نواصل معا فى هذا المقال التأمل حول الثورة السورية و استخلاص الدروس والعبر منها بما قد ينفع الله به كل فى مناسبته.
وأول هذه الدروس ولعله من أهمها هو ترك الأمر فوضى فى المناطق التى انحسر عنها نفوذ بشار الأسد وأجهزته، بمعنى عدم إمساك أهل الحل والعقد بزمام المبادرة والمبادأة فى هذه المناطق بتكوين هياكل الثورة الإدارية كالجيش الثورى وأجهزة الأمن والإدارة العامة وقيادة الشعب والعمل الثورى لأن مجرد التمهل فى هذه الأمور ترك فراغا نشأ فيه كمية هائلة من الفصائل الجهوية والعشائرية والمذهبية أو الدينية التى يقود أكثرها أغرار أو أصحاب أهواء مما كرس الفرقة بين أطراف القوى الثورية فحدث ما حدث من استفراد النظام بكل طرف وحده ومن استفراد قوى دولية وإقليمية متعددة بأطراف عدة محسوبة على الثورة والسيطرة عليها وتحريكها كما تشاء.
فدائما لا تحدث مثل هذه الفرقة والفوضى إلا بسبب تقاعس أهل الحل والعقد عن استلام دورهم والقيام بمهامهم التى وكلها لهم الواقع والمجتمع واللحظة الثورية الفارقة، إذ لا يتسيد الأغرار والرويبضات إلا في حالتين:
حالة سيادة نظام سياسي واجتماعي يحرص ويعمل على ظهورهم وإعطائهم دور.
وحالة المرور بمرحلة فوضى سواء كانت بسبب ثورة لم تكتمل بعد أو فوضى بسبب تصدع مفاجئ للنظام السياسي والاجتماعي السائد (لأي سبب كان).
والفوضى الناتجة عن حالة ثورة أو التصدع المفاجئ للنظام السائد يمكن لأهل الحل والعقد السياسي والاجتماعي أن يسيطروا عليها إن هم تسلموا دورهم وأخذوا بزمام المبادأة والمبادرة وتحركوا لترتيب الأوضاع بشكل منطقي سليم.
فالأغرار و الروبيضات لا يزدهرون إلا فى الفراغ، والفراغ لا يحدث إلا إذا ترك أهل الحل والعقد مواقعهم وتخلوا عن دورهم الريادي في المجتمع.
وهذا هو سبب التفرق بل التشرذم الذى وصل له الحال فى سوريا أى عدم وحدة ذوى البصائر الذين كان ينبغي عليهم أخذ زمام المبادرة لتوحيد المعارضة الثورية كلها، أو توحيد أهل الحل والعقد الذين بوحدتهم يتوحد الشعب كله أو أغلبه، لأن تفرق أهل الحل والعقد هو ما يفرق المسلمين دائما.
وإذا كان هذا درس في الشأن الداخلي فهناك درس آخر في الشأن الدولي والإقليمي وهو أن أحداث سوريا أوضحت أن النظام السوري ككافة أنظمة العالم الثالث يدور في فلك قوى دولية وإقليمية فيتبعها بينما هى توجهه من وراء ستار وعندما وقع في مأزق وأوشك على الهزيمة لم تعد القوى الدولية والإقليمية التى تدعمه تتخفى بل أسفرت عن وجهها ودخلت بكل ثقلها لتسحق الشعب السوري وتدعم عميلها.. و تقبل النظام الدولي لهذا السفور في الإجرام بل مساندته بطرق متعددة مباشرة وغير مباشرة ينقلنا إلى النقطة التالية.
الصراع الدولي والإقليمي الذى جرى في سوريا لمساندة نظام بشار وأحيانا لمساندة الثوار (وإن على استحياء) يكشف أن عملية الثورة أو التحرر من النظم التابعة لقوى الهيمنة الدولية أو عملية السعي للإصلاح وإيقاظ الشعوب العربية أو الإسلامية ليست عملية داخلية ولا هى معادلة صراعية داخلية وإنما هى معادلة معقدة تشمل كل أطراف القوى الدولية والإقليمية وتدور في إطار اللعبة السياسية والإستراتيجية والأمنية الدولية والإقليمية ولا يمكن فصلها عنها بأي حال في أي مستوى ولا في أي مجال.
ومن هنا فإن أى شخص أو جهة تسعى للثورة أو للإصلاح في بقعة من عالمنا الإسلامي وتتجاهل هذه الحقيقة أو لا تعي هذه الحقيقة أو تعيها ولكن لا تجعل لهذا الوعي تأثير كافي في عملها الثوري أو الإصلاحى فإن هذا يدعو لوصم هذا العمل بالعبثية أيا كانت مبرراته لتجاهل هذه الحقيقة قولا وعملا.
ومن غير المقبول أن يقول قائل أن هذا غير مقدور أو هذا خيالي لا يمكن مراعاته، فمن يعي هذه الحقائق ويعي تأثيرها في كل أجزاء المعادلات الصراعية الراهنة في العالم الإسلامى هو من يعي ما العمل للتعامل مع هذه المعادلات أو سيجتهد اجتهادا موضوعيا مقبولا للتعامل معها، وهؤلاء سينطبق عليهم قوله تعالى " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (العنكبوت آية 69)، أما الذين لا يعون هذه الحقيقة أو يعونها ويهونون من شأنها وتأثيرها أو يعونها ويتجاهلون أو يهملون التعامل معها تعاملا مكافئا لمستوى خطورتها وعمق تأثيرها فهم مخالفون لأمر الله تعالى حيث قال: " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ" (التوبة آية 60)، وهم آثمون لأنهم يغررون بالأمة فى صراع خاسر فيشقون عليها قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" (رواه مسلم وأحمد - صحيح الجامع الصغير للألباني رقم 1312)، و كل من ادعى عدم قدرته على إدراك حقيقة اللعبة السياسية والإستراتيجية والأمنية الدولية والإقليمية أو فهمها أو عدم قدرته على التعاطي معها كاملة فعليه التأخر إلى الصفوف الخلفية والكف عن السعي للجلوس بمقاعد التوجيه والقيادة لأنه غير مكلف بهذا لقوله تعالى " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ" (البقرة آية 286) فهذا الذي ليس بمقدوره وعى حقائق الواقع أو ليس بمقدوره التعامل مع حقائق الواقع تعاملا مناسبا ومكافئا فسقط عنه التكليف إلى أن يستطيع فليترك الأمر لمن يستطيعون ولمن يعدون أنفسهم ليصلوا لمستوى الاستطاعة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن أحداث ثورة سوريا تكشف امرأ مهما في الإستراتيجية العسكرية وهى إستراتيجية مسح المدن من على الأرض بالطائرات والتي بدأها بوتين فى جروزنى ثم نفذتها أميركا فى أفغانستان والعراق ونفذها الروس فى سوريا فما هو الحل فى مواجهة هذه الإستراتيجية؟؟.
لا أجد إجابة لهذا السؤال سوى كلمة واحدة وهى "الردع" بمفهومه الإستراتيجي العلمى المعاصر، فليس هناك أي حل آخر بحسب علمي وفهمي، ولقد قيدنا مفهوم الردع بالعلمية والمعاصرة لمنع أي تعريفات سطحية أو ساذجة لهذا المفهوم الخطير الذى نرى أن مستقبل نهضة أمتنا رهن بتطبيقه تطبيقا علميا موضوعيا سليما.
والردع مفهوم وعملية إستراتيجية معروفة ومحورية في إستراتيجيات الصراع الدولي المعاصر، وربما يكون من الأنسب أن نفرده بالكتابة في قادم الأيام إن شاء الله تعالى.
تعليقات