وقت القراءة: 6 دقائق/دقيقة (1274 كلمات/كلمة)

عصر التفاهة وغياب القيم

 

أصبحت التفاهة والتسطيح والغباوة والجهل هي العنوان السائد في كل المجالات تقريبا، ما كان منها جديا، كميادين الفكر والعلم والثقافة والرأي، أو غير ذلك كمجال السينما والفن والمسرح والغناء حتى الرقص ومجال الكرة.

وبعض هذه الميادين، وغيرها، يكفي أن نرجع إلى عقد سابق أو عقدين، لنتبين وجه الفرق عند المقارنة، وبعضها ترجع إلى بضعة عقود، أما إذا رجعنا فوق الخمسين سنة، فالوضع كان أفضل بما لا يدع مجالا للمقارنة، وهكذا وراءً فوراء.

 

عالمية التفاهة

ليس الحديث مقتصرا على الدول المسماة بالعالم الثالث، أو المتخلف، عربيا كان أم إسلاميا، شرقيا أسيويا، أو أفريقيا لاتينيا، بل هذه الدول الغربية المتقدمة حضاريا بمعيارهم المادي، لم تغن عنهم الحضارة الغربية شيئا، ودركوا مع دول العالم الثالث إلى هاوية سحيقة من التفاهة والسطحية وتخلف العقل العلمي الإبداعي.

ولم يكن يدور بخلد أصحاب الحضارة الغربية أن يصلوا إلى هذا التدهور الكبير، ولكنها غطرسة القوة، وهذا من العجب العجاب، إلا على أهل البصيرة والبصائر، من الشرق والغرب.

وفي المقابل لم يكن عجبا أن تصل دول العالم المتخلف، وفي القلب منها ما يعرف بالدول العربية، وللأسف الإسلامية، إلى هذا المستوى من التفاهة والسطحية.

فقد أنشبت الحضارة الغربية الباغية المحتلة أظفارها في دول العالم الإسلامي، وأحكمت عليه السيطرة والتحكم، فسيطرت على البلاد والعباد، أنظمة الحكم والمؤسسات والبشر، ونهبت الثروات، وما أفريقيا التي يراد لها أن تبقى فقيرة أبدا، وتموت جوعا، إلا نموذجا فجا يدل على بغض وحقارة وبشاعة هذه الحضارة الغربية،.

إفساد متعدد المجالات

كان أسوأ ما فعلته هذه الحضارة بالدول الإسلامية، إفساد مجالات التعليم والفكر والثقافة، وإفساد القيم والمبادئ، واستبدال كل ما هو قيم نفيس من حضارتنا السالفة، بما هو ضده من حضارة الفحش والعري والسفور والجنس والمخدرات والإلحاد والمادية والاستهلاك، وهلم جرا.

أما أدوات المنهج والمنهجية، والعقل والعلم والرقي والتقدم الحضاري الحقيقي، فهذا قد حجبته عنا الحضارة الغربية الآثمة، فهي، من جانب، قد منعت عنا أدواتنا العلمية العقلية الحضارية وآلاتها، وأفسدتها علينا إفسادا، ومن جانب آخر، حجبت عنا أدوات الحضارة الحديثة، وآلات العقل والمنهج العلمي الحضاري الخاص بها، فأنتج ذلك لدينا أفرادا مشوهة عقولهم، فاسدة نظراتهم، عطبة آراؤهم، وإذا كان هذا حال الخاصة، فما الظن بالعامة؟.

ولا نقول فسدت العقول والنفوس، بل فسدت حتى الأذواق، وتغلغلت القيم العلمانية الغربية، حتى اختلطت باللحم والدم والعظم، وصار الناس يميلون إلى الطعام الغربي، والملابس الغربية، بل والروائح الغربية، ويستحسنون كل ما هو غربي، ويبغضون كل ما هو أصيل من بقايا حضارتنا السالفة.

لا غرو أن نرى بلادنا الإسلامية والعربية تظهر بها آفات وأمراض الحضارة الغربية، التي منذ زمن قريب كنا نشاهدهم ونسمع بهم، ونتندر عليهم، ونسخر منهم وما وصلوا إليه من انحدار، ونتقوى بذلك في مناظراتنا معهم.

فمن الأمراض النفسية، كالاكتئاب ثم الانتحار. والأمراض الاجتماعية، كالتفكك الأسري، وانحلال الروابط بين أفراد الأسرة والعائلة، وبين طبقات المجتمع وأفراده، وسيطرة الجفاء والفرقة والنزاع والاختلاف على علاقاتهم ومعاملاتهم، وانتشار أمراض الانحلال الأخلاقي، والإباحية، من عري وسفور وتبرج وتشبه بالغرب وما يتبعه من ظواهر كالتحرش والشذوذ وسائر الفواحش، إلى أن صار عنوان المجتمع العصري: عصر الفحش والبلطجة والظلم الفساد، والتبجح بذلك كبرا وعدوانا، وهي ليست ظاهرة اجتماعية تحتية، بل سياسية كذلك، على مستوى السلطات الحاكمة والحكومات ومؤسسات الدولة، تحت الحماية، فمن السلاح الأبيض والمطواة والسيوف، إلى الرشاش والبندقية والدبابة.

والأمراض الاقتصادية، كانتشار الربا، انتشار النار في الهشيم، وظاهرة الاستهلاك المرضي المدمر، والرفاهية الكاذبة، والبذخ الأحمق، وأمراض الكبر والعجب والبخل والحرص والشح، والأنانية المطلقة، والبحث عن المصلحة الخاصة، والربح والمال، دون أي اعتبارات إنسانية قيمية.

وإذا أرجعنا ذلك إلى إبعاد الدين عن الحياة، وتمثل القيم العلمانية بصورة مرعبة، لم نجانب الجادة، بل نصيب كبد الحقيقة والصواب.

ننظر إلى جيل اليوم ومن قبله، نبحث عن أي قيم دينية يتلقونها في حياتهم؟ هل من الأسرة، أم من التعليم؟ أم من الإعلام المرئي والمسموع؟ أم من الثقافة السائدة؟، أم من السينما والتلفاز؟ أم من الصحافة؟.

هل يتعرفون على تاريخهم؟ على حضارتهم؟ على رموزهم وقادتهم وسادتهم؟ على ربهم؟ على نبيهم؟ على سيرته العطرة؟ التي أرسى من خلالها قواعد الحكم الرشيد والعدالة، على صحابته الكرام؟ الذين اقتفوا آثار نبيهم فأقاموا حضارة في أقل من مائة عام، من الشرق إلى أقصى الغرب.

 

أظن الإجابة تنبينا عن الحالة الردية التي وصلت إليها مجتمعاتنا اليوم بأجيال شبابها وبناتها، والله المستعان.

وأما على صعيد ميدان العلم والرأي والفكر والسياسة، فلن نجد اختلافا كبيرا.

إذا ما بحثنا عن العلماء بمعيار الأقدمين الأولين، فلن نجد إلا يسيرا، ربما نجهد الفكر والذهن في البحث والعد.

وإذا ما بحثنا عن مفكرين وفلاسفة، فدوننا خرط القتاد، هو علينا أهون.

والعلم وأهله صاروا كالأيتام، هملا، لا راعٍ لهم ولا معين ولا رفيق. بينما ما سادت أمتنا الإسلامية، وقامت حضارتها، على رعاية العلم والعلماء.

وأهل الرأي لا وزن لهم ولا قيمة، إنما الإدارة والحكم تدار بقيم المحسوبية والقرابة والولاء والانتماء والسمع المطلق والطاعة العمياء.

 

كذلك الساسة والقادة أصبحت الشعوبية بل العامية هي العنوان شرقا وغربا، وظهرت الديكتاتوريات، وغابت ديمقراطياتهم المزعومة، حتى في تلك الدول العريقة في الديمقراطية عندهم، غابت عنها قيم العدالة والحكم الرشيد، وأصبحت لغة المصالح الضيقة هي السائدة، ولغة المال هي المتحكمة، وانقرضت الحقوق والحريات، وظهر الفساد في البر والبحر، وأصبح العالم يحكمه ثلة من المجانين عديمي العقول، أضحوكة الأمم، وأصبح مشاهدة نشرات الأخبار، كمن يشاهد فيلما مضحكا أو مسرحية كوميدية.

كاد العالم يعدم أهل الرؤى والرأي السديد، وغابت الاستراتيجيات والخطط المحكمة.

فالنظام العالمي يتجه، إن لم يكن دخل بالفعل، عصر الفوضى واللانظام، وغياب قيم الحكم الرشيد والعدالة، وسيطرة المادية بكل جبروت وطغيان. حتى تجد رئيس أقوى دولة بالعالم يخاطب رجال السياسة والرأي والنخب العسكرية بأنهم لا يفهمون لغة المال والأعمال، وحسابات الربح والخسارة، وآخر تقييمه للناس كشوال الرز، يريد ما معهم من مال.

هكذا أصبح العالم يدار كأنه شركة مالية اقتصادية متوحشة لا رحمة فيها ولا شفقة، مادية بحتة محضة، غاب عنها البعد الإنساني، والروحي، والقيمي، والنفسي، وصار الإنسان يُنظر إليه كآلة تنتج مالا، وأصبح تقييم الإنسان بما لديه من مال.

 

تطور التدهور

وإذا ما أمعنا النظر وجدنا بداية الانهيار إلى الهاوية، بدأ من الخمسينات، أو قل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما تغولت الولايات المتحدة وسعت إلى السيطرة على العالم، وفرض النظام الليبرالي وذراعه الاقتصادي الرأسمالي المتوحش، وسادت المادية بكل صورها، وتحول العالم إلى سوق استهلاكي كبير، تحكمه قواعد السوق، ومبادئ المادة والمال والربح الأقصى.

وأما إذا نظرنا إلى القرن الماضي والذي قبله - وهما المعنونان ببداية التخلف والسقوط تحت سيطرة الحضارة الغربية والاحتلال والبغي الاستعماري، وأما السقوط الحضاري فقد بدأ قبل ذلك بما يزيد على القرنين - ربما يعجزنا عد العلماء والمفكرين والساسة والقادة وأهل الرأي.

ويكفي أن ننظر في الكتب التي جمعت أعلام الفكر والعلم والرأي في جميع المجالات، ثم نقارن بمرحلة ما بعد الخمسينيات.

وبذلك نتبين فضل النخبة الناشئة عن البيئة العلمية الثقافية قبل الخمسينات وبعدها، حتى إننا لنرى أولئك القوميين أو العلمانيين أو المتفرنجين الذين حطوا أوزارهم على الحضارة الإسلامية والإسلام وكتابه أهله، أمثال طه حسين وطبقته ومن لف لفيفه، هم أصلا أبناء البيئة العلمية الثقافية الإسلامية، قبل الحمسينيات، ثم فليسموا، هم، لنا من أخرجت بيئة ما بعد الخمسينات من نخب علمية ثقافية أدبية أو سياسية أو حتى فنية أو غيرها، شتان شتان شتان.

 

من أين نبدأ ؟

وهذا يضعنا أمام التساؤل البحثي الكبير، وهو سؤال النهضة الحقيقي، لماذا أفرزت، وكيف، بيئة ما قبل الخمسينات هذا الكم من النخب على كافة الأصعدة، بينما بيئة ما بعد الخمسينات لم تفرز لنا إلا أقل القليل من نخب حقيقية، ثم الحثالة والحفالة من بعد ذلك، لا يلقي لهم أحد بالة؟.

ولا نتسارع فنقول تكمن الإجابة في إبعاد الإسلام عن الحياة وإدارتها، فالإجابة قد تكون ذلك، بل هي كذلك، ولكن على وجه الإجمال الساذج، أما التصور التفصيلي فهو أعمق بكثير عن مكمن الأسباب الظاهرة وأبعد.

وفي رأيي فإن التساؤل الحقيقي هو سؤال المنهج العلمي، والمنهجية العلمية، التي يطبق من خلالها المنهج، بأدواتها وآلاتها، فهي العلاقة بين الدارس والمدرس، بين طالب العلم والعالم، فالمنهج، بجهد جهيد، ربما يكون مرسوما أمام الطالب والدارس، والكتب منثورة، لا نعدمها، ولكن كيف يُتَلَقَّى المنهج من المدرس والعالم؟، بحيث يحقق نتيجته المرجوة، وأهدافه المنشودة، التي على رأسها: إنتاج هذا العقل الذكي، وهذا الذهن الصفي، وهذا النظر الحاد، وهذه البصيرة النافذة، وهذه النفس السوية، وهذا القلب النقي، وهذه الملكة العبقرية، وهذا الإبداع بالقوة.

هذا لب القضية، وهذا سؤال النهضة: المنهج والمنهجية.

 

مقتل سليماني والاستراتيجية الأمريكية في طورها الجد...
فَصلٌ من وَثنيةٍ مُعَاصِرة
 

تعليقات

لا تعليق على هذه المشاركة بعد. كن أول من يعلق.