أصبح هذا من المصطلحات المألوفة في كل مناسبات ثورة يناير، حيث يتردد هنا وهناك في إطار اللوم والاستنكار، أو التندر والشماتة من الأكثرية، أو في إطار الأسف وجلد الذات من البعض، من مفكري الفيس وغيرهم، (أن الثوار ﻻ يمتلكون "رؤية" للمستقبل)، والمفهوم والمضمر أنهم يقصدون "الإخوان" بدلاً من قولهم الثوار، وﻻ عجب فالإخوان هم جملة الثوار، وهم المقصودون سواءً أسرَّ القائل أو أعلن، وهذا من قبيل التبكيت والإغاظة والنبذ بالألقاب، مما يشيع العداوة بين الثوار، ويوقع الفرقة بين المؤمنين، شاء المباكِتُ أم أبى !!
وبغض النظر عن كون المصطلح دخيلاً، ومحشوراً حشراً بما يُشيعُ اللغط وتضييع الحقائق، وتفريق دم شهداء يناير بين القبائل، ووستر الجاني المنقلب عن الأعين بما يدفع التهمة عنه وينسبها إلى مجهول، شاء المتحدث بالمصطلح أم أبى !!
أقول بغض النظر عن هذا كله، ماذا يعني هذا المصطلح الدخيل ؟! إن كان يقصد الغايات والاستراتيجية، فبلا شك أننا نمتلك رؤية في غاية الوضوح والظهور، وهي إزالة الانقلاب وآثاره، وإقامة دولة العدل والحرية والرفاه إلى أستاذية العالم، ولا شك أن إمكانات أوطاننا وشعوبنا تتأهل لذلك وتتسع له بالجغرافيا والتاريخ وإدراك الواقع، وقد كان ذلك لأمتنا قرونا متطاولة، فليس بدعاً من القول، وﻻ ضرباً من الخرص والظن والأمانيِّ الحالمة !!
وإن كان يقصد الوسائل والتكتيكات فنعم لم يبق من ذلك شيئٌ منظور - وإن كان اللظى تحت الرماد يوشك أن يضطرم - بسبب العداء والقمع العالمي والإقليمي والمحلي، وحشد صنوف القوى المجرمة والغاشمة ضد الثوار المستضعفين لأقصى حدود الاستضعاف، والعاجزين - فيما أظن - عجزاً تاماً، ينتفي معه كليا اللوم فضلاً عن الإستنكار والشماتة !!
وحالة العجز المستحكم هذه مسألة قضاء وقدر، ينبغي أﻻ يزيدَ قولُ المؤمن فيها عن "قدر الله وما شاء فعل" ! وينبغي أﻻ يقل حاله عن التسليم لما قضى الله تعالى وقدَّر من الخير والشر، فهذا هو الإيمان بالقدر خيره وشرِّه الذي هو ركن الإيمان، وهذا العجز من شر القدر وﻻ شك، والذي يلزم المؤمنُ السعيَ في تغييره، فليس العيب فيمن ألقي في اليم مكتوفاً أن يبتل بالماء، وﻻ يتندر عليه حينها إﻻ مخبولٌ سخيف، لكن المُلْقى في اليم يكون أشدُّ خبلاً، وأعظم سُخْفاً إذا فكر مثقال ذرة أﻻ يبتل بالماء، دون أن يكونَ جلُّ همِّه وأعظم سعيه في الخروج من اليم والنجاة من الغرق !!
فهذا التسليم الواجب ضرورةً لما قدّره الله تعالى علينا من العجز التام عن مجابهة الأعداء حالياً، ﻻ يعني الرضا بهذا العجز والركون إليه والتذرع به عن التغيير المنشود لبلوغ الهدف المقصود، كما أنه ﻻ يعني الاستنكار والشماتة واللوم وجلد الذات، وإنما سبيل الحق بين الإنحرافين هو التسليم لقدر الله تعالى علينا بالعجز مع السعيِ الحثيث في تغييره حسب القدرة والإمكان حتى يأذن الله بتغييره، فهو وحده تعالى وليُّ ذلك والقادر عليه !!
ثم متى كانت تلك الرؤية الستقبلية ﻻزماً على المكلفين وجودُها مطلقاً، من دون اعتبار للقدرة والاستطاعة اللتان بهما تعتبر الواجبات وتلزم وإﻻ فلا، "فاتقوا الله ما استطعتم"، "ﻻ يكلف الله نفساً إﻻ وسعها"، "ﻻ يكلف الله نفساً إﻻ ما آتاها"، ونحو ذلك من البديهيات التي ﻻ تنكر، لكن ما الحيلة وقد ابتلينا بزمان يرتاب الناس فيه في البديهيات ويمارون في المحكمات !!
وما يأسَ نوحٌ عليه السلام ألف سنةٍ إﻻ خمسين عاما من العجز التام عن ردع عدوه، رغم مداومته على مجابهتهم بالدعوة والصبر على أذاهم في تبليغها حتى أتاه نصر الله فأنجاه الله والذين آمنوا معه، وأغرق كلَّ أهل الأرض من دونهم أجمعين !!
وكذلك كان إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، حتى جاء نبينا عليه السلام فما كان بدعاً من إخوانه من الرسل فبلغ البلاغ المبين ولم يتوانَ، وصبر عل أذى عدوه في تبليغ دعوته الصبر الجميل ولم ييأس، ولخص الوحي الذي نزل في الفترة المكية، في آيةٍ واحدةٍ جلية محكمة من خواتيم سورة يونس، لخصت الرؤية المستقبلية في زمان الاستضعاف وتسلط الأعداء وانقطاع الأسباب فقال تعالى :
"واتَّبع ما يُوحَى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين" !!
تعليقات