أدخل نصك هنا ...
نحن في مجتمعاتتعرضت طوال مائتي عام إلى تحولات عميقة سواء في بن ة السلطة أو في بنية المجتمع أو في بنية القيم الحاكمة للمجتمع و الدولة و ذلك من خلال إجراءات العلمنة التي فرضت على المجتمعات لتغيير قيم و عقائد و سلوكيات هذه المجتمعات المسلمة.
و كانت البداية مع الإختراق الغربي لبلاد المسلمين مع الغزو الفرنسي لمصر 1798 م – 1801 م و الذي أحدث صدمة حضارية شديدة على المسلمين و حالة من الهزيمة النفسية مهدت الأرض لتقبل عملية "التغريب" التدريجي للمجتمعات المسلمة و الإنسياب التدريجي للأفكار و الأخلاق الغربية، و لقد أرسى محمد علي أول ركيزة للعلمانية حيث أنشأ نظاما تعليميا على غير أساس إسلامي، كما أرسى جذور نظام قضائي غير إسلامي، حيث استبعدت بعض الحدود، و كثرت اللوائح و التنظيمات المخالفة للإسلام
إن هذه الثنائية من المؤسسات الحضارية للتعليم و القضاء قد انعكست على الأخلاق و السلوك ، و كلما كانت تزداد الفجوة اتساعا بين المؤسسات التقليدية (المنسوبة إلى الإسلام) و المؤسسات الجديدة كان التضييق يزداد على المؤسسات الإسلامية
و مع تعمق الثنائية ضاقت سبل العيش أمام خريجي التعليم الإسلامي، بخلاف خريج الجامعة الأفندي الذي أصبح طبيبا أو مهندسا أو محاميا، و سخرت وسائل الإعلام من المعممين في نفس الوقت الذي أظهرت فيه خريج الجامعة بإعتباره القدوة لبسطاء الناس
و في عهد كل من الخديو سعيد و الخديو إسماعيل، تبلورت شخصية مصرية على حساب الشخصية الإسلامية، و كان هذا انحرافا خطيرا عن جادة الإسلام حيث تبلورت هوية جديدة مناقضة للهوية الإسلامية ألا و هي الهوية الوطنية و قد ظهرت هذه الهوية الوطنية لسببين
1. انتشار الأفكار الوطنية في أوروبا بعد اجتياح نابليون لبلاد كثيرة ثم نشره لأفكار الثورة الفرنسية فيها، و كان نصارى الشام أول من تلقوا هذه الأفكار و دعوا إليها على أساس أن يكون لهم نصيب في أية دولة قد تنشأ على أساس الوطنية، و في عهد سعيد و إسماعيل انفتحت أبواب مصر أمام الشوام الذين طاردهم الحكم العثماني، فقاموا ببث سمومهم وسط المثقفين في مصر
2. رافد آخر للوطنية لم تصطدم بالدين من البداية، فقد بدأها الطهطاوي بتمييزه بين "أخوة الدين" و "أخوة الوطن" ثم ازدهرت الوطنية على يد الأفغاني و عبد الله النديم و من بعدهم مصطفى كامل و محمد فريد الذين كان لهم دور كبير في رعاية و دعم و نشر فكرة الوطنية و إن كانت الوطنية عند هذه الفئة تختلف تماما عن الوطنية اليوم، بل عن الوطنية التي دعا لها الشوام، فقد كانت عبارة عن عاطفة و حماسة أكثر منها فلسفة، إنها كانت في الحقيقة فكرة غامضة و سأقف مع هذا الإنحراف الخطير فتأسيس الهوية الوطنية المناقضة للهوية الإسلامية أصالة عند الكلام على الدولة الحداثية القطرية و تأثيراتها على المجتمع المسلم
و كان الإحتلال الإنجليزي ذو تأثير حاسم في سيطرة النخبة العلمانية على السلطة و التوجيه من المجتمع ، حيث قام الإحتلال بالإعتناء بهذه النخبة و تهيئة الظروف و تسليمها قيادة المجتمع، حيث أعطيت لها السلطة (و إن كان بشكل منقوص حيث أنها سلطة تحت الإحتلال) و افسح المجال لها لتسنم منابر التوجيه الثقافي و التعليمي للبلاد، في الوقت الذي كان من ينسب إلى الإسلام كالحزب الوطني حاصرته آلة الإحتلال و عملاؤه سياسيا و قانونيا و دعائيا، رغم أن الحزب الوطني لم يفهم طبيعة و خطورة العلمانية و حصر خلافه مع العلمانيين حول رفضه لمبدأ التفاوض مع المحتل، مما أعطى الفرصة للتأثيرات العلمانية على المجتمع و الدولة سواء في الهوية أو التشريع أو الأفكار و السلوكيات داخل المجتمع
و عندما أتت حركة الجيش عام 1952 م أتت بتحولين خطيرين جداً:
1. الخصومة مع الهوية و المرجعية الإسلامية
2. ترسيخ مبدأ الحكم الإستبدادي ، و قد تبين هذا واضحا في أزمة مارس 1954 م ، و من ثم بدأت السياسات الإشتراكية، و إستخدام الإعلام و التعليم لتوجيه السيطرة على المجتمع، مما أنتج ترسيخ الأفكار و السلوكيات العلمانية في المجتمع
و كانت فترة السادات بما شملته من علاقات مع الولايات المتحدة و ما تبع ذلك من انتشار للثقافة الأمريكية عبر الأفلام و المسلسلات ، و اعتماد "الإنفتاح الإقتصادي" و الذي وسع من دائرة الفقر و البطالة في المجتمع و قد كان لهذين العاملين تأثير خطير على المجتمع (كما سنبين)، و كان للعلاقات مع إسرائيل و ما استتبع ذلك من عملية تغيير للقيم من الوعي الجمعي للمجتمع و خروج تام من البعد العقائدي تجاه قضية فلسطين و العداء لإسرائيل و ترويج أوهام السلام في عقول الجماهير، و قد كان لهذين التحولين في عصر السادات تأثير عميق على الأفكار و السلوكيات المجتمعية
و كانت فترة مبارك إستكمالا لما بدأه السادات و لكن مع البطش بالإسلاميين والزج بهم في السجون و اعتماد سياسة التعذيب الممنهج و العودة للتشويه الإعلامي للإسلاميين عبر المسلسلات و الإفلام و البرامج، و منع وصول العلم إلى الناس و "تجهيلهم" و استخدام "مشايخ العلمانية" لإعطاء غطاء ديني للعلمانية في المجتمع و الدولة و لكن هذه السياسات العلمانية توخت أمرين في سيرها
1. اعتماد العلمانية الجزئية و ليس العلمانية الشاملة
2. إعتماد العلمانية المستترة و تجنب العلمانية الفجة و هذا جعل هناك قبول محقق في ظل حالة "التجهيل" للأفكار و السلوكيات العلمانية، و ذلك لأنها لا تصطدم صراحة و بطريقة مكشوفة مع عقيدة المجتمع
و ما تفعله العلمانية الآن في ظل الإنقلاب من اعتماد العلمانية الشاملة لا الجزئية و العلمانية الفجة لا المستترة هو خطأ إستيراتيجي يصب في مصلحة الإسلام على المدى المتوسط و الطويل لأنه سيكشف أمام المجتمع إصطدام العلمانية الواضح و الصراع مع عقيدة المجتمع مما يؤدي لرفض المجتمع لهذه الأفكار
أنتجت المسيرة الطويلة للعلمنة (مائتي عام)، إفرازات خطيرة في الأفكار و السلوكيات المجتمعية
● فصل الدين عن الحياة على المستوى العملي، فتجد الفرد يصلي في المسجد الصلوات الخمس و لكنه يفصل تدينه هذا تماما عن معاملاته الحياتية سواء في التجارة أو بينه و بين أبنائه، حيث نجد هنا انفصام تام بين الدين و الحياة و عدم اعتماد مرجعية الإسلام في تيسير شؤون حياته العملية، بل نجد ذلك واضحا في سلوكه السياسي فهو مصلي متدين و لكنه يعادي الإسلاميين و يؤيد العلمانيين، و ما ينتج عن ذلك ما رأيناه من رفض لتطبيق الشريعة و معاداة لذلك
● الإنحراف في قضية الهوية و الإنتماء، ففي إستطلاع للرأي أجراه مركز الجزيرة للبحوث والدراسات بعد ثورة 25 يناير في مصر أجاب أكثر من 60% من العينة عن سؤال الهوية (أنه مصري أولاً)، فالهوية الوطنية هي محورالإنتماء لدى غالبية المسلمين في مصر، و هي هوية مصادمة و مناقضة للهوية الإسلامية، و الهوية تحدد (من نحن ؟) و (من الآخر؟) و ( ما الموقف من الآخر؟)، فهي محور مركزي في حياة أي إنسان و تحدد مواقفه و بوصلته و اتجاهاته و سلوكياته
● النفعية و اعتمادها كمنهج عام للحياة، و يقصد بالنفعية الأنانية و الدوران حول المصلحة الشخصية و التحرك في إطارها و حساب كل شيء في إطار المصلحة الذاتية الضيقة (مبدأ مصلحتي)، و هذه النفعية تفرغ الإنسان تماما من المباديء فيصبح إنسان بلا مباديء و يصبح وحش و ليس إنسان حيث أنه يفقد حتى الإحساس بالآخرين أو آلامهم أو اعتبار مصالحهم، و هو ما يدخل المجتمع إلى وضع الغابة و الصراع الدائم بين الوحوش حول النفوذ و المال و الشهوات، و كان لهذه النفعية تأثير محوري في صراع الثورة المضادة (الإستبداد العلماني) مع الإسلاميين حيث خوطب المجتمع من خلال المصالح لا المباديء، لأنه مجتمع مصلحي نفعي بلا مباديء، و أجدى هذا الخطاب و أثمر ما رأيناه
● الشهوانية: التي أصبحت سلوكا عاما في المجتمع يظهر بوضوح في التبرج السافر و الإباحية و انتشار الحرية الجنسية، فهذه السلوكيات ليست مجرد معاصي و إنما هي سلوكيات علمانية مجتمعية قائمة على قناعة من يفعلونها، و انتشرت هذه السلوكيات من خلال الأفلام و المسلسلات و المواقع الإباحية، فهي سياسة ممنهجة للعلمانية لإفساد المجتمع و إدخاله في آتون الشهوات
● المادية: حيث أصبح مدار حياة الإنسان و دورة حياته اليومية "الجنيه" فأصبحت المادة هي القيمة المهيمنة على سعي الناس و اهتمامهم و تقييمهم للأشياء و الأشخاص
هذه أمثلة لحجم التأثير العلماني على المجتمع المسلم، في الوقت الذي وصف الإسلاميون أمراض المجتمع بعيدا عن الخلل الرئيسي و هو العلمانية و العلمنة إلى توصيفات أخرى سواء بوصف المشكلة من (شرك القبور) و تغافل تماما عن الشرك في الولاء و البراء أو الشرك في الحاكمية أو النواقض العقدية الأخرى المنتشرة في المجتمع و الناتجة كلها عن جهد العلمانية و العلمنة، أو من يوصف المشكله على أنها (الغفلة و المعاصي) أو أن الإشكال "سياسي" ، و يغفل تماما عن أن السلطة علمانية تقع تحت الهيمنة الغربية بشقيها الإدراكي و المادي، و أن الخلاف مع هذه السلطة ليس "سياسي" بالدرجة الأولى، إنما هو عقائدي بالدرجة الأولى، و كما يغفل عن علمانية السلطة و عمالتها للغرب العلماني، يغفل كذلك عن تأثيرات العلمانية العميقة على المجتمع، ثم يسأل بعد ذلك و يقول كيف حدث هذا؟ و كيف إنقلبت علينا الجماهير و قد كنا نعطي لهم الإعانات و المساعدات و نبذل لهم أنشطة إجتماعية لحل مشاكل الفقر و البطالة فكيف يخذلونا و ينقلبون علينا؟
إنه التوصيف السطحي و التبسيطي للواقع و متغيراته، و الهروب إلى عموميات ناتجة عن الجهل و عدم التأهيل المعرفي لتوصيف الواقع، أو السعي لإصلاحه و تغييره.
إنه إنعدام الرؤية للخلل الحقيقي، و عدم معرفة بأبعاد هذا الخلل و تأثيراته و إتجاه لمعالجة أشياء أخرى ليست هي الخلل، فالإسلاميون كما قيل "يرون ما لا يريدون، و يريدون ما لا يرون" إنه إنحراف في التصور و الإدراك و الفهم و من ثم إنحراف في الحركة و العمل و لكن يبقى هنا أن نتكلم عن الدولة الحداثية القطرية، هذه الدولة ذات السيادة (السيادة في هذه الدولة للدولة ذاتها و ليس شيئا آخر) التي إدعت أنه من حقها، كجزء لا يتجزأ من سيادتها أن ترتكب جرائم الإبادة الجماعية، أو أن ترتكب مذابح إبادة بحق شعوب تحكمها من خلال حالة الإستثناء، التي هي عملية تأسيس لحرب أهلية (قانونية) من خلال تطبيق حالة الإستثناء، بما يتيح التصفية الجسدية ليس فقط للخصوم السياسيين بل لشرائح كاملة من المواطنين تعتبرهم السلطة لسبب أو لآخر، غير قابلين للإندماج في النظام السياسي و من هنا نفهم أن ما فعله أو يفعله الإنقلاب هو جزأ لا يتجزأ من مفهوم (الدولة القطرية) و نحن هنا سنناقش تأثير الدولة القطرية فيما نحن بصدده من تحليل سلوك الجماهير و إنقلابها على الإسلاميين و هنا نعود إلى ما ذكرناه عن الشروط الثلاثة لإختفاء الوازع الأخلاقي ضد الفظائع العدوانية
● استخدام العنف من خلال الأوامر الرسمية الصادرة عن الجهات القانونية
● تنميط العمل عبر الممارسات النظامية المنضبطة و التوزيع الدقيق للأدوار
● تجريد ضحايا العنف من الصفات الإنسانية بواسطة التعريفات و المذاهب الأيديولوجية،
و الذي يهمنا هنا هو الإنضباط المؤسسي، أي ضرورة الإلتزام بأوامر الرؤساء إلى حد استبعاد المرجعية الأخلاقية (شرعية أو حتى إنسانية) إضافة إلى وضع الإخلاص للمؤسسة و نجاحها فوق كافة الإعتبارات الأخرى و بذلك يصبح الإنضباط المثالي هو التماهي الكلي مع المؤسسة، و هذا لا يعني أي شيء سوى الإستعداد لمحو إنسانية الإنسان و محو هويته من الوجود، و اعتبار أن التضحية بالنفس من أجل المؤسسة فضيلة أخلاقية تلغي كافة الأوامر الأخلاقية الأخرى و يصبح شرف الموظف هو التمسك بهذه الفضيلة، و بذلك أصبح الإلتزام بالأوامر هو أعلى درجات الإنضباط الأخلاقي.
ما نصفه هنا هو وصف البيروقراطية الحديثة التي هي منتج رئيسي للحداثة و دولتها القطرية، و هي لا توضح لنا فقط كيف نفذ المنفذون المذابح، بل أنها توضح لنا أيضا كيف قبل الآخرون – الذين لم يباشروا الذبح بأنفسهم – و أيدوا المذابح، إنها منظومة متكاملة لتذويب الإنسان من حيث هو إنسان – و المسلم من حيث هو مسلم – في إطار منظومة منزوعة القيم، و لا تعطي أي وزن لقيم شرعية أو انسانية حتى، و أنظر إلى مقولات "عبد المأمور" ، "ده شغلي و أكل عيشي".
إنها ليست منظومة إدارية مجردة، إنها تصبغ العاملين فيها بل و المجتمع كله بطريقة تفكير تستبعد تماما (الحلال و الحرام)، (الصواب و الخطأ) و بالتالي فهي تبث العمى الأخلاقي و اللامبالاة الأخلاقية في أفراد المجتمع ككل و في نهاية المطاف، كانت هذه مقاربة لفهم و تحليل ظاهرة إنقلاب الجماهير على الإسلاميين، من خلال مداخل و إقترابات منهجية مختلفة حتى نصل قدر المستطاع إلى معرفة الخلل بأبعاده المختلفة و هو خطوة رئيسية و مؤسسة لإعطاء تصور صحيح للإصلاح و التغيير و إعادة البناء المجتمعي، فهي كلمات للماضي و الحاضر و المستقبل، فمن يملك الماضي يملك المستقبل كما يقول جورج أورويل و هذا إجتهادي فإن كان صوابا فمن الله و له الفضل و المنه أولا و آخرا، و إن كان خطأ فمن نفسي و من الشيطان،
( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله)
تعليقات