بسم الله الرحمن الرحيم
الدعوة السلفية وخيانة الفكر الإسلامي !! (2)
وحين يقول برهامي : إن 90% ممن قتلوا في رابعة كانوا سلفيين، فهذا يجعل جريمته بتبرير قتلهم، فضلا عن الوقوف بجانب الانقلاب الذي قتلهم أكبر بكثير من المنقلبين الذين باشروا قتلهم، لاسيما أنه كان جزءا لا يتجزأ من خمس جولات انتخابية، كانت كلها ضد مبررات الانقلاب، بل تفضحه على رؤوس الأشهاد !!
من هنا يصعب القول أن لما جرى أي مبرر، خارج سياق ما تفرضه استحقاقات ممولي الخارج الذين يعرفهم الجميع، واستحقاقات العلاقة مع الأجهزة الأمنية، والتي يُضاف إليها - بل ربما يتقدم عليها - تلك الروح الانتهازية الناجمة عن الشعور بإمكانية لعب دور بديل الإخوان، بعد استهدافهم من قبل سلطات الانقلاب، وهذا - في الحقيقة - قصر نظر غير مسبوق قطعاً، لأن من رفض الإخوان بخطابهم المنفتح إلى حد ما، لن يقبل بحزب أكثر تشددا، أقله في الخطاب المتعلق بالشأن الاجتماعي، ولا يمكن لمن رفضوا الإخوان أن يمنحوا الحزب سوى "كوتا" محدودة ما تلبث أن تتراجع بالتدريج ليحل الاستهداف مكان المحاباة التي فرضها موقف الحزب المساند للانقلاب، وهو ما وقع بالفعل !!
ومن يقرأ تفاصيل الحالة المؤيدة للانقلاب من الأطراف الأخرى، يدرك أنها لن تقبل بالحزب ولا توجهاته إلا في سياق مرحلي لن يلبث إلا أن ينتهي بمرور الوقت، وهو أيضاً ما وقع بالفعل، اللهم إلا إذا عاد إلى ما كان عليه قبل الثورة، أعني التركيز على العمل الدعوي بعيداً عن السياسي مع خطاب "الطاعة لولاة الأمر" في الجملة، وهيهات أن يحدث لأن جمهور الدعوة ذهب ولن يعود، بعد سقوطهم الشنيع وفشلهم الذريع !!
وحتى إن حدث هذا فلن يكون مقبولاً من جهة الحالة المؤيدة للإنقلاب، لأنه يمثل تهديدا للرؤية الاجتماعية التي يؤمن بها الانقلابيون وداعموهم، وإنما هي المرحلية التي تحكم سلوك الانقلابيين، وقد اتضح هذا بجلاء في التسريبات التي خرجت لقيادات علمانية يزعمون أن مصر علمانية بالفطرة، ويتأففون كثيراً من حزب النور ويصفونه بالعاهرة التي تميل مع من يدفع أكثر، كما أن كثيراً من تجليات خطاب الفئات الداعمة للإنقلاب ما تلبث أن تفضح حقيقتها بكل وضوح، إذ يجري وضع السلفيين إلى جانب الإخوان في ذلك الخطاب وإن لم يذكر حزب النور بالاسم، ولعل السبب الأبرز في ذلك هو شعور تلك الفئات بأن الغالبية من السلفيين باتت أقرب سياسيا وعاطفياً للإخوان ورافضي الانقلاب منها إلى حزب النور !!
وفي هذا السياق يرى القيادي السابق في حزب النور سامح الجزار أن الغالبية العظمى من التيار السلفي تقف خلف جماعة الإخوان سياسيا، عبر تحالف دعم الشرعية، فضلا عن عدد لا بأس به من أعضاء الحزب نفسه والدعوة السلفية نفسها، ويعتبر الجزار أن البقية الباقية من التيار السلفي التابعة لحزب "النور" عددهم قليل، ولا سيما بعد المواقف المتتالية السيئة للحزب خلال الفترة الماضية .
والحال أن أي حزب سياسي لا يتحرك بعضلاته الذاتية، وإنما بما يتمتع به من شعبية في أوساط الجماهير، ولا يمكن القول - والحالة هذه - إن تلك الجماهير يمكن أن تقتنع بحزبٍ مارس هذا المستوى من الانتهازية السياسية، التي تجلت في عدد كبير من المواقف، لعل أبرزها قصة الدستور الجديد الذي روّجوا له بحماسة واضحة، وذلك رغم شطبه المادة التي وضعها الإخوان في الدستور السابق من أجل إرضاء حزب النور، رغم عدم قناعتهم بضرورتها !!
واللافت في هذه القصة برمتها، على صعيد حزب النور أو قيادات ما كان يسمى بالدعوة السلفية، هو أن النصوص التي تستخدم في التبرير تبدو متوفرة في الموقف ونقيضه على السواء !
فالموقف السابق من دستور 2012 أو ما يعرف بـ"دستور الإخوان" كانت له مبرراته الشرعية عندهم، والموقف الجديد من دستور الإنقلاب والمناقض تماماً للموقف السابق قُدمت له كذلك مبرراته "الشرعية" !
فالمعركة حامية الوطيس والضجيج الصاخب في "دستور الإخوان" حول المادة الثانية من الدستور وكونها "خط أحمر" لا يجوز المساس به حتى صيغت المادة 219 التي تفسر المادة الثانية وتُمعِن في حمايتها مما عدُّوه في حزب النور نصراً للشريعة ونجاحاً للحزب، يقابله تماما التساهل المقيت والصمت المخزي إزاء إلغاء المادة 219 وكثير من المواد الحافظة للأخلاق والحياة الإسلامية في دستور الإنقلاب .
بل قام عضو الحزب في "لجنة الخمسين" التي وضعت دستور الإنقلاب حين انتهاء عملها وشكر اللجنة على إقرار الشريعة وخدمة الدين !!
في حين أن الواضح البين أنها خاصمت الشريعة وحاربت الملة، بل اعتبر الحزب أيضاً أن هذا نصراً للشريعة ونجاحاً للحزب، وتوفرت التبريرات لهذا كذلك، الأمر الذي يفضح السياسة الميكيافيلية الصارخة للحزب وقياداته السلفية، ويرسخ في الذهنية الشعبية ألا فارق بالمرة بين الإسلاميين وغيرهم من صنوف الكفرة والأحزاب المارقة في اللعبة السياسية، من استهداف البرجماتية النفعية وسلوك الميكيافلية النفاقية، وأن الجميع غالباً ما يستخدم الدين لخدمة السياسة أكثر مما يحدث العكس، مما لا تخفى خطورته الشديدة على الإسلام وأهله وإعلاء الكفر وأهله !!
على أي حال، وبعيدا عن هذا الاستخدام المبتذل للنصوص الشرعية في تبرير ما لا يبرر، فإن الوعي الجمعي للناس لا يقبل مثل هذه التحولات المفاجئة، ولا يمكن أن يتسامح مع الانتهازية السياسية والنفاق الظاهر، مما يجعل مقترفيها خاسرين، على الصعيد الشعبي فضلاً عن الخسارة الفادحة على الصعيد الشرعي في الدنيا والآخرة، فالأمة تنحاز للحق كما تراه وتعرفه، حتى وإن كان مغلوبا في معركة سياسة أو عسكرية .
قبل نحو ثمانية أعوام أحرز حزب النور - بوصفه ممثلاً للقاعدة السلفية الكبيرة في مصر - نصرًا ساحقًا في انتخابات 2011، وعُدَّ ذلك إحدى أكبر مفاجآت الحياة السياسية المصرية في تاريخها، ثم إن المشهد قد تغير تمامًا بل وانقلب رأساً على عقب خلال تلك السنوات، والقاعدة السياسية السارية على هذه الحالة هي أنه عادة لا تنقلب نتائج حزب من النقيض إلى النقيض إلا بحدوث أحد أمرين أو كليهما، إما وجود ظروف استثنائية أعطته زخمًا خارج قواعده في لحظة سياسية معينة ثم عاد لقواعده بعدها، أو أن يكون الحزب لأسباب ما قد فقد قاعدته الأصلية نفسها، فإذا إجتمع الأمران كان ذلك أدعى ليكون الإختلاف في النتيجة أكبر وأفدح وهو ما كان فعلاً .
فكانت إنتخابات 2011 أول إنتخابات بعد الخروج من القمقم السياسي، يتاح للتيار الإسلامي فيها أن يتحرك بحرية، وكانت قطاعات شعبية كثيرة متعطشة لإعطاء التيار الإسلامي السياسي فرصته هذه المرة، ولما كانت المفاضلة بين أظهر حزبين سياسيين لهذا التيار وهما (الحرية والعدالة) و(النور) كان من الطبيعي أن تقتسم الحصيلة الشعبية بينهما خاصة أن حزب (البناء والتنمية) الذراع السياسي للجماعة الإسلامية ما كان له أن يحصل على الكثير من الأصوات خارج قواعده في أسيوط، وذلك لقلة الدعاية من جهة، وكذلك للهواجس الشعبية النفسية حوله من جهةٍ أخرى .
وأما حزب (الوسط) فبدا نخبويًا وضعيف التواصل شعبياً، فكان إقتسام الأصوات بين الحزبين الكبيرين في ذلك الوقت (الحرية والعدالة) و(النور) تلقائياً، نظرًا لأن الحماسة الشعبية آنذاك كانت بالتصويت للإسلاميين باعتبارهم (بتوع ربنا)، فكان أن ذهب الكثير من الأصوات لحزب النور الذين هم أظهر في السمت والهدي الظاهري الإسلامي مثل (اللحية) و(الزي القصير) فهم (بتوع ربنا أكتر) !، وهم الذين (ليس لهم في لف ودوران الإخوان) !!، و(عندهم الشريعة شريعة) ... إلى آخر تلك الأفكار الشعبية البسيطة والساذجة .
كذلك كان للمساجد ذات الخطباء السلفيين، دور كبير في التأثير على الكتل الشعبية والقريحة التصويتية، بما تلا في ترتيب الفوز حزب الحرية والعدالة صاحب الخبرة السياسية الطويلة، والحراك التنظيمي الفعال، والماكينة الإنتخابية الهائلة، التي كثيراً ما كانت تقهر الحزب الوطني الحاكم لمراتٍ عديدة، ولولا القمع والتزوير لسحقته .
كان لهذا كله دخل كبير في حصول حزب النور على تلك النتائج المذهلة عام 2011، رغم حداثة عمره وافتقاره لتنظيمية الإخوان، وهكذا إجتمع لحزب النور شبه إجماع من قواعد التيار السلفي وأضيف إليه ظهير شعبي ضخم جدًا متعاطف وداعم (لبتوع ربنا أكتر) .
ثم مرَّت مسيرة الحزب بعدة منعطفات خلال السنوات الست الماضية أوصلته ليس فقط لفقدان كل ظهير خارج القواعد السلفية، بل أفقدته الغالبية الساحقة من قواعده السلفية، بل فقد معظم أعضائه ولم يبق له إلا طائفة منتفعة حتى الثمالة، يغلب على الظن أن لو أوقفوا على الجمر ما رجعوا عن غيهم، وبالتالي فقد الحزب كل فرصة له وأصبحت النتيجة التي وصل إليها في انتخابات 2015 منطقية جداً، وأي نتيجة غيرها كانت ستصبح - بالنسبة للعاقل على الأقل - في عداد المفاجآت الصارخة، وهذه المنعطفات كالتالي :
وحدث على إثر ذلك إنشقاق في الحزب فخرج منه حزب (الوطن)، كما أسس حازم أبو اسماعيل حزب (الراية)، فلم يعد حزب النور بصفة عملية الممثل الوحيد - بل ولا الرئيسي - للدعوة السلفية في الحياة السياسية، وهكذا شهد هذان المنعطفان فقدانه لمعظم الزخم المتعاطف خارج قواعده ومعظم المنتمين لقواعده السلفية .
3- مفارقة حزب النور لغالب التيار الإسلامي - إن لم يكن كله - في اختيار رئيس للبلاد، فحينما استقر رأي كل التيار الإسلامي أو جله على اختيار الدكتور مرسي فارقهم حزب النور باختيار عبد المنعم أبي الفتوح حيث لا يُنتظر في الظاهر إلا تفتيت أصوات التيار الإسلامي لتكون النتيجة لصالح خصومه من المرشحين غالباً، إلا أن الله غالب على أمره فكانت الإعادة بين الدكتور مرسي والفريق شفيق !! .
4 - تأييد حزب النور للإنقلاب على الشرعية وحضور مندوبه مجلس الإنقلاب وإسقاط الرئيس الشرعي المنتخب المنتمي للتيار الإسلامي وإصطفافه في ذات الصف الذي تصطف فيه الكنيسة وغلاة العلمانيين ثم تأييده - أو على الأقل عدم معارضته - لجميع الإجراءات القمعية من قتل الآلاف واعتقال عشرات الألوف وإصابة مئات الألوف ومطاردة عشرات الألوف وانتهاك الأعراض وقهر الملايين من أسر أولئك وغير ذلك من الإجراءات التي اتخذت ضد شباب التيارات الإسلامية من التوجهات المختلفة وغيرهم من أحرار الوطن، ومما لا شك فيه أن هذا قد زاد الشروخ في قواعده نفسها وأخرج منها كثيرًا من المنتمين إليه .
5 – تأييد حزب النور للدستور الجديد وهي الطامة التي سحبت الكثير مما تبقى من قواعده السلفية، لأنه بنى الكثير من دعاياته على موقفه في دستور 2012 وكيف أنه صاحب المادة 219 الشهيرة التي تؤصل لتطبيق الشريعة، فإذا هو يتخلى عنها وعن الكثير غيرها في الدستور الجديد !!!
فشاءت إرادة الله أن تكون دعايته المكثفة وثناؤه على نفسه في 2012 وبالًا عليه وحجة بالغة في 2014 .
وغير ذلك من المنعطفات الكثيرة وإن كان ما ذُكر هو أهمها، وعلى هذا لم تزده المواقف والمنعطفات إلا وهنًا على وهن، فكل منعطف يقضم منه قطعة وأصبح دومًا في نقصان بلا فرص للزيادة، حتى إن مؤيدي 3 يوليو ظلوا جميعًا ينظرون إليه بشك وريبة أو بنفور رغم إصطفافه معهم وبدا دومًا غريبًا في الصورة ! .
وقد وقع حزب النور في عدة تناقضات عميقة أثارت الشك والريبة منذ تأسيسه، فقد قدّم نفسه منذ البداية على أنه حامي حمى الشريعة الإسلامية، والمتحدث الرسمي باسم أهل السنة والجماعة، والوكيل الحصري للفتوى والحلال والحرام على منهج النبوة بفهم السلف الصالح .
والمتابع لحزب النور منذ مشهد سقوط مبارك في 11 فبراير وحتى خسارته الميدانية المدوية الأخيرة في برلمان الإنقلاب 2015، في أول اختبار حقيقي لمدى شعبية الحزب بعد مشاركته في مشهد الانقلاب على أول تجربة ديمقراطية مصرية في 3 يوليه 2013، يلحظ صعوداً وهبوطاً وتناقضاً وإشكالية في المواقف ومؤشرات النزاهة والشفافية !!
ومن هذه التناقضات والإشكاليات ما يلي :
** مناوأته لجماعة الاخوان المسلمين والوقوف منها في موقع الخصم والمنافس الأوحد لها على قلوب الاسلاميين ومن ثم ثقة الأغلبية، في محاولة من الحزب الذي يمثل التيار السلفي لتثبيت دعوى أنه الأحق والأجدر بثقة الجماهير بدعوى أنه الأحرص على قضايا الشريعة والمُؤتمن على العقيدة أكثر من الاخوان المفرطين في جانب الدين والعقيدة لحساب مصالحهم السياسية الدنيوية الضيقة (أوهكذا يتم تصدير هذه الفكرة للعوام)، وهذا بدلاً من الإئتلاف والإصطفاف معهم على الهدف الواحد والمسلك المتقارب، وهذه تُعد أهم اشكالية تلخص أزمة الحزب الرئيسية .
** قدم حزب النور تنازلات في اطار مهرجان العري السياسي الذي ارتضاه لنفسه حتى صار عارياً تماماً ولم يعد يجد ما يستر عوراته بعد أن خلع كل ملابسه تفادياً لغضب السلطة وحرصاً على رضاها، أو ربما لأداء دور مرسوم له قد تم تأسيسه من أجله، ولعل أبرز تلك التنازلات التي كانت تشكل في السابق أهم الثوابت التي لا يمكن المساس بها بحالٍ من الأحوال، قضية الشريعة والمادة الثانية من الدستور واصرارهم على المادة 219 المفسرة للشريعة في دستور 2012 والتي اعتبروا أن دونها الرقاب، ثم ما لبثوا أن تنازلوا عنها نظراً لظروف البلاد بعد انقلاب 3 يوليه على حد زعمهم .
** وكذا الأمر بالنسبة لقضيتي التشيع والضباط الملتحين التي لطالما صدّعوا بهما الرؤوس بغرض احراج الرئيس مرسي واظهاره بمظهر العاجز الذي يتنكر لعقيدته ويخذل سنة نبيه، إلى حد موافقة الحزب على انشاء حزب للشيعة وللملحدين أيضاً بعد 30 يونيه طالما التزمت تلك الأحزاب بالقانون والدستور، وطالما أنها لم تُمارس فكراً يُخالف عقيدة المصريين، ولا أدري كيف لا يخالف الملحد عقيدة المصريين الإسلامية وهو لا يعترف بالعقيدة ولا الدين أصلاً ؟! .
** وقد كانت قضية تهنئة الأقباط بأعيادهم أحد أهم الاشكاليات الخلافية العميقة بين حزب النور والتيار السلفي مع جماعة الاخوان، لا سيما إبان حكم الرئيس مرسي، لكن سرعان ما تغيرت بعد 3 يوليه ولم نسمع تعليقاً لأيٍّ من قيادات الحزب أو الدعوة السلفية الداعمة له على زيارة المنقلب لكاتدرائية العباسية بنفسه (على خلاف الرئيس مرسي الذي أرسل مندوباً له وقامت الدنيا وقتها ولم تقعد من جانب بعض قيادات الحزب وسلفية اسكندرية أمثال ياسر برهامي ويونس مخيون وعبد المنعم الشحات وغيرهم تشكيكاً وطعناً في عقيدة الاخوان ورئيسهم) ولكن سرعان ما تبدل الأمر على النقيض تماماً بعد 30 يونيه بترشيح الحزب أقباطاً على قوائمه خلافاً لقناعاته ومواقفه الحادة السابقة القائمة على تأصيل شرعي فيما يتعلق بالدخول في تحالفات انتخابية مع العلمانيين والأقباط، ثم توافدت قيادات الحزب على تهنئة النصارى في كنائسهم واستقبالهم لبطريرك الكرازة في بعض المحافظات كمطروح مثلا، ولازالت ابتسامة برهامي العريضة من الأذن للأذن وكأنها تسع المشرقين مع أحد القساوسة عالقة بالأذهان تشهد لهذا التناقض الصارخ في مواقف الحزب والدعوة السلفية على السواء .
** ومن ضمن ما قدم حزب النور من تنازلات أيضاً قضية السلام الوطني، فمن معاداة السلام الوطني أثناء أغلبية الاخوان البرلمانية عام 2012 بغرض إحراجهم، إلى الترحيب به والوقوف احتراماً وإجلالاً أثناء حفل افتتاح تفريعة قناة السويس في وجود المنقلب، ومما زاد الطين بِلة تبريرهم الذي لا يُفهم منه سوى مناكفة الاخوان والكيد لهم وحسب، كما في تعليق رئيس الحزب يونس مخيون على الأمر، بأنهم رفضوا ذلك في السابق لعدم مشاركة الاخوان .
** تلك التناقضات فضلاً عن قائمة التنازلات التي قدمها الحزب السلفي، تُحوِّل بعض الظنون إلى حقائق تعززها الوقائع على الأرض، بأن الحزب صنيعة أمنية بامتياز، تم تأسيسه خصيصاً لمناكفة جماعة الاخوان المسلمين والحد من تقدمها، والخصم من شعبيتها ورصيدها في الشارع، عن طريق الدخول في قضايا جدلية خلافية فرعية، بغرض تعويق أي مسار للأمام، وإلاّ فبم نفسر هذه الحالة من رحابة الصدر والمرونة بشكل كبير وبلع "الزلط" في تفاعل الحزب وردِّه على إساءات وتجاوزات الليبراليين وأتباع السلطة بحق الحزب وقياداته، في مقابل تمني الغلط والعنف الكلامي وشراسة الرد بالهجوم ضد كل من ينتسب للاخوان المسلمين، وكأن قضية الحزب المركزية هي الاخوان وليست شيئاً آخر ! .
** وحيث أن الاخوان الآن خارج السلطة بين قتيل وسجين ومُطارد، يصبح وجود حزب النور الآن لا محل له من الاعراب لا سيما بعد أداء الدور المرسوم له الأمر الذي يفسر تزايد وتيرة الهجوم على الحزب من قبل إعلام السلطة في الآونة الأخيرة لا سيما مع دعوات قضائية موجهة بحله لأنه قائم على أساس ديني، فضلاً عن الأقلام العلمانية التي تستهدف رأس حزب النور في الصحافة، ربما بتوجيه وترتيب مع السلطة إيذاناً بنهاية الحزب سياسياً .
تكمن أزمة حزب النور الحقيقية الآن أنه سقط أخلاقياً في أعين العدو والحبيب على حدٍ سواء، فشريك الأمس المنقَلَب عليه صار خصم اليوم، متمثلاً في جماعة الاخوان المسلمين والتيار الإسلامي عموماً، بمن فيهم قطاع ليس بالقليل من التيار السلفي الواسع الذي كان يمثل القاعدة الرئيسية للحزب، فانفضوا عنه خصوصاً مع توالي سقوطه ويعتبرونه في بئر الخيانة، ونفس الشيء مع حليف الأمس واليوم من السلطة وبعض النخب العلمانية، فأصبح الحزب كالجمل الأجرب يتبرأ منه الجميع، ولا أحد يريد الاقتراب منه مخافة العدوى، ولم يعد حزب النور محسوباً على التيار الإسلامي، ولا محسوباً على السلطة التي أيدها وبارك جُلّ خطواتها وممارساتها، فما نال عنب الشام ولا بلح اليمن، بل صار يقذف بالنوى من هذا ويحذف بالبذر من ذاك، ويُستقبل ويُستدبر باللعنات لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن يضلل الله فما له من هاد .
وأخيراً .. فلا شك أن هذا الخزلان الواضح في مسيرة حزب النور وقاعدته التي هو ذراعها السياسي كما يقولون، أعني ما سمي بـ"الدعوة السلفية"، فهذا الخذلان خلال تلك السنوات الثمانِ - مما سلف بيانه - مروراً بنتائج إنتخابات برلمان 2015- وهي قاصمة الظهر وفاقرة الصلب - قد ساهما في وضع السطر الأخير في قصة "حزب النور" و"الدعوة السلفية" السكندرية خصوصاً !!
ولست أعني هنا - بداهة - بالدعوة السلفية الفكر والمنهاج والنظرية معاذ الله، فهذه باقيةٌ إلى ما شاء الله وبالغةٌ ما بلغ الليل والنهار، إذ هي الإسلام بصفائه ونقائه غضاً طرياً كيوم نزل به جبريل على قلب النبي عليهما السلام، إلتزمها على هيئتها تلك من التزمها وهجرها من هجرها، ولا تزال طائفة من أهلها على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم من أعدائهم ولا من خذلهم من الخونة والمنافقين والمنقلبين على أعقابهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، وهذه لا يختص بها مكان دون مكان ولا صنف من الناس دون آخر، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم لا راد لفضله ولا ممسك لرحمته ولا مُحجِّر لما وسَّعه سبحانه .
وإنما أعني بالدعوة السلفية هنا - والسكندرية منها خصوصاً - القادة والنخب والعمل الجماعي الذين ما صدقوا فيما عاهدوا عليهُ اللهَ وجماعة المؤمنين، ولكن أخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم وخانوا وبدلوا تبديلا أحوج ما كانت الأمة إليهم، وهزموها أقرب ما كان نصرها باديا، فهؤلاء هم الذين انطفأت جذوتهم وبارت سلعتهم وذهبت حيلتهم مع بقاء تبعتهم، وانتهت قصتهم وطويت صفحتهم وعمتهم سخطة الناس ولعنتهم، جزاءً وفاقا بما كسبت أيديهم وما ظلمهم الله ولا غمطهم الناس، وإن كان حسابهم على الله أولاً وآخرا يقضي فيهم بما يشاء بمقتضى علمه وحكمته وهو العليم الحكيم .
تعليقات