#تكفير_الوهابية_للمخالف
من أجلى وأشهر أصول ومظاهر الانحراف لدى الوهابية هو تكفيرها لمن خالفها، ومن ثم استحلال ماله ودمه، وقتله وقتاله، وإن كان ظاهره الإسلام وثبت له الإسلام بيقين - حيث لا ينبغي والحال هذا أن يُنفى عنه الإسلام ولا يطلق الحكم بردته عنه إلا بيقين أقوى منه - ولكن الوهابية من أول لحظة - متمثلةً في نسختها الأولى وممثلةً في شيخها ومؤسسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب - أطلقت الحكم بكفر من خالفها من المسلمين بالعموم وردتهم عن الإسلام جملةً، بمجرد الظن والشبهة المحضة، ودونما إقامة لحجة الله تعالى على كل فرد على حدة، ودونما تحقيق للمناط المكفِّر لكل فرد على حدة، ومن ثم تقضي بالحكم عليه بما هو أهله !!
ثم قامت تستحل ماله ودمه، وتهدم داره وتحرق نخيله، بما في ذلك الدولة الإسلامية وخلافتها العثمانية، حيث شاركت الوهابية كل طواغيت العالم وأعداء الملة، في حرب الدولة العثمانية حتى كان لها من دونهم اليد الطولى في الخروج عليها وإجلاء ممالكها في الجزيرة العربية خصوصاً مكة والمدينة، وكذا المشاركة في إجلائها من الشام والعراق وغيرها !!
كان هذا هو الموجز، أما التفصيل والبيان فيأتي بعون الله تعالى وحوله ومدده وتوفيقه إن شاء تعالى، غير أن هذا يحتاج إلى صبرٍ وسبرٍ وطول نفس، وذلك لمخالفة الموضوع لما درج عليه الكثيرون من المتسننة في الواقع المعاصر والإنسان بطبعه عدو ما يجهل، هذا من جهة ومن جهةٍ أخرى لعِزَّة مصادره وقلة موارده - رغم وفرتها وكثرتها الكاثرة، إلا أن الوهابية سخرت جيوشاً الكترونية وغيرها، لطمس الكثير من الكتب والآثار على الشبكة خصوصاً، التي تنتقدها وتكشف زيوفها - لذا فقد تحتاج هذه النقطة وحدها للعديد من المقالات والنقول لإزالة اللبس وكشف الزيف، فالله المستعان !!
وجديرٌ بالذكر - هنا - التنويه إلى أنني ليس بيني وبين الوهابية ولا شخوصها = من حيث كونهم وهابيين - أي خصومة ولا ضغن، بل بالعكس فقد أفنيت عمري في تبنيها والالتزام بمقالاتها، وفي الدعوة إلى الله تعالى بوسيلتها، وما مخالفتي لها أو بالأحرى منابذتها إلا حديثة العهد جداً لي، وما المسلم المؤمن إلا والحكمة والعلم ضالته ومطلبه، فإن وجدهما فهو أحق الناس بهما، وخاب وخسر إن أضلهما من بعد ظنه الغالب بالظفر بهما، ومن ثم فما أسطِّره هنا هو نتيجة البحث عن الحق والحقيقة، من قبل شخص مسكين قليل العلم كليل الحيلة ضعيف الفهم، ينقل المعلومة عن خصوم الوهابية ومنتقديها، في مقابل الزخم الهائل الذي يسد عين الشمس من الوهابيين المتيمين بكمالها وصرعى إلْفِها عبر القرون، مراعاة للعدل في محاولة إدراك الصواب وإصابة الحق، عن طريق سماع الخصمين جميعاً، دونما تحيزٍ لأحدهما ودونما أحكام مسبقة على كليهما، فمن فعل فقد أصاب ولو أخطأ، ومن حكم بينهما بدون ذلك فقد أخطأ ولو أصاب، وإلا لم تُستخلص المعلومة ولم تتبين الحقائق، ولم يهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ أيضاً عن بينة ..
فعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ ولكن عينَ السُّخطِ تُبدي المَسَاويا
-------
كان الشيخ محمد ابن عبد الوهاب داعيةً مؤثراً ذا شخصية قويّة، استوعب أغلب تراث الشيخ أحمد ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وتمكّن من تفعيل الجوانب العملية في هذا التراث وإسقاطها على الواقع الّذي ورثته القبائل البدوية المغلَقة في زمانه، بما لم يفعله ولم يجرؤ عليه صاحبا التراث نفسيهما، ذلك لأن الهوَّة سحيقة بين النظرية والتطبيق، والبون شاسع بين الحكم والفتوى، وهو ما اصطلح عليه أصحاب الأصول بـ"التفريق بين النوع والمعين"، أي بين الحكم المجرد وبين الشخص المعين الذي قد لا يوافق الحكم واقعه فلا يتنزل عليه إلا بعد استيفائه لشروط الحكم وانتفاء موانعه عنه !!
وقد تمثّلت أهمّ قضيّة أثارها ابن عبد الوهاب فشغل بها الأوساط العامّة في نجد والحجاز، في التّكفير بالعموم والحكم على الناس بالردة الجماعية متمثلةً في تنزيل احكامها من استحلال الدماء والأموال وسبي الزراري ونحو ذلك، على الأعراب السُّذَّج الذين ربما كانت حاجتهم للتعليم وإزالة الجهل أوجب من التكفير والحكم بالارتداد، وذلك بذريعة الأفعال الّتي كانت تُمارَس عند مراقد الأولياء الصّالحين، من الذبح والنذر وإيقاد السرج والتبرك والعكوف ونحو ذلك مما يسمونه بالجملة توسلاً !!
وعليه فقد عامل الشيخ ابن عبد الوهاب وأتباعُه العربَ والبدوَ في زمانه، بنفس المنطق الّذي عامل به النبيُّ عليه السلام والمسلمون الأوائلُ كفّارَ قريش، فمن اعتكف على الأصنام كان كافراً، ومن فارقها ولم يلحق بدار الإسلام كان عاصٍياً غير معصوم الدّم، وكذلك فعلت دعوة ابن عبد الوهاب السّلفية - بزعمهم – حيث اعتبرت من أحسَنَ الظن بالأولياء فتوسل بهم - باعتبارهم صالحين - مُشركًا حلال الدّم، ومن امتنع عن زيارة مراقد الأولياء ولكنه لم يقدر على الهجرة إليه عاصياً غير معصوم الدّم، كما كان يُسمّي أتباعه بـ "الأنصار"، ويسمي من لحق به بـ "المهاجرين"، ولم يُعِرْ الشيخ محمد ولا أتباعه أدنى التفاتة للفارق الهائل - كما بين السماء والأرض - بين الأعراب في زمانه المستعلنين بالإسلام، المستعيذين من الشرك، النافين بداهة لعبادة غير الله تعالى أيَّاً كان، وإن جهلوا الكثير من معاني الإسلام والشرك ولوازمهما، وبين أولئك القرشيين في الجاهلية المستعلنين بالكفر المُصرّحين بعبادتهم للأصنام من دون الله أو معه تعالىِ، فلا يستويان مثلاً ولا يستوون، والحمد لله بل أكثرُ الناس لا يعلمون !!
قال عثمان ابن بشر مؤرخ الوهابية وتلميذ مؤسسها (1210هـ-1290هـ)، في كتابه (عنوان المجد في تاريخ نجد: 1/8) : [فلما أن الشيخ محمد وصل إلى بلدة حريملا جلس عند أبيه يقرأ عليه وينكر ما يفعل الجهال من البدع والشرك في الأقوال والأفعال، وكثر منه الإنكار لذلك ولجميع المحظورات، حتى وقع بينه وبين أبيه كلام، وكذلك وقع بينه وبين الناس في البلد فأقام على ذلك سنين حتى توفي أبوه عبدالوهاب في سنة 1153 ثم أعلن بالدعوة] .
يقول الشيخ محمد بن عبد الله النجدي الحنبلي (1236هـ-1295هـ)، وهو ثقة عند الوهابية ايضاً وكان مفتياً للحنابلة بمكة : [وأخبرني بعض من لقيته عن بعض أهل العلم عمّن عاصر الشيخ عبد الوهاب هذا، أنه كان غضبان على ولده محمد لكونه لم يرض أن يشتغل بالفقه كأسلافه وأهل جهته، وكان يتفرس فيه أن يحدث منه أمر، فكان يقول للناس: يا ما ترون من محمد من الشر، فقدّر الله أن صار ما صار] (السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة / 275) .
وقد قال الشيخ أحمد زيني دحلان مفتي مكة (1231هـ-1304هـ) في كتابه "فتنة الوهابية" : [وكان - يعني الشيخ ابن عبد الوهاب - يأمر من حج حجة الإسلام أن يعيد حجته مرة أخرى، لأنه حج وقت أن كان مشركاً ! .. كما كان يطلب ممن يريد الدخول فى دينه أن يشهد على نفسه بأنه كافر، وأن أبويه ماتا على الكفر، وأن فلان العالم كافر] !!
ويأتي إن شاء الله في هذه النقطة - تكفير الوهابية لمن خالفها - المزيد والمزيد من النقول والملاحق حتى لا تبقى - فيما أظن - شبهةٌ لمشتبه .. والله المستعان .
============
#تكفير_الوهابية_للمخالف
ملحق (1)
يعود الامتداد التّاريخي للحركة السّلفية المعاصرة، إلى العمل الضّخم الّذي قام به إمام الدّعوة الشّيخ محمّد بن عبد الوهاب رحمه الله (ت: 1206هـ) في شبه الجزيرة العربية، فقد استطاع في غضون فترة قصيرة، بالتّحالف مع الأمير محمّد بن سعود، أن يفرض دعوته على القبائل العربية النّجدية !!
وقد استفاد الشيخ محمد جلّ أفكاره واستنباطاته من تراث الشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وخاصةً في التّفريق بين توحيد الألوهية وتوحيد الرّبوبية، ففهم ابن عبد الوهاب أنّ هذا التفريق يكفِّر تكفيرًا نهائيا الواقعين في التبرّك والاستغاثة والتوسل بالأولياء، ومع أنّ النّصوص الّتي استند إليها ابن عبد الوهاب من كلام ابن تيمية تُشير إلى ذلك فعلاً، إلاّ أنّه لا ابن تيمية ولا تلميذه ولا أحد من العلماء المتأثِّرين بكلامهما، حملوا ذلك على حقيقته من التكفير بالعموم للمعينين إلاّ ابن عبد الوهاب وأتباعه !!
وممّا يؤكّد ذلك أنّ العلماء من مختلف المذاهب أنكروا على ابن تيمية مسائلَ في الأصول والفروع، ولا أحد منهم نسب عموم المعينين إلى التّكفير بسبب التوسّل بالأنبياء أو الاستغاثة ونحوها، كما لم يظهر مَن يُنسب إليه هذا الفكر غيرُ ابن عبد الوهاب، فيكون هو الوحيد تقريبًا الّذي حمل كلام ابن تيمية على هذا المحمَل، وهو الملحَظ الّذي أخذه المؤرّخ الحنبلي محمّد بنُ حميد (ت: 1295هـ)، على محمد بن عبد الوهاب في سياق ترجمته لوالده الشّيخ عبد الوهاب، بقوله : "وكان - يعني الشيخ محمد - لا يلتفتُ إلى كلام عالم، متقدِّمًا أو متأخِّرًا كائنًا مَن كان، غير الشّيخ تقي الدّين بن تيمية وتلميذه ابن القيّم، فإنّه يرى كلامهما نصًّا لا يقبل التّأويل، ويصول به على النّاس، وإن كان كلامُهما على غير ما يفهم هو" أ.هـ
ذلك هو المطبّ الّذي وقع فيه الشّيخ محمّد بن عبد الوهاب، لأنّ التّكفير أو الحكم بالردّة مسلكٌ ضيِّق تترتّب عليه آثار كثيرة، أقلُّها التّفريق بين الرّجل وزوجه وإسقاط حقوقه الشرعية؛ من إرثٍ ودفن في مقابر المسلمين، فلابدّ من التثبّت في نسبة التكفير والرِّدة إلى من يُظنّ أنّ كلامه يدلّ على ذلك فرداً فرداً، باستيفاء شروط التكفير لديه وانتفاء موانعه عنه، مع درء الحكم بالشبهات ما استطاع القاضي إلى ذلك سبيلا، فلا بد من إقرار واعتراف المقضيِّ عليه بالتكفير والارتداد أو ثبوت ذلك عليه يقيناً بلا شبهة، كأن يتكرّر القولُ أو الفعل المُكفَّر به عنه، أو أنّه يُنكرُ عليه الذّهاب إليه فيستميت في الدّفاع عنه، أمّا أن يكون مجرد اللازم لكلامه أو أنه ظاهر حاله، فلا يكفي مثل هذا وحده للحكم عليه بالكفر والردة، لما تقرّر من أنّ لازم المذهب ليس مذهباً خاصّة إذا كان ذلك المذهب رديئا، وما عُلِم من ضرورة الإعذار وإظهار البيان الذي يفهمه مثله، ومن إقامة الحجة الرسالية التي يكفر من خالفها ...
"وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون" .
وقبل أن ننتقل إلى إدانة ابن عبد الوهاب بما أدانه به العلماء المعاصرون له، وهما إدانتان اثنتان؛ التّكفير واستباحة الدّماء، نوضِّح الشّبهة الّتي حملته على التّكفير وما ترتّب عليه من سفك دماء المسلمين .
أمّا التّكفير فقد دفعه إليه اعتقادُه بأنّ المسلمين المعاصرين له أصبحوا "كفّارًا" أكثر من كفّار الجاهلية الأولى؛ وذلك لأنّهم اتّخذوا الأولياء أربابًا من دون الله، حيث أوقعوا في هذه الأماكن جميع ما كان يفعله الكفّار في مواقع الأصنام، من نذر وذبح وإيقاد للشّموع وتبرّك واستغاثة ونداء وصراخ وعويل ورقص وطواف، فجميع مظاهر الشّرك كانت تُفعل في مراقد الأولياء والصّالحين، إضافةً إلى مظاهر الشّعوذة والسّحر والكهانة !!
مع ملاحظة الفرق الظّاهر - عند ابن عبد الوهاب - بين شرك الكفّار الأصليّين و"مشركي زماننا" حسب توصيفه؛ فالمشركون الأوائل كانوا يلجؤون إلى الأصنام في الرّخاء، وأمّا "مشركو زماننا" فيلجؤون إلى الله في الرّخاء ويلجؤون إلى الأضرحة والأولياء في الشدّة، مما يعني أنّ للأولياء من النّفوذ والقدرة ما ليس لله تعالى في نفوس "مشركي زماننا" حسب تعبيره، فتكون هذه الأمّة قد وصلت إلى مستوى من الكفر والضّلال لم يصل إليه المشركون الّذين كانوا في زمن البعثة، بزعم ابن عبد الوهاب !!
وللإجابة عن هذه الشّبهة، فلابدّ من تحديد مفهوم كلّ من التّوحيد والشّرك، وهما المفهومان اللّذان اهتمّ ابن عبد الوهاب بهما غاية الاهتمام، وأدار عليهما دعوته وموقفه من غيره، مع التّأكيد على أنّ التّوحيد هو عمود الدّين وأساسه وأصله ورأسه وسنامُه، وكلُّ الأحكام والشّرائع تدور عليه وتخدمه وتؤكّده وتدعّمه وتقويه، فمن حقّقه دخل في الدّين ولو أتى بالقليل من العمل ومن لم يحقّقه لم ينفعه جميعُ عمله ولو كان من المكثِرين، اللّهم إلاّ في تخفيف العذاب عنه بالنّظر إلى نظرائه من المشركين المعتدين، ولهذا اهتمّ جميعُ المسلمين على اختلاف طوائفهم واعتقاداتهم بالتّوحيد، وعلى الرّغم من اتّساع رقعة الخلاف بينهم في مسائله، لم يَرْمِ واحدٌ منهم غيره بأنّه مشرك أو كافر خارج من الملّة يستوجب حكم الردّة، اللّهم إلاّ فرقة الوهّابية السّلفية - بزعمها - الّتي نعتت المسلمين المعاصرين لها بالشّرك والكفر، وأنزلت عليهم أحكام الكفّار الأصليّين ...
فهل ذلك لأنّهم ارتدّوا على أدبارهم ولحقوا بالمشركين؟!
أم لأنّهم جهلوا حقيقة التّوحيد فوقعوا في الشرك من حيث ظنّوا أنّهم محقّقون للتوحيد ؟!
أم للاختلاف في حقيقة التّوحيد بين هؤلاء المسلمين وبين الفرقة الوهّابية المُتسلفة ؟!!
أظن ألا تخرج الحال عن أحد هذه الاحتمالات الثّلاثة فليس ثم احتمالاً رابعاً، وإذا نفينا الاحتمال الأوّل لعدم وقوعه أصلاً، فيبقى أمامنا الاحتمالان الثّاني والثّالث، ومعلوم أنّ الاحتمال الثّاني هو موقف الفرقة الوهّابية، مع ملاحظة أنه لا يبرر علمياً تكفير المعينين بالعموم والحكم بردتهم ثم استباحة دمائهم واموالهم، بل بالعكس كان أولى بالفرقة الوهابية أن يعذروهم بحسن قصدهم من إرادة التوحيد وظنهم أنهم يحققونه، وبجهلهم للحق فوقعوا في الباطل، فالعذر أحب إلى الله تعالى !!
والاحتمال الثّالث هو موقف خصوم الوهّابيّين الّذين هم جميع المسلمين المعاصرين لهم؛ من المذاهب الأربعة السنيّة، بمن فيهم الحنابلة الّذين ينتسب ابن عبد الوهاب إليهم، ومن بقيّة الطّوائف الأخرى المخالِفة الخارجة عن السنّة، كالزّيدية والإمامية والإباضية، كلُّ هذه المجموعات تخالف الفرقة الوهّابية فيما ذهبت إليه من التّكفير بالأفعال الّتي سمّتها توحيدًا !!
إذاً يتبيّن لنا، أنّ أتباع ابن عبد الوهاب يعتقدون أنّ مجرّد تلك الأفعال كفرٌ، مثل كفر من يمزّق المصحف أو يهينه أو يسبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولا سواء بداهةً، فالفارق جليٌّ بين كفرٍ معلوم من الدين بالضرورة، استفاض علمه بين المسلمين حتى استوى فيه العالم والعاميِّ المتعلم والأميّ، فيكفر المتلبس به على الفور كهذه الأمور المذكورة من إهانة المصحف وسب النبي ونحوها، وبين نوع كفرٍ أعني مسائل التوسل بالصالحين بزعم ابن عبد الوهاب - هذا بفرض أنه كفرٌ أصلاً تنزلاً مع الخصم وإلا فهناك تفصيل كبير – فهذا تكتنفه العوارض المانعة من تنزيل الأحكام على الأعيان من الجهل والتأويل والخطأ ونحو ذلك، فمثل هذا لا يعني أن مقترفيه كفارٌ لأول وهلة، إلا أن تُستوفى شروط وتنتفي موانع وتقوم الحجة الرسالية التي يكفر من خالفها !!
فالحاصل عند الوهابية الأولى ومن قلدها في هذا إلى اليوم، أن من ذبح أمام القبر أو نذر للوليّ أو استغاث به أو ناداه ونحو ذلك فإنه كافر بعينه بمجرد ذلك، لمضاهاة هذه الأفعال أفعالَ المشركين الّتي نعاها القرآن، والعجب العجاب أن الوهابيين لم يلتفتوا البتة إلى الفارق الهائل بين المشركين الأوائل إذ فعلوا الشرك وعبدوا الأصنام وهم يصرحون ويقرُّون بعبادتها مع الله أو من دونه، وإن أقرُّوا بان الله هو الرب الخالق الرازق، وبين "مشركي زماننا" - حسب تعبير الوهابية - الذين فعلوا نفس الأفعال عند مراقد الصالحين على سبيل التوسل وطلب الشفاعة، دون أن يُقرُّوا بعبادتهم للصالحين، ولم ينفوا أن تعبدهم لله وحده دونما سواه، وشهدوا ألا إله إلا الله وأن سيدنا محمداً عبده ورسوله، فلا يستوون !!
إذاً فقد قررت الوهابية الأولى ومن شايعها، أنه كما لم ينفع كفّارَ قريش اعتقادُهم بأنّ الله هو الخالق والربّ، في طلبهم الشّفاعة والوساطة من الأصنام، فكذلك حالُ هؤلاء (المسلمين) الّذين يتقرّبون إلى الأولياء بأنواع الطّاعات والقربات، على النّحو الّذي كان يفعله أهلُ الجاهلية، لا ينفعهم إيمانُهم بالله ورسوله، بعد أن أَتَوْا بهذه النّواقض العظيمة الّتي تهدم التّوحيد وتأتي على بنيانه من القواعد، فيشملهم وصفُ المشركين بل شركُهم أعظم من شرك الأوّلين لما عُلِم من التجائهم إلى الله في الرّخاء ولجوئهم إلى الأولياء في الشدّة، على عكس ما كان يفعله المشركون الأصليّون .
هذا هو تصوير الوهّابيّين للمسألة، وهو التّصوير الّذي انساق وراءه كلُّ من كان بعيدًا عن الأطُر التّقليدية في تلقي العلم ونشره، وفي مقدّمة هؤلاء كل جماعات التكفير على اختلافها وتعدد طوائفها عبر القرون الثلاثة المتأخرة، وكذا غالب التيارات الجهادية المعاصرة، فمرجعيتهم جميعاً بلا استثناء في مسألة التكفير بالعموم هذه، هي كتب الوهابية جملةً وعلى رأسها مثلاً "كتاب التوحيد" للشيخ محمد، وكتابي "فتح المجيد" و"قرة عيون الموحدين" للشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد المؤسس (1193هـ-1285هـ)، وكتب الشيخ حمد بن عتيق (1227هـ-1301هـ)، وكتب الشيخ عبد الله ابي بطين (1164هـ-1270هـ)،وغيرهم كثير، فقد اعتقدوا - جماعات التكفير والتيارات الجهادية - أنّ القراءة الّتي قدّمها الوهّابيّون قراءة متطابقة مع الواقع، وإن سَلِم غالب السلفيين المعاصرين من مسايرة الوهابية في القول بالتّكفير بالعموم، والحكم بالشِّرك والردة على الصوفية والطّرقيّين وغيرهم !!
وهذه القراءة للأسف قراءة خاطئة باطلة، فضلاً عن كون لازمها من الحكمُ على المسلمين من الصوفية والطّرقيّين بأنّهم "شرُّ المشركين الّذين ظهروا على الأرض"؛ لأنّهم اتّخذوا كلّ الأولياء الّذين انقضوا والآتين، أربابًا وآلهة من دون الله، ومكمن الخطأ والبطلان فيها أنّ الوهّابيّين ومن سار في فلكهم ربطوا بين التّوحيد والقربى، فكلُّ من تقرّبتَ منه فقد عبدتَه ومن ثَمَّ وحّدته وصيّرته إلها؛ فإنّ العبادة لا تصلُح إلاّ لله تعالى !!
والتّالية أن (العبادة لا تصلح إلاّ لله) صحيحة قطعاً، ولكن المقدَّمة أن (من تقرّبت منه فقد عبدته) فخاطئةٌ وباطلة، وذلك لأن العبادة هي : منتهى الخضوع مع منتهى الرّغبة، أو غاية الحب مع غاية الذلِّ كما لا يختلف الوهابيون، وهذه لا تكون إلاّ لمن يُعتقد فيه الألوهية أو الرّبوبية، وليس كلُّ من يتقرّب بوجه من وجوه الطّاعة أو العبادة إلى وليٍّ صالح فقد صيَّره بذلك إلها أو ربًّا، ولم يكن كفّارُ قريش ولا غيرهم من المشركين كفّارًا بمجرّد الأفعال الّتي تقرّبوا بها إلى متقرَّبيهم، بل بضميمة اعتقادهم أنّهم أرباب من دون الله، أو آلهة تستحقّ أن تُعبد من دون الله أو معه تعالى، مع التصريح بعبادتهم ومع رفض شهادة أنه لا إله إلا الله، وليس بمجرد التقرب للأصنام وحده !!
والشّبهة الأخرى الّتي يسوقها الوهّابيّون، في سياق تأكيد حكمهم على مرتادي القبور بالشِّرك، أنّ أصل الشِّرك وقع في أعقاب عهد نوح عليه السّلام، عندما اتّخذ النّاسُ صور الرّجال الخمسة الصّالحين، وهم وُد وسُواع ويغوث ويعوق ونَسْر، كتذكار ثمّ تحوّلت صورُهم بتعاقب السّنين أو القرون إلى آلهة معبودة، بحكم الأفعال الّتي صدرت من النّاس نحوهم، والحالُ أنّ هذه الأفعال لم تكن معزولة عن اعتقاد أولئك النّاس بأنّ هؤلاء الأشخاص قد تحوّلوا إلى آلهة، كما تشير إليه الآية الّتي ذُكروا فيها، قال الله تعالى :
"وقالوا لا تذرُنّ آلهتكم ولا تذرّن ودًّا ولا سُواعًا ولا يغوث ويعوق ونسرًا وقد أضلّوا كثيرًا ولا تزد الظّالمين إلاّ ضلالاً" (نوح: 23، 24)،
أي لا تتركوا آلهتكم ولا تتركوا هؤلاء الصّالحين الّذين تحوّلوا إلى آلهة، فليس الشِّرك هو مجرّد التقرُّب لنيل غرض من أغراض الحياة على غير الوجه المعتاد، بل التقرُّب مع اعتقاد الألوهية أو الرّبوبية في المتقرَّب منه، وهو الظّلم العظيم الّذي لا يغفره الله لمن اعتقده؛ لأنّ فاعل ذلك وهب المخلوق ما يجب للخالق، وهو اعتقادُ كونه ربًّا وإلها من دون الله أو مع الله !!
أمّا مسلمونا اليوم من الطّرقيّين أو القبوريين بتعبير خصومهم، فهم لا يعتقدون في الأولياء - مهما تنوّعت أوجه القربى منهم نحوهم من توسل وغيره - أنّهم آلهة معبودة أو حلّت فيهم الآلهة، بل إن غاية ما يعتقدون أنّ لهم جاهًا مع الله يمنحهم فضل الشّفاعة لهم عنده تعالى، فلهذا هم يتوسّلون بهم ويستغيثونهم لتخليصهم من أهوال عقاب الله، ولا تخرج الأفعال الّتي يفعلونها عند مراقدهم عن دعائهم وندائهم ونحوها - لاعتقادهم بأنّهم أحياء في قبورهم حياةً خاصّة - أو عن التوسُّل بهم في أدعيتهم، أو الاستغاثة للاستنجاد بهم كالاستغاثة والاستنجاد الذي يفعله الناس مع أمثالهم من الناس عند الحاجة بلا نكير، بقطع النظر عن صوابيَّة ذلك أو خطئه فليس هذا وقت تناوله !!
وكلُّ هذا .. من مسائل التوسل بالصالحين، الّتي أثبتها فريقٌ ونفاها آخرون، والمثبت لها أكثر في المتأخِّرين من النّافي، وهي من المسائل الّتي دار الخلاف فيها بين الرّاجح والمرجوح، لكن يبدو أنّ القراءة الوهابية الطّاغية في المشهد الدّيني هي الّتي فعّلت من آرائها، وأظهرت القراءاتِ الدّينية التّقليدية في صورة مشوَّهة وأبعدتها عن مجال التّناول حتّى لا تتأثّر بها الأجيالُ النّاشئة !!
مراجع :
1 – ينظر: سليمان بن سحمان، منهاج أهل الحق والاتّباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع، تحقيق عبد السّلام بن برجس، نشر دار الفرقان.
2 – السّبل الوابلة على ضرائح الحنابلة، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه بكر بن عبد الله أبو زيد، وعبد الرّحمن بن سليمان العثيمين، مؤسّسة الرّسالة، ص 678، 679
3 – هناك أكثر من رسالة ردّ بها العلماء على الرّسائل الّتي بعث بها ابن عبد الوهاب إلى الجهات السّياسية في المنطقة العربية، في محاولة للاقتداء بما فعله الرّسول الأكرم صلى الله عليه وسلّم مع ملوك العالَم، ويكفي أن أشير إلى ما كتبه علاّمة المغرب الطيّب ابن كيران، في الجواب على الرّسالة الّتي بعث بها سعود بن عبد العزيز إلى ملك المغرب السّلطان سليمان.
4 – ينظر ما قاله الشّيخ مبارك الميلي، رسالة الشّرك ومظاهره، نشر دار الرّاية، ط1، 1421هـ/ 2001م، ص141
.................
أصل هذا مقال "السلفية الوهابية وآفة تكفير المسلمين" - د. همال الحاج / أستاذ جامعي - بوابة الشروق 16/10/2015 ، مع كثير من تصرفاتي فيه .
#فرحات_رمضان
أدخل نصك هنا ...
تعليقات