لا شكّ أنّ
المال هو أصل
القوة، وأن
قوام الدولة
كما قال
الإمام
الجويني هو "المال
والرجال"،
وقد أساء
الإسلاميون
التصرّف في
أموالهم أيّما
إساءة،
فالحركات
الإسلاميّة
لم تنتبه لبنائها
السياسي وما
يرتبه لها من
حقوق وواجبات
ومسؤوليات
شرعيّة،
وأيضاً لم تنتبه
لأدوات القوة
وكيفية
صناعتها وبنائها،
ولم تتنبه إلى
أي من هذه الأدوات
الواقعة تحت
يدها وكان في
إمكانها
تحصيله
بسهولة، ثم
توجيهه في
بناء وإيجاد
سائر
الأدوات، وكان
المنوط بهذه
الحركات أن
تحمل لواء
العلم
والشريعة وأن
تكون الممثّل
الشرعي
لجماهير
المسلمين.
وبرغم أنّ
طريق إنفاق
المال تكون
شرعًا.. بتوجيهها
بما يخدم
مصالح
المسلمين
العامة،
وتحصيل القوة
الواجب
تحصيلها،
ولكنهم وجهوا
المال وخاصة
الزكاة إلى
الفقراء
والمساكين من
المسلمين
الذين هم في
الحقيقة ضحيّة
سياسات الأنظمة
العلمانية في
بلاد
المسلمين
والتي تسبّبّت
في إفقار
هؤلاء
المسلمين
المساكين
سواء بسياساتها
أو فسادها
المستشري في
مؤسساتها
وبين قياداتها
ومسؤوليها،
وبهذا فقد
أصبحت
الحركات الإسلامية
بسعيها
لإنفاق ما بيدها
من أموال
طائلة على
الفقراء تدعم
هذه الأنظمة العلمانية
المعادية
للإسلام
والمسلمين فترفعُ
مؤنة هذه
المسؤولية عن
هذه الأنظمة،
كما أنّها
تَستُر مساوئ
هذه الأنظمة
عن جماهير المسلمين،
فدعمت هذه
الأنظمة من
حيث تدري أو
لا تدري.
ولأنّ المال
أصلُ القوّة
كما ذكرنا
فهذا يدفعنا
لمعرفة ما هي
القوّة
المأمور
بإعدادها في
قوله تعالى (
وأعدّوا
لهم ما
استطعتم من
قوة ومن رباط
الخيل ترهبون
به عدوّ الله
وعدوّكم) سورة
الأنفال
الآية 6
يقول
الإمام
الطبري -رحمه
الله- (والصواب
أنّ الله أمر
المؤمنين
بإعداد
الجهاد وآلة
الحرب وما
يتقوّون به
على جهاد عدوه
وعدوهم من المشركين
من السلاح
والرمي ورباط
الخيل وغير
ذلك... ولا وجه
لأن يقال عن
(القوّة) معنى
دون معنى من
معاني القوّة،
وقد عمّ الله
الأمر بها)
تفسير الطبري
14/37
قال ابن عطيّة
"وهذا
هو الصواب"
المحرر
الوجيز 2/545
ومرادُ
الطبري أن
القوة هنا
عامة تشمل كل
أنواع القوة
وليس الرمي
فقط، فكل ما
يستعان به على
قتال العدو
فهو من القوة.
ولذلك فإن ما
ورد في الأثر
من تفسير
القوّة بالرمي
إنما هو مثالٌ
للقوّة وليس
حصرٌ للقوة في
الرمي فقط، بدليل
أنّ القتال
كان في عهده -صلى
الله عليه
وسلم- بالسيفِ
والرمح وهما
ليسا من الرمي
، وهذا قول
جمهور
المفسرين،
ومنه
قول النقّاش (من
قوة: أي من أيّ
قوةٍ كانت)
نظم الدرر 8/314،
وقول الألوسي
(كل ما
يتقوّى به في
الحرب كائناً
ما كان، وتُطلَق
عليه القوة
مبالغةً) بروج
المعاني 10/24
وعلى
ذلك فإن القوّة
هي كل ما يُتقوّى
به على حرب
العدو كائناً
من كان.
حتى قال
الرازي (والمراد
بالقوة هنا ما
يكون سبباً
لحصول القوة)
تفسير الرازي
15/191 ، فجعل أسباب
القوّة من
القوة،
وقال (
قال أصحاب
المعاني:
الأولى أن يُقال
هذا عامٌّ في
كل ما يتقوى
به على حرب
العدو وكل ما
هو آلة للغز و والجهاد
فهو في جملة
القوّة)
والذي ذكره
الرازي هنا أن
القوة تُطلَق
على أسباب
القوة... لم
ينفه الذين
حصر وا القوّة
في الرمي، نعم
هي الرمي...ولكن
هناك أسباب
للقوّة يجب
تحصيلها كما
صرّح بذلك ابن
القيم في زاد
المعاد، فهم
يسلّمون بأنّ
هناك قوة، وهي
الرمي، وهناك
أسباب لهذه
القوة يجب
تحصيلها
أيضاً، فآل
الخلاف إلى أنّه
اتّفاقٌ في
المضمون وإن
اختلفت
العبارات.
قال السعدي
-رحمه الله- ( وأعدوا
: لأعدائكم
الكفار السّاعين
في
هلاككم وإبطالِ
دينكم، ما
استطعتم من قوّة:
أي كل ما
تقدرون عليه
من القوّة العقليّة
والبدنيّة
وأنواع
الأسلحة ونحو
ذلك، مما يُعين
على قتالهم،
فدخلَ في ذلك
أنواع
الصناعات من أصناف
الأسلحة
والآلات من
المدافع
والرشاشات
والبنادق
والطائرات
الجوية
والمراكب البحرية
والبرية
والحصون
والقلاع
والخنادق وآلات
الدفاع،
والرأي
والسياسة
التي بها يتقدّم
المسلمون
ويندفع عنهم
به شر
أعدائهم، وتعلم
الرمي
والشجاعة
والتدبير)
تفسير السعدي
ص 336
فانظر لهذا
القول النّفيس
وتأمّله
طويلاً وقد
أدخل الرأي
والسياسة في
معنى القوة،
وهو يوافق ما
سيأتي عن
الكمال بن الهمام
الحنفي في
تعريفه
للجهاد.
وعلى ذلك
فإيجاد أهل
الرأي من
الباحثين،
وإعداد مراكز
البحث، هو من
القوة الواجب
تحصيلها، فلا
جهاد إلا برأيٍ
وسياسة
وحكمة، ولذلك
فإن إيجاد
النخب المؤهلة
شرعياً
وواقعيًا من
الواجبات
المتعيّنة
شرعًا الآن،
من العلماء
المجتهدين
وخاصة في
السياسة
الشرعية،
والباحثين
المؤهلين في
السياسة
والتاريخ
والاجتماع
والإعلام
والإدارة
والعلوم
الاستراتيجية
وغيرها،
وإعانتهم على
التفرّغ التام
للعلم وتحصيله
وإنتاجه من
فروض
الأعيان،
لأنهم مكوّن
أساس القوة،
فالمعرفة قوة
كما قالوا.
فالقوة إذاً
تشمل كل ما
يدخل في
معادلة القوة،
فالعلم قوة
والإعلام قوة
والسياسة قوة
والاقتصاد
قوة والفكرة
قوة وهكذا.
ولا شك أنّ
العلم قِوَام
الجهاد،
والعلم
والعلماء هم
قيامُ دولة
الإسلام ولذا
يجب إيجاد من
يقوم بهذه الوظيفة...
لأنها أعظم
فروض
الكفايات.
يقول النووي
رحمه الله ( وفروض
الكفايات
أقسام....منها
ما يتعلّق
بأصلُ الدين،
وهو إقامة
الحجّة
العلمية،
ومعناها أنه
كما تجب إقامة
الحجّة القهرية
بالسيف يجب أن
يكون في
المسلمين من
يقيم
البراهين ويُظهِر
الحجج ويدفع
الشبهات ويحلّ
المشكلات)
الروضة
7/418 .
ويقول ابن
تيمية ( وأما العلم
بالكتاب
والحكمة فهو
فرضٌ على
الكفاية لا
يجب على أحدٍ
بعينه أن يكون
عالماً
بالكتاب لفظه
ومعناه عالماً
بالحكمة
جميعها، بل
المؤمنون
كلهم مُخاطَبون
بذلك، وهو
واجب عليهم
كما هم مخاطبون
بالجهاد بل
وجوب ذلك أسبق
وأوكد من وجوب
الجهاد، فإنّه
أصل الجهاد
ولولاه لم
يعرفوا علامَ
يُقاتِلون،
ولهذا كان
قيام الرسول
والمؤمنين
بذلك قبل
قيامهم
بالجهاد،
فالجهاد سنام
الدين وفرعه
وتمامه وهذا
أصله وأساسه
وعموده)
مجموع
الفتاوى 15/390
ويقول صدّيق
حسن خان صاحب
الروضة النديّة
( ومن
جملة سبيل
الله الصرف
على العلماء
الذين يقومون
بمصالح
المسلمين الدينيّة
فإن لهم في
مال الله
نصياً سواء كانوا
أغنياء أو
فقراء، بل الصّرف
في هذه الجهة
من أهم الامور
لأن العلماء
ورثةُ
الأنبياء
وحملة الدين
وبهم تحفظ
بيضة الإسلام
وشريعة سيد
الأنام، وقد كان
علماء الصحابة
يأخذون
من العطاء ما
يقوم بما
يحتاجون إليه
مع زيادات
كثيرة يستعينون
بها في قضاء
حوائج من يرد عليهم
من الفقراء
وغيرهم،
والأمر في ذلك
مشهور، ومنهم
من كان يأخذ
زيادة على
مائة ألف
درهم، ومن
جملة هذه
الأموال التي
كانت تفرق بين
المسلمين على
هذه الصفة الزكاة)
والرأيُ من
العلم، ولا
سياسة إلا
بالرّأي
والحكمة،
ولهذا يذكرون في
شروط الإمام (الرأي
المفضي إلى
سياسة الرعيّة
وتدبير
المصالح) كما
قال الماوردي
في الأحكام
السلطانية،
وعبّر
عنه الجويني
بقوله (توقُّد
الرأي في
عظائم الأمور
والنظر في
مغبّات العواقب
) الغياثي 98
ويقول أيضاً (وهذا
المنصب إلى
الرأي أحوج
منه إلى ثبات
الجنان)
الغياثي 83.
وكذلك اشترط
هذا الشرط
(الرأي) في أهلِ
الحلّ
والعقد، فيقول
الجويني
وصفاً لهم (الأفاضل
المستقلّون
الذين حنّكتهم
التجارب وهذّبتهم
المذاهب،
وعرفوا
الصفات المرعيّة
فيمن يناطُ به
أمرُ الرعيّة)
ثم يقول فيهم (فالفاضلُ
الفَطِن المطّلع
على مراتب
الأمة،
البصير
بالإيالات
والسياسات
ومن يصلح لها...
يتّصف بما
يليق بمنصبه في
تخيّر الإمام
)
بل إن الرأي
من الجهاد،
فهذا الكمال
بن الهمام
يقول في تعريف
الجهاد (بذلُ
الوسع في القتال
في سبيل الله
مباشرةً أو
معاونة بمال
أو رأي ...) نقله
ابن عابدين في
حاشيته 6/196
وقال البهوتي
الحنبلي (تعلّمه
وتعليمه يدخل
بعضه في
الجهاد، وأنه
نوع من
الجهاد....من
جهة أنه به
إقامة الحجج
على المعاند
وإقامة
الأدلة....فهو
كالجهاد
بالرأي )
كشاف القناع 1/39
وفيه أيضاً
نقلاً عن ابن
تيمية قال (قال
الشيخ: الجهادُ
المأمور به
منه ما يكون
بالقلب كالعزم
عليه،
والدعوة إلى
الإسلام وشرائعه،
والحجّة: أي
إقامتها على
المُبطِل،
والبيان أي
بيان الحق
وإزالة
الشبهة،
والرأي
والتدبير
فيما فيه يقع
المسلمون،
والبدن أي
القتال
بالنفس....فيجب
الجهاد بغاية
ما يمكنه من
هذه الأمور، قلتُ:
ومنه هجو الكفّار
كما كان حسّان
بن ثابت عنه
يهجو أعداء
رسول الله صلى
الله عليه
وسلم )كشاف
القناع 2/364 365
ومما يوضح لك
أثر الرأي وقوّته
في الحرب
وعظيم أثره،
ما نصّ عليه
أهل العلم في
جواز قتل أهل
الراي في
الحرب من
الكفار ما
نقله ابن
قدامة (ومن كان ذا
رأيٍ يُعينُ
به في الحرب
جاز قتله، لأن
الرأي في
الحرب أبلغ من
القتال لأنه
الأصل ومنه
يصدر القتال
)
قال المتنبي :
الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ ..........هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني
فإذا
همَا
اجْتَمَعَا
لنَفْسٍ
حُرّةٍ............ بَلَغَتْ
مِنَ
العَلْياءِ
كلّ مكانِ
وَلَرُبّما
طَعَنَ
الفَتى
أقْرَانَهُ............. بالرّأيِ
قَبْلَ
تَطَاعُنِ
الأقرانِ
الكافي
5/477، 478
ويقول
السرخسي عند
كلامه عمّن لا
يجوزُ قتله من
الكفّار (وهذا إذا كان
لا يقاتل برأيه،
وأمّا إذا كان
يقاتل برأيه
ففي قتله كسر
لشوكتهم، فلا
بأس بذلك، فإن
دريد بن الصمة
قُتِل يوم
حنينٍ، وكان ابن
مائة وستين
سنة وقد عمي
وكان ذا رأيٍ
في الحرب) المبسوط
10/137
قال النووي (فإن
كان فيهم من
له رأي يستعينُ
به الكفّار
برأيه وتدبير
الحرب قُتِل
قطعاً)
الروضة 7/444
قال الماوردي
(أهل
الرأي
والتدبير ممن
لم يُقاتِل من
المشركين
منهم دون
القتال فيجوز
قتلهم ...لأنّ
التدبير أنكى
وأضرّ) الحاوي
الكبير 14/192
وقال البهوتي
في تعليل جواز
قتل أهل الرأي
(ولأن
الرأي من أعظم
المعونة في
الحرب وربما
كان أبلغ من
القتال) شرح
منتهى
الإرادات 3/19
وهذا الإدراك
من السلف
بضرورة الرأي ومحوريّته
في إدارة
الصراع ناتجٌ
بالأساس من
فهمهم الشامل
لإدارة الصراع،
وأنّه لا
ينحصر في
المواجهة أو
الصدام
المسلّح وإنما
يشتمل على
محاور
متعدّدة.
"فالمجتمع
الإسلامي هو
مجتمع رسالي
له غاية عليا،
وهي التمكين
لدين الله
سبحانه
وتعالى، هي
مدار قيام
المجتمع المسلم
ووظيفته
ويسخر لها كل
إمكانيّاته
وطاقاته
المادّية والمعنويّة،
وترى ذلك
جليّاً في
تعليل الفقهاء
لكون الجهاد
فرض على
الكفاية حال
استقرار
العدو في
دياره، وليس
من فروض
الأعيان،
وذلك لأن
اشتتغال الكلّ
بالجهاد يقطع
مادّة الجهاد
أصلاً، فمنهم
من يقوم بأمور
الجهاد بنفسه
من سلاح
وعتاد، ومَن
يقوم بأسبابه
من العلم
والرأي
والسياسة،
ومن يقوم بأمور
المعاش التي
تعدّ الجهاد
وتمهّد له من
التجارة
والصناعة
والزراعة
وسائر الحرف
التي تقوم بها
المصالح وتحصّل
بها القوة" بمعناه
في فتح القدير
5/424 ، 425 ____ تبيان
الحقائق 3/241
وقد كان هذا
الأمر واضحاً
في العصر
الأول، فقد
قال عمر رضي
الله عنه
يوماً
لأصحابه (تمنّوا)
فقال أحدهم (أتمنى أن
يكون ملء هذا
البيت دراهم
فأنفقها في
سبيل الله)،
فقال عمر (تمنّوا)
فقال أحدهم : ( أتمنّى
أن يكون ملءُ
هذا البيت
ذهباً فأنفقه
في سبيل الله)
، فقال عمر: (تمنّوا)
، فقال أحدٌ
آخر (أتمنى
أن يكون ملءُ
هذا البيت
جوهرًا أو
نحوه فأنفقه
في سبيل الله)،
فقال: (تمنّوا)
، فقالوا: (ما
تمنّينا بعد
هذا)، قال
عمر ( لكنّي
أتمنّى أن
يكون ملءُ هذا
البيت رجالاً
مثل أبي عبيدة
بن الجراح،
ومعاذ بن جبل،
وحذيفة بن
اليمان..
فأستعمِلُهم
في طاعة الله)
رواه أبي نعيم
في الحلية، و
الحاكم في
المستدرك.
وما اختاره
عمر رضي الله
عنه هو الصواب
وهو خير
استثمار على
الإطلاق....وهو
إعداد النخب
والمفكرين،
فالمال قوّة
ولا شك
ولكن
فيم ينفق
المال؟ إنما
ينفق أوجب ما
ينفق على
إعداد
الرجال،
إعداد
الباحثين
والمفكّرين
وأهل الرأي
الذين يديرون
الصراع ويوجّهون
دفّته، بل لا
قيام للجهاد إلّا
بهم، ومن أوجب
الواجبات
اليوم إيجاد
هذه النّخب
والإنفاق
عليهم،
لتفريغهم حتى
لا يشغلهم
معاشُهم
وأبناؤهم عن
القيام
بدورهم
المنوط بهم، لأنهم
قوة للمسلمين
وعدّة لهم.
والمحصلة أن
العلم والرأي
والإنفاق في
ذلك السبيل
مرتهنٌ بقضية
الصراع مع
الغرب
وأذنابه، بل
بقضية وجود
الإسلام، وأنه
لا بد من
تحصيل القوة،
وقد نصّ أهل
العلم على
وجوب تحصيل
القوة على
الابتداء
والاستدامة
والاستمرار،
ولا يتوقف ذلك
على وجود صراع
أو جهاد، أي
أن تحصيل
القوة
وبقائها واستمرارها
واجبٌ بلا
وجود ضرورة،
بل أن تحصيل
القوة هو نفسه
ضرورة شرعية
عامّة، وهي
ضرورة لحفظ
الدين على
المستوى
العام فهي أعلى
أنواع
الضرورات،
فكيف بنا
والعدو قد عاش
معنا يؤاكلنا
ونؤاكله
ويشاربنا
ونشاربه، ويحكم
حياتنا كلها
على غير شريعة
الله تعالى،
فكيف لعاقلٍ
والحالة كهذه
يأبى الإنفاق
في تحصيل القوّة
وتجهيز
الرجال في
جميع
المجالات
والتخصّصات
التي تمسّ
معنى القوة،
ويمكّن بها
ومن خلالها
مصارعة العدو وقهره
في عقر داره؟
ولله الأمر من
قبل ومن بعد.
وما
ذكرناه آنفاً
من العلم والجهاد
وغيره من
الواجبات هي
في الأصل من
فروض
الكفايات عند
استقرار
الأمة، وقيام
الخلافة،
وتطبيق شرع
الله، ولكنّه
الآن مع
احتلال أراضي
المسلمين،
وسقوط دولتهم،
وضياع
شريعتهم،
وانحلال
مجتمعاتهم،
وعلمانيتها،
وسرقة
ثرواتها،
والتحكّم في
قرارها ومصيرها،
ممّا هو مشاهد....فقد
أصبحت هذه
الفروض
الكفائية
فروض عينية على
المسلمين.
وهنا لا بد من
التنبه لأمر
وهو أنّه (قد يصحّ
أن يقال أنّه
واجبٌ على
الجميع على
وجه من
التجوّز، لأنّ
القيام بذلك
الغرض قيامٌ
بمصلحة
عامّة، فهم
مطلوبون
بسدّها على
الجملة، فبعضهم
هو قادرٌ عليها
مباشرة وذلك
من كان أهلاً
لها،
والباقون
وإنّ لم يقدر وا
عليها قادرون
على إقامة
القادرين،
فمن كان قادراً
على الولاية
فهو مطلوب بإقامتها،
ومن لا يقدر
عليها مطلوب
بأمر آخر وهو
إقامة ذلك
القادر وإجباره
على القيام
بهذا،
فالقادر إذاً
مطلوب منه إقامة
الفرض وغير
القادر مطلوبٌ
بتقديم ذلك
القادر ما لم
يتوصّل إلى
قيام القادر
إلّا
بالإفادة
فيما لا يتمّ
الواجب إلّا
به)
الموافقات ج 1
ص 128/129
وعلى ذلك فرض
الكفاية في
العلم والرأي
متوجه إنشاءها
وإيجادها
واستمرار على
القادر عليها
أصالةً
بتأهله لذلك،
وأيضاً على
غيره ممن لم
يتأهل بإقامة
القادر وأمره
وإعانته
بالمال وغيره
حتى يقوم
الفرض الكفائي،
فالطلب قائم
على الكل
المتأهل
والعاجز بإقامة
المتأهل
وإعانته
وأمره بذلك.
وقد كان
المسلمون -إبان
دولتهم-
يقومون بالإنفاق
على القائمين
بالفروض
الكفائية
والمصالح
العامة من بيت
المال، وقد
كان لبيت المال
موارد كثيرة
مثل الزكاة
والفيء
والجزية والخراج
والغنائم
والركاز وكان
له مصارف ينفق
فيها أموال
هذا المورد.
ويقول
الغزالي رحمه
الله (فكل
من يتولى
أمراً يقوم به
تتعدى مصلحته
إلى المسلمين،
ولو اشتغل
بالكسب
لتعطّل عليه ما
هو فيه فله من
بيت المال حقّ
الكفاية،
ويدخل فيه
العلماء كلّهم،
أعني العلوم
التتي تتعلق
بمصالح الدين...من
علم الفقه
والحديث
والتفسير
والقرّاء..حتى
يدخل فيه
المعلمون
والمؤذّنون
وطلبة هذه
العلوم إنما
يدخلون فيه,
فإنّهم إن لم
يُكفَوا لم
يتكفّوا من
الطلب، ويدخل
فيه العمّال،
وهم الذين
ترتبط مصالح
الدنيا
بأعمالهم،
وهم الأجناد
المرتزقة
الذين يحرسون
المملكة
بالسيوف عن
أهل العداوة
وأهل البغي
وأعداء
الإسلام،
ويدخل فيه
الكتّاب
والحسّاب
والوكلاء،
وكل من يحتاج
إليه في ترتيب
ديوان
الخراج، أعني
العمال على
الأموال
الحلال لا على
الحرام، فهذا
المال
للمصالح. والمصلحة
إنّما تتعلق
بالدين أو
بالدنيا، فبالعلماء
حراسة الدين
وبالأجناد
حراسة الدنيا،
والدين
والملك
توأمان فلا
يستغنى أحدهما
عن الآخر،
والطبيب وإن
كان لا يرتبط
بعلمه أمر
دين، ولكن
يرتبط به صحة
الجسد والدين
يتبعُه،
ويجوز أن يكون
له ولمن يجري
مجراه من
العلوم
المحتاج إليها
في مصلحة
الأبدان أو
مصلحة العباد
بإدرار من هذه
الأموال ليتفرّغوا
لمصلحة
المسلمين...
وليس بشرطٍ في
هؤلاء الحاجة....بل
يجوز أن يُعطَوا
مع الغنى، فإن
الخلفاء
الراشيدين
كانوا يعطون
المهاجرين
والأنصار ولم
يعرفوا
بالحاجة، وليس
تقدّر بمقدار،
بل هو إلى
اجتهاد
الإمام
وله أن يوسّع
ويغني، وله أن
يقتصر على الكفاية
على ما يقتضيه
الحال وسعة المال،
فقد أخذ الحسن
-عليه السلام-
في دفعةٍ
واحدة
أربعمائة ألف
درهم، وقد كان
عمر -رضي
الله عنه-
يعطي الجماعة
اثني عشر ألف
درهم في السنة
...) الإحياء ج 2
ص199
فكيف بنا
الآن وقد
انعدمت موارد
بيت المال ولم
يتبق في أيدي
المسلمين
إلّا الزكاة؟
وقد كان أمر
إقامة الدين
والدفع عنه من
أهمّ
المهمّات عند
علماء
المسلمين،
والتي يقدّمونها
في الإنفاق
عليها، وإن
تزاحمت مع
غيرها، بل وإن
تزاحمت مع
الفقراء
والجياع.
فهذا
شيخ الإسلام
يقول في
الفتاوى
الكبرى ( لوضاق
المال عن
إطعام جياعٍ،
والجهادُ
الذي يتضرّر
بتركه. قدّمنا
الجهاد وإن
مات الجياع،
كما في مسألة
التترّس
وأولى، فإن
هناك نقتلهم
بفعلنا، وهنا
يموتون بفعل
الله)
الفتاوى
الكبرى 5/237
فانظر إلى ما
قاله شيخ
الإسلام ثم
انظر إلى
واقعنا وما
نحن فيه، من
ضرورة عامّة
لدفع أعدائنا
عنّا سياسيًا
واقتصادياً
وثقافياً
ودعائيًا
وعسكريّاً،
وما يحتاجه
ذلك من مؤهلين
وباحثين ومفكرين
وعلماء...الذين
هم عدّة هذا
الدفع وأساسه
وأصله، ثم اعقل
فيما يكون
إنفاق
الأموال
ولمن؟!
وما سبق بيانه
عن المال كأصل
للقوة
ومصارفه
وأولويات
إنفاقه، إنما
كان لبيان
منهج الإسلام
في هذا الأمر،
ولكن السؤال
الذي يطرح
نفسه الآن: هل
الزكاة تسير
على نفس المنهج
والطريقة أم
انّ لها طريق
آخر؟
قال تعالى " إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا
وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ
وَفِي
الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ
وَفِي
سَبِيلِ
اللَّهِ
وَابْنِ
السَّبِيلِ
فَرِيضَةً
مِّنَ
اللَّهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ
حَكِيمٌ )
التوبة آية 60
قال
الطبري (والصواب
في القول في
ذلك عندي أنّ
الله جعل
الصدقة في معنَيَين:
أحدهما مدخلُ
المسلمين،
والآخر معونةُ
الإسلام
وتقويته..فما
كان في معونة
الإسلام
وتقوية
أسبابه فإنه يُعطَاه
الغنيّ والفقير،
لأنه لا يعطاه
بالحاجة منه
إليه، وإنما
يعطاه معونةً
للدين وذلك
كما يعطاه
الذي يعطاهُ
بالجهاد في
سبيل الله. فإنّه
يعطى ذلك
غنياً كان أو
فقيراً للغزو -لا
لسدّ حاجته-،
وكذلك المؤلفة
قلوبهم يعطون
ذلك وإن كانوا
أغنياء
استصلاحاً
بإعطائهم) تفسير
الطبري 14/316
وعلى ذلك يمكن
تقسيم مصارف
الزكاة إلى
مصارف لصيانة
الجبهة
الداخلية
والحفاظ
عليها،
ومصارف أخرى
لإدارة
الصراع مع
الأعداء، فالمصارف
إما أن تكون
صريحةً في
بناء الداخل،
أو صريحةً في
إدارة الصراع
من الخارج،
وكلاهما يرجع
إلى مقصدٍ
واحد،
فالفقراء والمساكين
والعاملون
عليها مصارف
لتقوية الجبهة
الداخلية،
والمؤلفة
قلوبهم وفي
الرقاب وفي
سبيل الله
إدراة صراعٍ
بالأصل، وابن
السبيل ربّما
يلحظ فيه الناحيتين
بالتساوي،
وعليه فإنفاق
الزكاة إنما
هو بكلّيته
نظرٌ سياسيٌ
لتحقيق مصلحة
الدين.
يقول الزمخشري (فإن قلت لِمَ عَدَلَ عن اللّام إلى (في) في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإيذان بأنّهم أرسخ في استحقاق التصدّق عليهم ممن سبق ذكره، لأنّ (في ) للوعاء، فنبه على أنهم أحقّاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنّة لها...) الكشاف 2/283
وهذا
القول الأخير
عن الزمخشري
يؤكد النظر السياسي
لمصارف
الزكاة، كما يوضح
رسوخ المصارف
التي لإدارة
الصراع، ولا
شكّ أنه عند
تزاحم
الأولويات
يجب أن تُقدّم
مصارف إدارة
الصراع كما نقلنا
ذلك عن
الغزالي وابن
تيمية فيما
سبق،
وبقولٍ
آخر فإن تقديم
إنفاق الزكاة
في المصالح
على غيرها من
المصارف هو
تطبيق لقاعدة
المصارف
العامّة
للدولة
الإسلامية والتي
تُقدِّم
المصالح
العامّة على
غيرِها في
مصارف
الدولة،
فالزكاة بأصل
تشريعها يلحظ
فيها النظر
السياسي
إليها خادمة
لتقوية الجبهة
الداخلية
الضرورية
لإدارة
الصراع،
وأيضاً
لاشتمال
مصارفها على
إدارة الصراع ،
ثم أنّها
مندرجة في
أولوية
المصالح
العامة
المتعلقة
بالأمة عند
تزاحم
الأولويات
تحت القاعدة العامة
للإنفاق
المتعلقة
بمصارف بيت
المال وأولوية
المصالح
العامة فيه
كما سبق
ونقلنا عن
الغزالي
وغيره.
وإذا نظرت إلى
نصوص الفقهاء
في كتبهم عن
مصارف الزكاة
، في وضع
الاستقار
وعدم وجود
صراع سواء مع
أعداء الخارج
أو أهل البغي
والفتن في
الداخل،
تجدهم يراعون الإنفاق
في المصالح
العامّة
ففي الحنفيّة نجد أن (علّة الزكاة هي مراعاة الحاجة) كما في شرح فتح القدير 2/269 ، ولكن يتّضح من تصرّفاتهم مراعاة المعنى الكليّ للزكاة، فالرؤية المصلحية عندهم غاية فقالوا (طالب العلم يجوز له أخذ الزكاة ولو غنياً إذا فرّغ نفسه لإفادة العلم واستفادة لعجزه عن كسبه والحاجة واجبة أى مما لا بدّ منه، والمعنى أنّ الإنسان يحتاج إلى أشياء لا غنى عنها فحينئذ إذا لم يجز له قبول الزكاة مع عدم اكتسابه أنفق ما عنده ويمكث محتاجاً فينقطع عن الإفادة والاستفادة. فيضعف الدين لانعدام من يتحمّله ) بدائع الصنائع 2/46
وعند
المالكية كما
عند الحنفيّة
المُراعَى هو
الحاجة
والمنفعة،
ويتّضح من تصرّفاتهم
في الترتيب في
الصرف أنه مع
الحاجة تُعتَبر
المنفعة
العامة.....لذا
تجدهم لا يقدّمون
الفقراء
والمساكين في
حالاتٍ، حيث
يكون الصّرف
إلى غيرهم
نافع.
كما نصّ
الخرشي على (تقديم
العاملين
عليها على
غيرهم،
وتقديم ابن
السبيل على
الفقير لأنّه
في وطنه -أي
الفقير- ،
وتقديم المؤلّفة
قلوبهم عل
الفقراء، بل
وتقديم
الغازي على
الجميع حتّى
على العامل
)شرح الخرشي
على حاشية
العدوي 2/128
وكذلك نلحظ عند الحنابلة مراعاة الحاجة والمنفعة، فيقول البهوتي( وإن تفرّغ قادر على التكسّب تفرغاً كليا للعلم الشرعي لا إن تفرّغ ( للعبادة) وتعذّر الجمع بين التكسّب والاشتغال بالعلم أعطي من الزكاة لحاجته، وإن لم يكن العلم لازما له يتعدى نفعه، ويجوز أخذه ما يحتاج إليه من كتب العلم التي لا بد لمصلحة دينه ودنياه منها . ذكره الشيخ تقي الدين) شرح منتهى الارادات 2/309
ونجد عند
الشافعيّة
نظراً إلى
المصالح
العامة، رغم
قولهم بضررة
صرف الزكاة
للأصناف
الثمانية، أو
من يوجد منها
قال النووي (ولو
قدر على كسبٍ يليقُ
بحاله إلا أنّه
مشتغلٌ
بتحصيل بعض العلوم
الشرعيّة
بحيث لو أقبل
على الكسب لا
نقطع عن
التحصيل حلّت
له الزكاة لأن
تحصيل العلم
فرض كفاية )
المجموع 6/2171
ولاحظ
هنا أنّ طلب
العلم كان فرض
كفاية في عهد
النووي لأن العلماء
متوافرون
وتنفق عليهم
الدولة، بل
كان علماء الشريعة
مقدّمون على
غيرهم ، أمّا
الآن فإنّ طلب
العلم تحوّل
من فرض كفاية
إلى فرض عين،
فعلى ذلك يجب
إعطاء طالب العلم
من أموال
الزكاة خاصةً
وإن كان
فقيراً فإنّه
يستحقّ
الحاجة
والمنفعة
معاً وهو ما
يتضح معه
النظر المصلحي
في الزكاة عند
الشافعية،
حتى إنّنا نجد
البكري في مراعاة
النظر
المصلحي
للزكاة
يقول (قال
ابن عجيل
اليمني ثلاث
مسائل في
الزكاة يفتى
فيها على خلاف
المذهب، نقل
الزكاة، ودفع
زكاة واحد إلى
واحد، ودفعها
إلى صنف واحد.)
حاشية البكري
محمد بن شطا
على الخطيب 3/78
وقد ذكرنا سابقاً أن الدولة الإسلامية كان لديها موارد متعدّدة لبيت المال تنفق منها على المصالح العامة، وكانت هناك أيضاً أوقاف كثيرة في بلاد الإسلام وتفنّن الصالحون من المسلمين في ذكر أنواع الموقوف عليهم، فهذا موقوفٌ على طلبة العلم، وهذا على الفقراء وهذا على الزهّاد وهذا على المرضى، وهذا على الأطبّاء وهكذا.
فإذا
انقطع عن
المسلمين هذا
المورد وغيره
من الموارد،
ولم يتبقّ إلا
مورد الزكاة
والصدقات،
ونحن اليوم في
جهاد دفعٍ لا
طلب،
والأعداء
دخلوا كل ديار
الإسلام
واحتلّوها،
فوجبَ على
المسلمين أن ينفقوا
هذه الأموال
في تحصيل
أدوات القوة
ومن أعظمها
النخب
المؤهلة من
الفقهاء
والمفكرين
والباحثين.
وذلك لأنّنا
في ضرورة وأي
ضرورة، فنحن
في صراع وجودٍ
مع القوى
الغربية وأذنابها،
وإذا كان
العلماء تكلّموا
في أنّ بيت
المال إذا فرغ
من أموالٍ ،
والمسلمون
محتاجون إليه
في جهادهم،
فأجازوا
توظيف مال على
أغنياء
المسلمين لسدّ
هذا الواجب،
لأنّه ( ما لا يتمُّ
الواجبُ إّلا
به فهو واجب،
وذلك للضّرورة
المتحقّقة
حينئذ )
الغياثي ص256
فما
بالك اليوم
وحرب الإسلام
سياسيًا
واقتصادياً
وثقافياً
وعسكريّا في
كل أقطار الدّنيا
في أوجهها فأي
ضرورةٍ أعظم
من ذلك!؟
Comments