ما هو جوهر القوة الحقيقية والتأثير لأى حزب سياسي أو دولة أو حركة سياسية أو اجتماعية أو إسلامية؟
لنفهم الإجابة الصحيحة لهذا السؤال دعونا نتعرف على حوار دار بيني وبين شخص قابلته ذات مرة وحكى لى أنه أصبح مليونيرا بعدما كان يبيع ملابس كبائع متجول ويبسط سلعته على رصيف أحد الشوارع بالقاهرة، فحينها سألته: وكيف حققت هذه المكاسب التى مكنتك من إنشاء العديد من محلات بيع الملابس والأجهزة المنزلية بعدد من مناطق القاهرة؟
فأوضح لي كيف أنه يعتمد على أسلوب بيع السلع بهامش ربح ضئيل جدا بدرجة لا يمكن أن ينافسه فيها أي تاجر آخر وضرب مثلا بسلعة محددة (ذكرها لى) قائلا أن سعرها من منبعها هو 137 جنيها وكان يبيعها هو بـ 140 جنيها فقط فى حين أن أى تاجر آخر يضع نسبة من 25% إلى 35% كنسبة ربح فوق السعر الأصلى (137 جنيها) وأوضح لي أن هذا الأسلوب يجعله يبيع كثيرا جدا وبالتالى يربح أرباحا ضخمة صنع منها ما يمتلكه من ملايين الجنيهات، فقلت له: ولماذا لا يجاريك منافسوك والتجار الذين لديهم محلات حولك بنفس الطريقة فيخفضوا أسعارهم مثلك فأجابني بأن قلبهم لا يطاوعهم بمجازفة كهذه وحتى من حاول منهم استخدام نفس الأسلوب فقد فعله فى سلعة او اثنتين فقط بينما أنا أفعل هذا الأسلوب بجميع السلع وبالتالي فإن الزبائن يكتشفون هذا و يستمرون فى التعامل مع محلاتي فى كل السلع ولا يتجهون لمن ينافسني.
والعبرة المهمة فى هذه القصة هي عدم قدرة التجار على مقاومة شهوتهم فى الكسب السريع والكبير بمعاملات تجارية قليلة، وهذه الشهوة فى الكسب هى نفسها التى تمنع عنهم كسب الملايين من الجنيهات مثلما كسب صاحب هذه القصة الذي تحول من بائع متجول على الأرصفة إلى مليونير لديه شركات ومحلات عديدة.
فطمعهم المالي الذي وصل لدرجة كبيرة منعهم من تحمل مخاطرة تخفيض الأسعار لهذه الدرجة كما منعهم من الصوم عن الكسب الكبير لبعض الوقت ولنقل منعهم من تحمل مقتضيات التدرج في الكسب.
ونفس الشىء يقع فى السياسة حيث أن شهوة الاستعجال والإعجاب بالرأي والاعتزاز بالنفس تماثل شهوة وطمع الكسب المالى عند التاجر و اللتان تمنعانه من سلوك التكتيك المناسب لتحقيق أرباح ضخمة، ولذلك نجد أن القادة السياسيين الناجحين لديهم إنكار للذات بدرجة ما وتريث حتى لو لم يكونوا مسلمين.
إن صفات الإعجاب بالرأي والتشدق والتفيهق والرياء والنفاق العملي والأنانية والأثرة مذمومة في القرآن والسنة وورد فى ذلك أحاديث نبوية صحيحة كثيرة يطول المقام بذكرها.
بينما الإخلاص والصدق وقوة العزيمة والتواضع والبصيرة الثاقبة والتفكر والتدبر ممدوح فى القرآن والسنة وورد فى ذلك أحاديث نبوية صحيحة كثيرة يطول المقام بذكرها.
إن صفات الإعجاب بالرأي والتشدق والتفيهق والرياء والنفاق العملي والأنانية والأثرة هى أبرز ما يمنع القائد من حيازة القوة والقدرة الحقيقية للدولة أو الحزب أو الحركة التى يقودها (سواء كانت حركة سياسية أو دعوية أو اجتماعية)، كما أن الحد الأدنى من صفات الإخلاص والصدق وقوة العزيمة والتواضع والبصيرة الثاقبة والتفكر والتدبر هى أبرز ما يتيح للقائد حيازة القوة والقدرة الحقيقية للدولة أو الحزب أو الحركة التى يقودها.
ويلاحظ هنا أن السياسة منها ما هو ظاهر لكل مراقب للأحداث الجارية وهذا النوع لا يمثل كامل الصورة الحقيقية للواقع، و منها ما هو واقع حقيقي على الأرض وهذا الأخير هو جوهر وحقيقة القدرة والقوة السياسية وهو ما يحقق الانجاز السياسي أما القسم الأول فهو مهم فى مساعدة هذا القسم الأخير كي ينجح ولكنه ثانوي ولا يحقق شيئا بمفرده دون القسم الثانى وهذا القسم الثاني هو ما يهمنا هنا في هذا التحليل.
ولا يخفى على كل محلل سياسي أن الجانب الظاهر من الأحداث الجارية لا تخرج غالبا عن كونها إما علاقات عامة أو احتواء وتخدير للجمهور أو تعمية وتشويش وخداع ضد الخصوم أو الأعداء أو المنافسين، أما ما هو واقع حقيقي على الأرض فهو جوهر وحقيقة القدرة والقوة السياسية وهو ما يحقق الانجاز السياسي وهو أمور حقيقية لا وهم فيها وعندما تظهر ثمرتها فحينها لا يختلف على حقيقتها اثنان (مثلا نهاية الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا واليابان وأيضا مثال آخر هو نهاية الحرب الباردة بانهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي وكتلته الدولية).
فما هي حقيقة القدرة والقوة السياسية التي تحقق الإنجاز السياسي الحقيقي الذي لا وهم ولا لبس فيه؟
إجابة هذا السؤال تختلف باختلاف الكيان الذي يسعى لحيازة القوة والقدرة السياسية فالقوة بالنسبة للدولة غير القوة بالنسبة للحزب أو الحركة، وتفصيل ذلك يأتي فى السطور التالية.
بالنسبة للدولة نجد أن أبرز عوامل القوة الحقيقية هى:
زيادة عدد السكان وارتفاع الناتج القومي (وهو حقيقة قوة الاقتصاد) على أن يكون ناتجا قوميا مستقلا وحقيقيا بأن يتمثل فى الصناعة والزراعة وتاليا السياحة والخدمات وأخره وأضعف أنشطته قيمة هو الاستثمار القادم من الخارج ما لم يكن مرحلة انتقالية فقط.
وكذا من أبرز جوانب قوة الدولة عامة والاقتصاد خاصة هو التقدم التكنولوجي الكامل ونعنى بالكامل أى القائم على توطن التكنولوجيا فى دولتك.
و من المهم جدا بل ملاك ذلك كله قوة فكر القيادة لأن قوة فكر القيادة هي التي تمكن هذه القيادة من انتهاز الفرص -بل وصنعها من العدم- وتجنب المخاطر فى كل الأوقات.
ويضاف لذلك كله قوة الفكر العلمي والثقافة والفن والإعلام وأن تلتزم بالصدق وأن تستهدف الخير وتحارب الشر وأن تكون ذات رسالة سامية وروح كفاحية.
وأخيرا حيازة القوة العسكرية الحقيقية وكي تكون حقيقية فيجب أن تخلو مؤسساتها من أي ترهل أو إهمال أو فساد وأن تقوم على التدريب الدائم والجاهزية الكاملة والدائمة ووجود خبرات عملية كافية لإدارتها.
أما القوة بالنسبة للحزب أو الحركة فهى حيازة قدر مناسب من القادة والعناصر الفاعلة المتميزة كل بمجاله مع قدر كبير من الأتباع والأنصار بجانب قدر كبير من القبول الجماهيري وتمويل مالي مستقل وكبير وهذا كله سيمكن الحزب أو الحركة من امتلاك أدوات وتكتيكات كافية للنجاح فى تحقيق أهداف واستراتيجية الحزب أو الحركة.
وعلى كل حال فربما يحتاج شرح عناصر قوة الدولة أو الحزب تفصيلا آخر بمقال مستقل لكن يجدر بنا في نهاية هذا التحليل أن نذكر أمثلة على فشل الدولة والحزب نتيجة التركيز على مظاهر القوة دون جوهرها لأن "بالضد تتبين الأشياء"، ومن أبرز هذه الأمثلة أن مصر شهدت أحزابا وحركات برزت جدا سياسيا لأن صوتها كان عاليا وكان لإعلامها ضجيج يصم الآذان ولكنها رغم أهمية أهدافها ونفعها إلا أنها فشلت فى تحقيق أي من أهدافها ولم تصل للحكم ومنها الحركة الماركسية وحركة مصر الفتاة فى العصر الملكي ثم حزب العمل وحزب الوفد فى النصف الأول من عصر مبارك (وبدرجة ما حزب الله في الإسكندرية فقط بقيادة أحمد طارق رحمه الله فى نفس الفترة) وذلك لأن عدد أعضائها كان قليلا جدا ولم تسع لتوسيع قاعدتها التنظيمية والاجتماعية والجماهيرية بينما ركزت على الإعلام والخطاب السياسي واتخاذ المواقف السياسية والمشاركة في الفعاليات السياسية بأكثر من اهتمامها بالبناء التنظيمى والتجنيد والتعبئة والتوسع الجماهيري وصياغة الفكر النهضوي المناسب وتكوين القادة المناسبين لتحقيق أهداف الحزب أو الحركة، صحيح سيذكرهم التاريخ كما نذكرهم الآن لكن سيقول أنهم لم ينجحوا، ونفس الشىء بالنسبة للعديد من دول العالم الإسلامي حيث ركزت على مظاهر قوة الدولة دون تحقيق ثراء اقتصادي مستقل عن الهيمنة الغربية على العالم ودون توطين التكنولوجيا ودون تطوير التعليم والبحث العلمي وودون توسع ضخم فى الزراعة والصناعة، ولذلك نرى سوء حال غالب الدول الإسلامية الآن من تردي فكري وحضاري وهو لا يخفى على أحد.
تعليقات