فوجيء الإسلاميون بحالة العداء الشديد التي واجهتهم بها الجماهير في مصر إبان حكمهم، و حالة الإنقلاب المجتمعي عليهم، و ظهرت حالة من الإنقسام المجتمعي الخطير المهدد لوحدة الدولة، و لم يستطيع الإسلاميون تحليل هذه الأحداث و التطورات لأسباب تعود إلى تكوينهم الفكري و تأهيلهم المعرفي أولاً و إلى حالة الصراع على السلطة مع الضبابية السائدة على المشهد و عدم تحديد العدو بشكل صحيح، و في خضم هذه الأمواج الهائلة من العداوة و الحشد الجماهيري ضد الإسلاميين التي وصلت للذروة في يونيو 2013 كان الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013.
كان تحليل الإسلاميين أن الوصول إلى هذه الحالة العدائية كان سبب الهجوم الإعلامي الكاسح للأذرع الإعلامية للمجلس العسكري و معلوم أن هذه الظواهر السياسية و الإجتماعية لا يمكن تفسيرها في إطار سبب وحيد، فالظواهر السياسية و الإجتماعية من التعقيد بمكان ما لا يسمح بهذا التبسيط في التفسير و الرؤية.
و أنا هنا لا أهون من دور وسائل الإعلام في حدوث هذه الحاله العدائية، و لكن لا بد من التوقف لمعرفة مدى تأثير الإعلام على توجهات الجماهير حتى تقدر الأمور بأقدارها و تعرف مدى تأثير هذا "المتغير" الذي هو "الإعلام" في إيجاد هذا التغير الجماهيري على الإسلاميين.
إن ما يقوم به الإعلام من خلال ما يسمى "الإتصال الإقناعي" و التي تتمثل في ثلاثة أنواع من النتائج السلوكية تنتج عن العملية الإقناعية على النحو التالي:
● الإقناع و عملية تكوين الإستجابات : مثل الطفل مثلاً الذي لا يوجد لديه مستودع للإستجابات للتعامل مع الموضوعات الإجتماعية و الإقتصادية و الأخلاقية، و هنا يقوم التعليم و النشأة بعملية تكوين الإستجابات
● الإقناع و عملية تدعيم الاستجابات: و هنا ينجح الإعلام في الوظيفة الخاصة به بتدعيم الاستجابات التي أقنع الجمهور بها ليجعله أكثر مقاومة للتغيير.
● الإقناع و عملية تغيير الاستجابات: و هنا لا ينجح الإعلام إلا في إحداث تغيير طفيف في السلوك لدى بعض الأفراد نظرا لوجود استعدادات سابقة متعارضة أو الإنتماء إلى جماعات تتصارع أساليبها و يفشل الإعلام و يواجه مقاومة لمحاولة تغيير الاستجابات في حالة ما إذا كانت تلك الموضوعات متصلة بتصوراتهم الذاتية و توازنهم النفسي.
ملخص ما سبق أن الإعلام له دور محدد في تكوين الإستجابات إلا إذا قدم المنتج الإعلامي في شكل تعليمي، و بالتالي فتكوين الإستجابات المختلفة للشخص تقوم به أساسا التعليم و التنشئة الإجتماعية، و للإعلام دور كبير في تدعيم الإستجابات التي تم الإقناع بها سابقا من خلال التنشئة و التعليم، و الإعلام له دور محدود في تغيير الإستجابات، و خاصة عندما يكون هناك استجابات لدى الشخص متعارضة مع الرسالة الإعلامية المقدمة و ينتج من كل ما سبق، أن ما يحدثه الإعلام من التأثير في المواقف و الاتجاهات يعتمد على وجود استجابات سابقة متكونة في الشخصية المستهدفة متوافقة مع الخطاب الإعلامي الموجه، و إذا نظرنا للواقع نجد أن الجماهير في مصر لم تكن كلها ذات مواقف معادية للإسلاميين أصالة، و إنما هذا لدى قلة من الذين اتخذوا موقفا مبدئيا تجاه الإسلاميين و نستطيع أن نقول أن تلك الفئة هي التي رفضت ثورة 25 يناير بالأساس، و يمكن أن نقسم الجماهير في مصر إلى 3 فئات:
1. فئة مؤيدي الإسلاميين
2. فئة كارهي التيار الإسلامي
3. فئة لا تؤيد و لا تعادي التيار الإسلامي و لكنها تريد تحسن الأحوال في الدولة و لا يهمها كثيرا على يد من هذا الإصلاح
و بالتالي فالإعلام في الحقيقة لم يؤثر إلا في "فئة كارهي التيار الإسلامي" و لقد بينت الأحداث أنهم قلة، و هم الذين لا يزالون يؤيدون الإنقلاب و قائده حتى الآن
و لكن حالة العداء و الهياج العام شملت طوائف لم تكن لديها استجابات عدائية للإسلاميين.
و التحليل السابق يوضح بجلاء أن القول بأن الإعلام هو المتسبب الرئيسي لما حدث لا يكفي وحده لتحليل هذه الظاهرة و تفسيرها و بالتالي إعطاء تصور لعلاجها و التعامل معها.
و هذا ما يجعلنا نضع الأمور في نصابها، و هو أن الأنشطة التي قامت بها وسائل الإعلام لا تدخل في إطار "الإعلام" و إنما تدخل في إطار "الدعاية"، و الدعاية هي نوع من الإتصال التحيزي الذي يعمد إلى عرض معلومات تهدف في المقام الأول التأثير على الجمهور المستهدف لإحداث تغيير في موقفه تجاه موضوع ما بما يتوافق كلياً أو جزئياً مع أهداف سياسية للجهة القائمة على الدعاية.
و تقوم الدعاية على تكتيل القوى العاطفية بما يسمح بتسهيل الإقناع بفكرة أو مبدأ لم يكن الإنسان يقتنع به بمنطقه الذاتي دون هذا الضغط المعنوي و التوجيه الفكري.
و تتمثل الدعاية أساسًا في الجهود المبذولة لتغيير صورة الواقع من الناحية العاطفية و الإدراكية التي تصورها بعض أو كل المستهدفين بالدعاية و هي تحدث أثرها بشكل تراكمي، حيث تهدف في البداية إلى الإستحواذ على اهتمام الأفراد لتقبل وجهات نظر معينة ثم التأثير على الرأي العام و من ثم توجيه سلوكه، فهي تعمد إلى إثارة العواطف و المشاعر و تحدث حالة من الضغط الفكري و المعنوي أو التشتت الذهني، قبل أن تصل إلى مرحلة الإقناع أو التبني للفكرة، و هي تستخدم الرمز و الكلمة و الإشارة و الصورة،
و تلجأ الدعاية إلى النمط التكراري و المتنوع للتأثير على الجمهور و تحقق أهدافها، و قد تتضمن الدعاية عرض بعض أو كثير من الحقائق لكن بصورة منقوصة أو مشوهة، و غالبا ما يلجأ القائمون بالدعاية للكذب و التمويه لتقديم صورة مشوهة بما يخدم الهدف ([1]).
بقيت هنا نقطه هامة يلزم التأكيد عليها، و هي أن الدعاية السياسية الموجهة قد لا تحقق أهدافها إلا إذا كان النظام السياسي القائم المستهدف نظاماً يفتقر إلى الشرعية أو لا يملك أسباب القوة و البقاء. و لقد فعلت هذه الآلة الدعائية الضخمة الكثير، فقد حفرت في أعماق "الجماهير" إنعطافات و تحولات خطيرة في "نفسية" و "سلوك" قطاع كبير من الناس في مصر، كان من أخطر ما قامت به الآلة الدعائية للإنقلاب هو إنتاج اللامبالاة الأخلاقية و "العمى الأخلاقي" و "نزع الوازع الأخلاقي ضد العدوان و القتل" و هناك أقصد فقط الأخلاق التي تفرضها الشريعة بل حتى الإحساس الإنساني بالرأفة تجاه الفظائع العدوانية، كيف يقبل الأشخاص الأسوياء السكون أو التأييد لجرائم القتل و التعذيب!
يقول هربرت كيلمان " إن الوازع الأخلاقي ضد الفظائع العدوانية يميل إلى الإختفاء بمجرد تحقق ثلاثة شروط، جميعاً أو فرادى
1. تعويض استخدام العنف من خلال الأوامر الرسمية الصادرة من الجهات القانونية المعنية
2. تنميط العمل بالممارسات النظامية المنضبطة و التوزيع الدقيق للأدوار
3. تجريد ضحايا العنف من الصفات الإنسانية بواسطة التعريفات و المذاهب الأيديولوجية"
و سنتوقف قليلا مع الشرط الثالث المتعلق بالدعاية ثم نعود إلى الشرطين الأوليين لتعلقهما بقضية " الدولة الحداثية" أي الدولة القطرية العلمانية و تأثيراتها على المجتمعات المسلمة، لقد طرح بعض الباحثين مفهوم "عالم الالتزام" و هو عبارة عن مجموعة من الناس تربطهم التزامات متبادلة لحماية بعضهم البعض، و توحدهم مرجعية واحدة.
فيشير "عالم الالتزام" إلى الحدود الخارجية للفضاء الإجتماعي الذي تطرح فيه القضايا الأخلاقية بأي شكل و بأي معنى، و خارج هذا العالم لا تكون الوصايا الأخلاقية ملزمة، و لا تقيم وزن للتعميم الأخلاقي، و لا يبقى سوى طرد الضحايا في عالم الإلتزام حتى يتسنى اخفاء انسانيتهم، فدعايا الإنقلاب انطلقت في قيمة "الأمة المصرية" و "الهوية المصرية" و "المواطنون"، "المواطنون الشرفاء" ، "إنتوا شعب و إحنا شعب"، "الخونة" و "أعداء مصر" و غيرها من المقولات و هي تستوجب حرمان الإسلاميين من إنتمائهم لـ"مصر" و السعي في نزع الصفات الإنسانية عنهم ليتقبل الناس فكرة ذبحهم من خلال تغيير في العبارات "الخرفان" أو "أصيبوا بالجرب في رابعة لعدم الإستحمام" و إتهامهم في أعراضهم "جهاد النكاح" لإزالة ما رسخ في عقول الناس من تدين هؤلاء، فهم ليسوا "متدينين" بل و ليسوا "بشرا" و لكن كيف استجابت الجماهير إلى هذه "السلوكيات العدائية" و " الإنفعال الجماعي" بهذه السهولة و هذا السؤال يدل على عدم إدراك لطبيعة "الجماهير"، فالجماهير بطبيعتها عاطفية، لا يوجد أي عقلية لتصرفاتها و ردود فعلها ، همجية، تتحرك من خلال المحرضين المهمجين، و نحن نتكلم هنا عن الجماهير كمجموع و ليس كأفراد لأن الفرد يذوب في المجموع و ينصبغ بأفكاره و سلوكياته و نستطيع أن نقول أن شخصية الفرد تنمحي حال انغماسه في جمهور معين، فالجماهير هي الجماهير سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة أو دول العالم الثالث، و قد يقول البعض إن هؤلاء بينهم أشخاص أصحاب مستويات علمية عالية كأساتذة جامعات مثلا و هنا لا بد أن ننتبه أن أي متخصص في أي علم هو من عوام الناس خارج التخصص، و طبيعة الجماهير كانت واضحة لدى السلف رحمهم الله، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول، "الناس ثلاث، عالم رباني، و متعلم على سبيل النجاة، و همج رعاع أتباع كل ناعق"
و هذا التقسيم للمجتمع إلى نخبة موجهة (العالم الرباني و متعلم على سبيل النجاة) و جماهير (همج رعاع أتباع كل ناعق) موجود لدى دارس الرأي العام و الدعاية و الإعلام، حيث ينقسم المجتمع عندهم إلى: نخبة – قادة الرأي – الجماهير، كل ما في الأمر أن الخلافة الإسلامية كانت النخبة الموجهة للمجتمع كانت من أهل العلم الشرعي بمستوياتهم المختلفة، و لكن في ظل النظم العلمانية الحداثيةة التي نعيش في ظلها أصبحت النخبة الموجهة هي المثقفين العلمانيين بمستوياتهم المختلفة، و بالتالي فطبيعة الجماهير و تكوينها النفسي يؤهلها لقبول هذا التحريض و التهييج و الشحن و اللعب على أوتار العاطفة و اللعب على أوتار الخوف لإيهامهم أن الخطر عليهم خطر وجود، و أن وجود الإسلاميين في السلطة هو خطر على "الوطن" و على أمن هذا "الوطن"، بل أن وجودهم خطر على أرزاق الناس و معايشهم و أمنهم، فأصبح الفرد العادي يحس أنه مهدداً تهديداً ذاتياً، و أوصلتهم الدعاية إلى أن التخلص من هؤلاء و لو بالقتل مصلحة ذاتية لكل فرد في حد ذاته.
و لكن كان هناك حاجز نفسي يمنع من إيذاء هؤلاء الإسلاميين ألا هو أن هؤلاء "متدينون" في مجتمع مسلم، فكان لا بد من نزع هذه "الهالة المقدسة" عن الإسلاميين من خلال تصيد الأخطاء لبعضهم أحيانا، و نشر الأكاذيب عنهم في أحيان كثيرة، مما شوه صورتهم و أنزل من قدرهم عند الناس، فزالت "الهالة" و زالت هيبتهم من قلوب الناس فتجرأوا عليهم سواء في المساجد أو الشوارع أو البيوت، كل هذا في ظل حالة من التخبط يعيشها الإسلاميون سواء في تحديد العدو أو تحديد ما هو المطلوب فعله، و هذا المشهد الإسلامي طبيعي جدا في ظل غياب التأهيل لقيادات الحركة الإسلامية إلى مستوى "رجال دولة" لديهم القدرة على إدارة الدول و إدارة الصراعات و هنا إشكال يواجه من تكلم مع الجماهير حيث يواجههم بحقيقة المذابح و قد يصل الخطاب إلى القول بأنكم مسؤولون عن هذه الدماء بتأييدكم القتل فيكون الرد "نحن لم نقتل أحدا" ، بمعنى نفي المسؤولية عن القتل، و هذا سلوك دفاعي ليس فقط للمجادلة، و إنما لمنع تأنيب الضمير على المستوى الشخصي، و لكن كيف يفكر الناس هكذا و هنا نبتعد عن الدعاية و تأثيراتها إلى بعد أعمق، و هو مفهوم "وساطة الفعل"، و هو مفهوم طرحه جون لاكس و هو مفهوم يعني قيام شخص آخر أو شخص وسيط بأفعال تخصني، و يقف حائلاً بيني و بين أفعالي، فبعد أن فعلت آلة الدعاية فعلها و لعبت على أوتار العاطفة إلى أقصى درجة، و لعبت على أوتار الخوف على الوجود و المصير " طالما يعني هؤلاء في الحكم" و بالتالي طلب إزاحتهم بل و قبول قتلهم و تأييد ذلك، "أفرم يا ..." "أقتل يا ...."، أصبح لزاماً أن يوجد من يقوم بفعل الذبح و القتل نيابة عن الجماهير، و عند وجود فعل القتل يرى الشخص الذي نفذت أفعال القتل نيابة عنه و تأييده و رضاه و تحريضه أنها محض خيال و لن يعترف بها لأنه لم يفعلها بنفسه، حتى الشخص الذي قام بالقتل يرى نفسه مجرد آداة بريئة لأنها تخضع لإرادة غير إرادته "عبد المأمور" عندما تزداد المسافة الفيزيائية أو النفسية عن الفعل و العواقب المترتبة عليه يحدث تعليق للوازع الأخلاقي، و تختفي كافة ألوان الصراع الأخلاقي الداخلي في نفسية الفرد، و إذا أضفت إلى كل هذا ما فعلته الآلة الدعائية في تكذيب الروايات عن المذابح و المشاهد المنقولة مباشرة في المذابح، أدركت كيف تكونت التصورات و السلوكيات و كيف تحدث حالة الإنكار.
و ما بيناه هنا يدفعنا إلى التعمق في الصورة أكثر، فتحليل الأحداث بهذه الضخامة و ما نتج عنها من عواقب وخيمة على قضية الإسلام ذاتها فضلا عما وقع على إخوانهم المسلمين من قتل و تشريد و سجن و تعذيب و تضييق، و حرب ضروس لا تفتر ليل نهار ، يجعل الوقوف مع الحدث و أسبابه المباشرة (و إن كانت عميقة) غير كاف في فهم الحدث فهما صحيحا و ما يستتبع ذلك من تصور صحيح للحل
… يتبع
Comments