مما لا ينقضي منه العجب أن تقرأ قصة ما أو رواية أو شاهدت فيلما أو مسرحية فتعرف شخصيات القصة في المقدمة وتتعرف عليهم ثم تعايشهم أثناء السرد والسياق والموضوع، وعندما تتصاعد الأحداث شيئا فشيئا رويدا رويدا، وتصل إلى نهايتها يظهر لك اسم شخص لم يمر عليك من أول القصة حتى الموضع الذي وصلت إليه، والعجب أن هذا الشخص هو بطل القصة وهو مقصدها وقضية موضوعها، كيف يكون الحال؟ وماذا ستصنع؟ فهل من الممكن أن يفعل هذا أحد يدور في خلدك؟
هذا ما حدث أثناء حكاية ربنا تعالى لقصة بني إسرائيل آخر الجزء الثاني من سورة البقرة، قصة داود وجالوت، أو طالوت وجالوت.
يبدأ السياق ببني إسرائيل من بعد موسى لما قالوا لنبيهم وطلبوا منه أن يرسل لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم، هؤلاء القوم الظالمين، فكان هذا الحوار والمشهد الأول مع نبيهم، الذي أخبرهم أنهم ربما يتقاعسون عن القتال ويتخاذلون إذا كتبه الله عليهم، فأنكروا عازمين على القتال والجهاد، كيف لا وقد قتل الأعداء من الأولاد والذرية وأخرجوهم من الأرض والديار والأموال.
ثم المشهد الثاني واختيار الله تعالى لطالوت عليهم ملكا، يقاتلون معه ويجاهدون، أظهروا الرفض والإباء لشخص طالوت استقلوه فيما بينهم مالا ونسبا، حيث لم ينظروا إلى ما وهبه الله من أدوات القوة جناحيها: العقل والجسم، العلم والقدرة.
ثم المشهد الثالث مشهد دال على مادية بني إسرائيل، وكيف أنهم لا ينقادون إلا بالأدلة المادية المحسوسة، وهو التابوت بما فيه من سكينة من ربهم وبقية من إرث آل موسى وآل هارون، أتتهم به الملائكة تحمله.
ثم المشهد الرابع مشهد الاختبار والامتحان، لما مر بهم طالوت بنهر الأردن أمرهم ألا يشربوا منه إلا غرفة لمن فعل ذلك، فشربوا أكثرهم، وفارقوا الجيش الذين شربوا، ولم يبق مع طالوت إلا عدة بضعة عشر وثلاثمائة مؤمن، كما حكى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يوم بدر على عدد أصحاب طالوت.
ثم المشهد الخامس أو مشهد ما قبل المعركة حيث استقل المؤمنون الذين مع طالوت أنفسهم واستضعفوها عن مقاومة أعدائهم نظرا لقلة عددهم مقارنة بالعدو، ولكن جاء رد أقوياء الإيمان واليقين منهم قاطعا حاسما كما حكى ربنا تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
ثم مشهد آخر قبل المواجهة أو عندها ولعله عند اصطفاف الجيوش ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾
وهنا يأتي مشهد المعركة والقتال والجهاد، والتقاء الجيشين والتحامهما، وهو مشهد تجاوزه الله عز وجل في الحكاية تنويها بأن النصر إنما جاء عقب الدعاء من المؤمنين ربهم تعالى أن يفرغ عليهم وينزل عليهم صبرا يستغرقهم وتثبيتا لأقدامهم في أرض الحرب والقتال، فهذا سؤال لتثبيهم ظاهرا وباطنا تثبيتا يتحقق به النصر من عند الله تعالى، وقد كانت إجابته سبحانه سريعة إليهم حيث جاءت بفاء التعقيب ضاربة عن أحداث ربما كانت بين الوقتين، كأنها لم تكن.
ثم مشهد النصر حيث حكاه الله تعالى ممتنا على عباده المؤمنين ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي بفضل الله وحوله وقوته لا بقوتهم ولا بفضلهم، مع قلة عددهم وضعفهم في مقابل قوة عدوهم وعددهم الذي هو أضعاف عدد المؤمنين.
ثم المشهد العجيب مشهد ﴿وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ﴾ الذي يظهر فيه سببًا جعله الله لهذا النصر، وفيه تسمع اسم شخصية لم يتعرض لها السياق من قبل، ولم تذكر في الحكاية قبل هذا الموضع، لا من أول القصة، ولا من أول السورة، ولعل سبق معرفتنا بالقصة والحكاية، ومعرفتنا لداود عليه السلام، لم يقع ذلك منا موقع التعجب أو الاستغراب، ولكن هكذا قص الله تعالى علينا هذا القصة، وادخر التصريح باسم بطلها حتى لحظة النهاية، لا لشيء إلا لكونه فعلا لم يكن من الظهور بمكان أثناء هذا الحدث التاريخي قبل الوصول لنقطة النصر والنهاية.
ثم المشهد الأخير مشهد التتويج لهذا الجندي البطل الذي جعله الله تعالى سببا لهذا النصر الجليل ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾.
وهنا يثور سؤال: هل نزلت الحكمة أو تسربل الملك على داود للتو هذه اللحظة؟
والجواب قطعا لا. ولكن داود عليه السلام كان هذا الشاب الذي نشأ في هذه الفترة العصيبة لبني إسرائيل حيث كانوا فيها مستضعفون، بعدما غزاهم العمالق وتسلطوا عليهم وأخذوا منهم التابوت وقتلوا من قتلوا وأسروا منهم من أسروا، ووقعوا في التيه، تيه الذل والهوان والاستضعاف، ماذا يصنعون؟، ولجأوا إلى نبيهم على ما قص ربنا تعالى.
في هذه الفترة انشغل داود عليه السلام، هذا الشاب الفتي اليافع، انشغل بنفسه إعدادا لها، في أهم سبيلين يمكن أن ينشغل بهما من أراد الخروج من مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل، من الذلة والهوان والاستضعاف، وتكالب الأعداء عليها، وهما سبيل العلم وسبيل القوة. فأعد نفسه عالما مقاتلا، أعد نفسه مجاهدا في أهم مجالين يحبهما الله ورسوله، وأول ما ينصرف لفظ الجهاد ففيهما، جهاد العلم، وجهاد السلاح، جهاد العلم والسنان، جهاد السيف والقلم.
فلا قيام لأمة لا علماء فيها، ولا قيام لأمة لا مجاهدين فيها، ومتى عدما، لاسيما العلماء، فهي مصيبة العمر وقاصمة الظهر.
فنعم الوصية هي لشباب الأمة: كن عبد الله داود. واشغل نفسك بما تستطيعه وتقدر عليه وتتمكن منه، فيما كنت فيه من تخصص لاسيما الشرعي، وإن لم يكن فاجمع بينهما، وهذه ليست رفاهية ولا اختيار، وإنما وجوب شرعي لا فكاك منه ولا عنه وسوف تسئلون.
فليس في الأمة إلا قادر أو غير قادر، والقادر يقوم بما وجب عليه مما هو في قدرته، وغير القادر يجب عليه أن يقف خلف القادر داعما له بما يملك، من الدعم المادي المالي أو المعنوي، وإن لم يجد قادرا على القيام بالأعباء، وجب عليهم إيجاد القادر وجوبا محتما، فليس في الأمة عجز أبدا، ولا في الأمة عدم استطاعة، ولا حجة لأحد بعد بيان الله تعالى ورسوله، وعمل المسلمين وإجماعهم على ذلك أزمنة عديدة مديدة، قبل أن يحل علينا زمن الضعف والاستضعاف، زمن القصعة التي يتكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، وألقى الله في القلوب الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت والقتال.
لم يكتف داود أن يكون طالبا للعلم لم يكمل الطريق فيه، مكتفيا بما لا يسع المسلم جهله، ولكن بلغ الطريق منتهاه، حتى صار عالما فقيها مجتهدا ربانيا أوتي من الحكمة ما شاء الله له أن يؤتاها.
ولم يكتف بذلك بل جمع مع الفقه والحكمة والربانية في العلم أن يكون مجاهدا مقاتلا بالسلاح، ولم يكتف أن يكون جنديا ساذجا على حواش الجيوش أو في مؤخرتها، وإنما أعد نفسه إعدادا يليق بجندي من الصفوة والنخبة التي يوكل لها أعظم المهام وأهمها، كقتل رءوس الكفر من الأعداء الأشداء الأقوياء.
فكن كعبد الله داود في همته ونهمته للعلم والجهاد، ولا تقنع بالدون، بل كن مع ذوي الهمم العالية، التي لا ترضى من الجنة إلا بالفردوس الأعلى، وانهض فإن هذا زمن الرجال.
تعليقات