثورة الرومانية ضد نظام تشاوتشيسكو).
- و من الممكن الإشارة في هذا الخصوص إلى أن ألمانيا النازية (بكل أجهزتها القمعية لإخماد و قهر المعارضين) كانت تعتمد في إثارة الشعور القومي و التأييد الشعبي على فكرة "سيادة ألمانيا على العالم"، و كانت الحكومة النازية تهتم بقياس حجم المساندة العامة للنظام و سياساته. و قد كشفت وثائق الحرب العالمية الثانية عن أن كبار قادة الحزب النازي كانوا قد أنشؤوا شبكة متطورة لإختبار و قياس ردود فعل الشعب إزاء أي قرار أو سياسة جديدة، و لتوجيه الدعاية الداخلية لصالح النظام و جمع معلومات دقيقة عن الحالة المعنوية للشعب. بيد أن الطبيعة القهرية للنظام كانت تحول بين هؤلاء القادة و بين إرسال تقارير حقيقية عن نتائج هذه الدراسات إلى "هتلر" الذي كان قانعاً بتقارير أخرى "وردية" و ليست حقيقية عن حقيقة موقف الرأي العام، مما عرقل أو بالأحرى منع عملية تصحيح السياسات من خلال عملية التغذية المعادة، و لهذا لم يؤثر الرأي العام حقيقة في سياسات النظام.
مقومات الرأي العام
- يمكن النظر إلى مقومات الرأي العام من زاويتين. الأولى تتعلق بالعناصر و المقومات المُشَكِّلة لظاهرة الرأي العام، و الثانية ترتبط بعناصر أو أمور معينة ينبغي توافرها حتى يمكن أن يوجد الرأي العام، على الصعيد الأول، يلاحظ أن ظاهرة الرأي العام ظاهرة مركبة معقدة، بمعنى أنها تتكون من العديد من المقومات و العوامل التي تتفاعل مع بعضها البعض، و بحيث لا يمكن في تفسير هذه الظاهرة الاستناد إلى عامل واحد أو مجموعة واحدة من المقومات.
- يختلف علماء السياسة في تحديد مقومات هذه الظاهرة، و إن كان يمكن القول بأن أبرزها، هي:
· مقومات أولية مرتبطة بالفرد في تحليل هذه الظاهرة، و تضم هذه المجموعة من المقومات كل ما له صلة بالعناصر و الخصائص الفردية سواء الفسيولوجية منها بما في ذلك الخصائص المرتبة بالغدد و السمات العضوية أو الخصائص الشخصية الفردية و لا سيما كيفية تنظيم الفرد لقيمه و معتقداته و بالتالي موضع كل مشكلة من النظام المتدرج المتصاعد من المباديء و المثل و القيم التي تسيطر على الفرد و نظرته أو رأيه في المشكلات. و بهذا المعنى يندرج في إطار هذه المجموعة عوامل عديدة كالجنس و الدين و الأصل العرقي أو اللغوي أو الإجتماعي، كما تشمل الخبرات الذاتية التي كان الفرد قد عاشها بطريق مباشر أو غير مباشر و عانى منها أو انتفع بها. و على سبيل المثال يلاحظ أن الأمريكيين الشبان ممن حاربوا في فييتنام أو احتجوا على هذه الحرب في الستينيات و بداية السبعينات، و رغم أنهم أصبحوا لاحقاً أكثر استقراراً و اعتدالاً في آرائهم، ما زالوا يتصفون بحساسية "معينة" إزاء استخدام القوات الأمريكية فيما وراء البحار. كما يتصف الأكبر سناً ممن عاشوا خبرة الكساد الكبير في الثلاثينات بأنهم أكثر مساندة للتدابير و السياسات بشأن الرفاه الإجتماعي بالمقارنة بالأصغر سناً ممن ولدوا بعد الحرب العالمية الثانية.
· مقومات ثانوية، و يقصد بها المقومات الجماعية المرتبطة بالمجتمع الذي تحدث في إطاره عملية التفاعل و المناقشة كي تنتقل ظاهرة الرأي من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي، أو كي تصبح تعبيراً عن الرأي العام. و تضم هذه المقومات كل ما يرتبط بالخصائص الجغرافية، الديموغرافية، الإجتماعية، و الثقافية للمجتمع و كذلك السمات المميزة للطابق القومي للمجتمع.
- المقومات الأولية في تفاعلها مع المقومات الثانوية تحدد ظاهرة الرأي العام، و لكن هنا كعناصر أخرى يتحدد بها الإعلان عن الرأي و قوة هذا الإعلان و صورته و سرعته. و من هذه العوامل : أدوات تكتيل الرأي كالقيادة و التنظيمات الجماعية السياسية و غير السياسية (الأحزاب و جماعات المصالح)، و خصائص الواقعة أو المشكلة (واقعة عنيفة، متوقعة أم غير متوقعة) و مدى الإهتمام الفردي و الجماعي بهذه الواقعة.
- و من المنظور الثاني تفترض ظاهرة الرأي العام وجود ثلاثة عناصر أساسية، هي المجتمع و المشكلة و المناقشة:
1) المجتمع: يشكل العنصر الأول للرأي العام، فالأخير ما هو إلا تعبير عن وجهة نظر المحتمع إزاء مشكلة ما في وقت معين. و رغم ما سبق ذكره بشأن صعوبة تحديد رأي الجماعة أو المجتمع، إلا أن المبدأ الأساسي في هذا الخصوص يظل مرتبطاً بالأغلبية، سواء كان المقصود بها أغلبية من عبر من أعضاء المجتمع ككل عن رأيه بما في ذلك فئة "من لا يعرف أو من لم يقرر بعد" أو كان المقصود بها من عبروا بوضوح عن رأيهم بالموافقة أو المعارضة بمختلف درجاتها. و كما سبق القول فإن فئة صغيرة نسبياً من المجتمع يتمتع أعضاؤها بتأثير كبير، و قد توصف هذه الفئة "بقادة رأي" أو "جماعة الرأي" و تضم عدد من الأفراد تعنيهم المشكلة محل المناقشة،و تتشكل هذه الجماعة و يتشكل حجمها حسب المشكلة المثارة و نطاقها (مجتمع محلي أو مجتمع قومي)، كما يوجد داخب نفس الجماعة قطاع معين يشارك بدرجة أكبر في تشكيل الرأي العام و التأثير فيه.
2) المشكلة: حتى يوجد الرأي العام لا بد من وجود مشكلة تحظى بالاهتمام العام و يهتم أعضاء المجتمع أو معظمهم بمناقشتها و بطرح وجهات نظر مختلفة بشأنها، مما يبرز الاتفاق و التعارض ليس فقط في المصالح و لكن أيضاً في تصور أو طرح حلول متنوعة لهذه المشكلة و يعني ذلك:
أ- إن الموضوعات محل الإجماع لا توصف بأنها مشكلات يتكون بصددها رأي عام، فالتسليم بوجود الله في مجتمع إسلامي لا يوصف بأنه رأي عام.
ب- إن دليل إثبات صحة وجهة نظر ليس هو الرأي العام، و إنما هو عنصر من عناصر الإقناع بالرأي.
ت- إن الخطأ في نقل الحقيقة "البديهية" أو الوصول إليها لا يمكن أن يوصف بأنه رأي، فلو طلب من شخص أن يجمع ثلاثة و خمسة فأجاب أن المجموع تسعة لا يمكن أن يدافع عن ذلك بأنه رأي. و يلاحظ أن وسائل الإعلام الجماهيري تلعب دوراً مهماً بصدد عنصر المشكلة الموضوع، فقد تثير موضوعاً ما لم يكن قد سبق أن شغل اهتمام المجتمع من قبل و تجعل منه مشكلة عامة يثور حولها النقاش و الجدل في أوساط المجتمع (كقضية السلاح النووي الإسرائيلي و مخاطره). و من الضروري التأكيد في هذه الخصوص أن وسائل الإعلام لا تخلق المشكلة من العدم، و إنما يكون للمشكلة قبل ذلك أصل أو وجود و إن لم يكن لأغلبية المجتمع الإدراك الكافي لوجودها و الشعور و الوعي بها إلى درجة تثير حولها النقاش، و بهذا يصبح دور وسائل الإعلام نقل المشكلة من دوائر الإهتمام أو الإهتمام المحدود إلى بؤرة إهتمام المجتمع.
3) المناقشة: يتطلب وجود الرأي العام إقرار حق المواطن في التفكير و تكوين الرأي و المناقشة و إعلان الرأي. و يعني ذلك أن الرأي العام لكي يوجد و يؤدي وظيفة حقيقية يفترض لإقرار الدولة و نظامها السياسي بما يلي:
أ- حق المواطن في تكوين رأيه بمختلف الوسائل دون أن يفرض عليه رأي معين أو مصدر معين من مصادر المعلومات.
ب- حق المواطن في الإعلان عن رأيه دون خوف من عقاب أو جزاء يمنعه من ذلك الإعلان. بطبيعة الحال من حق الدولة أن تنظم هذا الحق، و لكن ليس لها أن تمنع ممارسة هذا الحق.
ت- حق المواطن في المناقشة، إذ أن الإعلان عن الرأي و تكوين الرأي العام لا يتم إلا من خلال المناقشة كتفاعل بين وجهات نظر مختلفة بشأن المشكلة المثارة. و يتوقف نوع و طبيعة الرأي العام على مدى حرية و إمكانية المناقشة.
- مراحل تكوين و تطور الرأي العام
- يقتضي التعرف على كيفية تبلور ظاهرة الرأي العام و انتقالها من سلوك فردي إلى سلوك جماعي، التمييز بين مراحل معينة لتطور هذه الظاهرة. و قبل بحث هذه المراحل، ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار أن هذه المراحل ليست متساوية في ما تستغرقه كل منها من وقت أو جهد، كما يمكن تصور اختفاء بعض هذه المراحل في بعض التطبيقات أو تكتل بعضها الآخر في مرحلة واحدة تبعا لطبيعة كل نموذج من نماذج التطبيق.
يمكن متابعة مراحل تكوين و تطور هذه الظاهرة في سبع مراحل، من أهمها المراحل الأربع الأولى
1) مرحلة الإدراك : يقصد "بالإدراك" تصور أو رؤية أو فهم مسألة أو ظاهرة ما. و الرأي العام، كما سبق القول، ما هو إلا وجهات نظر مختلفة بخصوص مشكلة معينة، و لهذا يشكل إدراك المشكلة المرحلة الأولى في تكوين الرأي العام. و يبدأ هذا الإدراك في صورة تصور فردي للمشكلة، و يتأثر الفرد في إدراكه للمشاكل العامة بأكثر من عامل من قبيل:
أ- طبيعة شخصية الفرد و ثقافته، فالمباديء و المفاهيم التي تترسب لدى الفرد منذ نشأته في مجتمع سياسي معين و حتى تكامل شخصيته تؤثر في كيفية إدراكه و فهمه للمشكلات العامة، كما أن تقدير الفرد لمصالحه يؤثر في هذا الإدراك
ب- الثقافة العامة و التقاليد الحضارية للمجتمع، و كذا الثقافة السياسية و توجهاتها و قيمها و معاييرها، تئثر بدورها في إدراك المواطن للمشكلات العامة بدرجة أو بأخرى. و على سبيل المثال فإن إدراك المصري العادي لأي مشكلة تثور في العلاقات مع إسرائيل يرتبط بدرجة أو بأخرى بخبرات تاريخية عربية إسلامية في التعامل مع اليهود.
ت- القيادة السياسية في إدراكها لمشكلة ما على نحو معين، تؤثر بدرجة أو بأخرى في إدراك الفرد العادي لهذه المشكلة. و لا ينطبق ذلك فحسب على حالة القيادة "الكاريزمية" في ظل الارتباط "العاطفي" و الوجداني بينها و بين المواطن العادي،و لكنه ينطبق أيضاً و لو بدرجة أقل على الأنماط الأخرى للقيادات، خصوصا في ظل دور وسائل الإعلام الجماهيري في نشر و "ترويج" عناصر إدراك القيادة لمشكلة ما.
ث- وسائل الإعلام الجماهيري تؤثر في إدراك الفرد للمشكلة من حيث أبعادها و طبيعتها، من خلال دورها في إثارة الإهتمام بالمشكلة و تقديم معلومات معينة عنها، و قد تنطوي هذه المعلومات عن "تشويه" للحقيقة أو تقديم جزء منها بإعتباره كل الحقيقة أو نقل الحقيقة كاملة.
2) مرحلة الصراع: تعني هذه المرحلة الانتقال المتتالي من إدراك المشكلة كتصور فردي ذاتي إلى التعبير عن المشكلة في شكل موقف فردي و لكنه يرتبط بالقوى الإجتماعية. و عادة ما يبدأ هذا الصراع فرديا، ثم يتحول إلى صراع فئوي جماعي، و قد يتحول إلى صراع نظامي:
أ- يبدأ الصراع فردياً أو ذاتياً نتيجة التناقض الذي يعاني منه الفرد بين إدراكه لمشكلة ما بأبعادها المختلفة و بين مبادئه و معتقداته و مصالحه الإقتصادية و غير الإقتصادية، و قد ينتهي هذا الصراع إما بموقف واضح تأييداً أو معارضةً أو بموقف متردد ( كموقف طبيب يملك مستشفى للولادة إزاء مشكلة تنظيم الأسرة، حيث ثقافته و تكوينه يحملانه على تأييد هذه المسألة، و لكن مصالحه الإقتصادية تدفعه إلى رفضها).
ب- ينتقل الصراع الذاتي في مرحلة لاحقة ليرتبط بالقوى الإجتماعية. ذلك أن المجتمع ينقسم إلى عدة قوى و جماعات لها اهتمامات و مصالح متنوعة، و المواطن العادي يسعى بطريقة لا شعورية لتكييف موقفه و موقف الجماعات التي ينتمي إليها، حيث إن هذه الجماعات لدى إثارة مشكلة ما تتبنى موقفا إزاءها يتفق و تقديرها لمصالحها. و هذه المصالح ليست بالضرورة طبقية، فقد تكون فئوية (كمصالح أعضاء نقابة معينة ينتمون إلى أصول طبقية مختلفة) و قد تكون مصالح دائمة أو مؤقتة. و ينتهي هذا الصراع الجماعي إن آجلاً أو عاجلاً إلى تغليب وجهة نظر معينة داخل الجماعة الإجتماعية (كقوة أو طبقة أو فئة) بإعتبارها معبرة عن هذه الجماعة. و يساعد على بلورة الصراع الجماعي وجود تنظيمات و أبنية سياسية أو غير سياسية كقنوات التعبير عن الآراء و المصالح كالأحزاب السياسية و النقابات المهنية و الجمعيات الثقافية و الأندية الخاصة و غيرها.
ت- قد يتحول الصراع إلى صراع نظامي في حالة وجود أحزاب سياسية، حيث تتكتل مختلف القوى و الجماعات المرتبطة بالحزب خلف وجهة نظر واحدة و محددة يعبر عنها ذلك الحزب، و يدافع عنها بكافة الوسائل خصوصاً عن طريق صحيفته أو ما يسمى "بصحافة الرأي" أي الإعلام المكتوب الذي يدين بالولاء للحزب و يعكس أفكاره و توجهاته و يدافع عن وجهات نظره.
3) مرحلة البلورة و التركيز: تأتي مرحلة بلورة و تركيز وجهات النظر المختلفة في شرائح معبرة عن مواقف أكثر تحديدا عقب مرحلة الصراع سواء اقتصر هذا الصراع على الصورة الفئوية أو تطور إلى صورة نظامية ذلك أن المناقشة أو الصراع الفكري بين الآراء المختلفة يؤدي إلى إبراز و توضيح و تحديد المفاهيم الأساسية للمشكلة (أبعادها و عواملها و نتائجها) ، و هذا الإيضاح الفكري يؤدي بدوره إلى القضاء على التباين الجزئي أو المحدود و بالتالي التقريب بين المواقف و الآراء المتشابهة و القضاء على المواقف المتعصبة أو المتطرفة و يؤدي ذلك كله إلى عملية تركيز في شرائح الرأي العام في شكل ثلاثة مواقف رئيسية مع خلاف في درجة كل موقف منها: موقف تأييد، موقف المعارضة، موقف الحياد و اللامبالاة و عدم الإهتمام أو عدم تقرير رأي ما.
4) مرحلة الرضا: بإنقضاء المرحلة الثالثة، يكون الرأي العام في معناه الحقيقي قد أدى وظيفته و اختتم اعملية الربط بين السلوك الفردي و المواقف الجماعية و أعلن عن مواقف مختلف القوى الإجتماعية. و لكن في بعض الأحيان و طبقا لطبيعة المشكلة و مدى أهميتها و عمقها، قد تبدأ مرحلة أخرى لنقل الرأي العام السابق تحديده و إعلانه في مرحلة التركيز إلى صورة جديدة من صور السلوك الجماعي في ما يعرف بمرحلة الرضا. ذلك أن مرحلة التركيز و ما يواكبها من مناقشة تؤدي إلى وضوح نقاط معينة بخصوص المشكلة، تتفق بشأنها كافة فئات و شرائح الرأي العام، و قد يؤدي هذا إلى خلق نوع من الوحدة في اتجاهات الرأي العام بصدد مسألة معينة أو جانب معين من هذه المسألة و على سبيل المثال يوجد قدر يعتد به من الاتفاق بين شرائح الرأي العام المصري، و كذا لدى معظم الأوساط الرسمية، حول ضرورة أن لا تكون الاهتمامات بالمشروعات و الترتيبات الإقليمية الجديدة ( كالشرق أوسطية، و المتوسطية ) على حساب النظام الإقليمي العربي و ضرورة تطوير هذا النظام و تجديده.
مراحل الاندماج و الاستقرار و الشمول: تعقب مرحلة الرضا مراحل متتابعة تختلف من مشكلة إلى أخرى و من مجتمع إلى آخر و يلاحظ في معظم المجتمعات النامية أن الرأي العام إن قدرت له فرصة التعبير عن ذاته ينتهي في أحسن الأحوال عند مرحلة الرضا، بل و يغلب عليه أن لا يصل إلى هذه المرحلة، إن لم يتحلل و يختفي خلال مرحلة الصراع. و تشمل هذه المراحل التالية لمرحلة الرضا:
5) مرحلة الإندماج: يقصد بها إتجاه الفرد لا شعورياً إلى استيعاب ما اتفقت عليه الجماعة ليصبح ذلك الجزء محل الاتفاق الجماعي ليس مجرد تعبير عن رأي أو وجهة نظر، و إنما يرتفع ليصير عنصرا من عناصر النسق العقيدي للفرد (بمعنى مباديء و قيم ومجتمعات الفرد التي على أساسها يتحدد سلوكه الفردي و رأيه)، و يحدث بذلك نوع من التوفيق بين الشخصية الفردية و ما استقرت عليه الجماعة أو بعبارة أخرى السلوك الجماعي.
6) مرحلة الاستقرار: تعبر هذه المرحلة عن نمط مثالي و لكن من الممكن الاقتراب منها بدرجة أو بأخرى. و يقصد بها أن تنتهي في الأمد الطويل عمليتا الرضا و الاندماج إلى خلق نوع من الترابط بين مختلف قوى المجتمع و جماعاته الإجتماعية و الاقتصادية و الحاكمة و المحكومة، بحيث يتقبل و يعمل الجميع بشكل متجانس و متناسق وفقا للرأي محل الرضا و الاندماج باعتباره مظهرا من مظاهر التعبير عن المجتمع. و هذه الصورة توصف بالمثالية لأن الرأي العام بطبيعته معقد و يتحدد بخصوص كل مشكلة و يختفي بإختفائها أو على الأقل بظهور مشكلة أخرى أكثر أهمية، و إن كان الاختفاء لا يمكن أن يكون كليا لأن الرأي نوع من الخبرة، و الخبرة جزء من التاريخ و الأخير مكون أساسي لثقافة المجتمع.
7) الشمول: رغم أن ظاهرة الرأي العام تفنى و تختفي في لحظة معينة ، باعتبارها وجهة نظر عامة إزاء مشكلة عامة في وقت معين إلا أن هذا الفناء لا يمنع قدرة هذه الظاهرة أن تكون مصدرا لظواهر أخرى. ففي مرحلة الرضا يصبح الرأي العام مصدرا لم يكن تسميته "بالإجماع" أو "بالإرادة العامة" ، و في مرحلة الاندماج يصير مصدرا للسلوك الفردي، و في مرحلة الشمول هذه يصبح مصدرا للطابع القومي ( الصفات و الخصائص السلوكية التي يعبر عنها المواطن العادي نتيجة لانتمائه إلى مجتمع معين). و يقصد بالشمول ارتفاع تلك الجزئية من جزئيات الرأي العام (محل الرضا و الاندماج) لترتبط بالمجتمع السياسي القومي كحقيقة كلية تعبر عن إحدى سماته. و مثال ذلك أن كراهية الشعب الألماني من جانب الشعب الفرنسي تراكمت من خلال خبرات متعددة من الإعتداءات الألمانية ابتداءا من الحروب السبعينية حتى الحرب العالمية الثانية، و بالتالي فإن هذه الكراهية رأياً عاماً تحول ليصير إحدى سمات الطابع القومي الفرنسي. و ينطبق ذلك أيضا على الطابع القومي لمصر أو لأي بلد عربي آخر بصدد الإسرائيلين و لا سيما البلدان العربية التي عانت و تعاني من اعتداءات الآخرين.
Enter your text here ...
تعليقات