انحراف الوهابية !! (1)
________
** لعله يجدر التنويه ابتداءً أنه عندما نتحدث عن انحراف الوهابية وزيغها، سواءً في الأفكار أو في المسالك - ذلك الانحراف الذي لا تخطئه عين المتابع المنصف، سواءً نظر في تاريخها المتاح نوعاً ما، أو تأمل في واقع الوهابيين الذي هو خير شاهد - فلا يعني هذا بالضرورة أن سائر رموز الوهابية وأتباعها منحرفون بالكلية، أو دعاة ضلالة - معاذ الله - وذلك لأن التقييم إنما ينصب على المناهج والأفكار لا على ذوات الأشخاص المعينين !!
لكن لا ينفي هذا أن الأشخاص فيهم الانحراف ولا شك بحسب اصطباغهم بالمنهج المنحرف، فمستقِلٌون منه ومستكثِرون، ففيهم القاصد للانحراف - وهم قليل - وفيهم المتابع، وفيهم المكره وفيهم المعذور وفيهم البريء منه - وهؤلاء كثير - وفيهم المجاهد في إنكاره حتى يقتل فيه أو يُنكَّلَ به - وهم أقل القليل - وفيهم نحو ذلك، وكل هذا على مدى قرونٍ ثلاثة تقريباً، منذ نشأة الوهابية الأولى على يد مؤسسها وشيخها الأول، الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحتى يومنا هذا، علم ذلك من علمه وجهله من جهله !!
وإنما الحكم على المعينين عموماً، ومن الوهابية خصوصاً، ليس من شأننا هنا ولسنا أهلاً له أصلاً، لافتقاره لقضاء ومحاكمة، واستيفاء شروط وانتفاء موانع، وإلا تلبسنا بما ننكره على الوهابية من إطلاق الأحكام على المعينين لمجرد تلبسهم ببعض مظاهرها، دونما تحقيق ولا محاكمة لتنزيل الأسماء والأحكام على الواقع المُساوي للمعينين، مما قد يأتي بيانه لاحقاً إن شاء الله، لكن الشأن هنا منصبٌّ على بيان بعض ظواهر الزيغ والانحراف في المناهج والأفكار الوهابية، وإن استدعى هذا بالضرورة ذكر بعض أقوال وأفعال بعض الأشخاص المبيِّنة لهذا الزيغ أو ذاك الانحراف، بدون الحكم على أعيانهم كما سبق توضيحه !!
** ومن أول أصول ذلك الانحراف الوهابي - على سبيل المثال لا الحصر - ما ثبت تاريخياً، من تواريخ الدعوة الوهابية نفسها، فيما يُعرف بتاريخ نجد، مما كتبه رجال الوهابية وتلامذة شيخها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كابن غنام وابن بشر فضلاً عن غيرهما من خصوم الوهابية، من أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود أمير "الدرعية" - إحدى إمارات "نجد" الكثيرة في شرق الجزيرة العربية، وذلك لما استقر بها بعد طرده من "حريملا" ومن "العيينة" لما أظهر أفكاره المنحرفة من التكفير واستحلال الدماء والأموال - أنهما (الشيخ والأمير) اتفقا يومئذٍ، يوم غرس بذرة الدولة السعودية الأولى، أن يكون المُلْك والحكم والسياسة في محمد بن سعود وذريته من بعده (أي السلطة السياسية)، ويكون العلم والفتوى والمشيخة في محمد بن عبد الوهاب وذريته من بعده (أي السلطة الدينية)، وقد كان ذلك - من ساعتها إلى يوم الناس هذا - استحقاقاً لإمامة الدين بمجرد الوراثة والنسب، لا العلم ولا الكفاءة ولا الصلاح !!
وتنزلاً مع الوهابية في محاكمتها بمقتضى منهجيتها المنحرفة - من حيث زعمها الاستدلال بالكتاب والسنة استقلالاً عن فتاوى علماء المذاهب خصوصاً - فنقول : يبدو في هذا الاتفاق مصادمة جلية لما ورد في كتاب الله تعالى، فقد رد الله تعالى على سيدنا أبراهيم - عليه السلام - بالنفي القاطع "قال لا"، لما طلب الخليل بقاء إمامة الدين في ذريَّته "قال ومن ذريَّتي"، مثل ما قام به الشيخ محمد – فعلاً - في ذريته، والأطم والأدهى هو رضاه ومشاركته بتوريث الحكم والسياسة في محمد بن سعود وذريته :
"وإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا"
"قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي"
"قَالَ لَا"
"لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (البقرة:124) .
وهذا الاتفاق بمجرده، فضلاً عن إعماله وتنفيذه لقرونٍ متطاولة، يُشكِّلُ انحرافاً خطيراً ولا بد، وكأنه مغالبةٌ للقدر وافتياتٌ على الشرع، فضلاً عن تضمنه تسليم الحكم للطواغيت - على الأقل في المآل إن لم يكن في الحال والمآل على السواء - فالله تعالى يخلق ما يشاء ويختار، ويصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، وهو تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وهو تعالى يختص برحمته من يشاء، ويصيب برحمته من يشاء ولا يضيع أجر المحسنين !!
لقد مرت دولة آل سعود بعدة حقب زمنية، لتستقر أخيراً على دولة تحكم كامل شبه الجزيرة العربية، بسبب هذا التحالف ما بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود أمير مشيخة الدرعية في الحجاز، والذي تم عام 1747م واعتبر نواة الدولة السعودية، على أن يكون هناك تقاسم ثنائي للسلطة حيث كانت ذات جناحين، جناح سياسي "آل سعود"، وجناح ديني "آل الشيخ" .
وما كان لمنهج ابن عبد الوهاب أن ينجح بمجرد النظر إلى معتقداته وعلمياته، لولا تبني هذا النهج سياسياً من قبل محمد بن سعود لأجل تثبيت سلطانه، وما كان لدولة ابن سعود أن تقوم في غالب شبه الجزيرة أو كلها، ولا أن تبسط سلطانها على من حولها من الخليج والعالم الإسلامي لولا إضفاء الشرعية عليها، وتسمية ملوكها وطواغيتها بـ"أولو الأمر" من قبل محمد بن عبد الوهاب وذريته لنشر افكاره ومنهاجيته الشخصية، عبر القوة الغاشمة والقتل والقتال، فقد كان للمصالح السياسية "البرجماتية" الأثر الأكبر في نجاح هذا التحالف الذي تم ما بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود حيث كان بن عبد الوهاب يبحث جاهداً عن أرض مستوية لتكون قاعدة لنشر أفكاره، بعد أن طُرد أو واجه مواقف سياسية من المناطق التي مر بها، وفي المقابل فإن محمد بن سعود قد وجد ضالته المنشودة بابن عبد الوهاب، من أجل إقناع القبائل العربية بحكمه، عن طريق إضفاء الشرعية الدينية عليه واعتباره وذريَّته من بعده أولياء أمور شرعيين، والتي يتبناها ويفتي بها ابن عبد الوهاب وذريته من بعده كذلك .
وجاء في "تأريخ نجد" – لـ"جون فيلبي" رجل المخابرات البريطانية : (وصل الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى الدرعية سنة1160هـ وکان أميرها آنذاك محمد بن سعود جد السعوديين، وتمّ الاتفاق بين الشيخ والأمير، على غرار ما کان قد تمّ بينه وبين أمير العييننه، ولم يجد ابن عبدالوهاب مناصراً أفضل من ابن سعود، بعد أن تأکّد هذا الأخير أنّ انتصار دعوة ابن عبدالوهاب هو انتصار له بالذات .
وطلب محمد بن سعود من الشيخ تأكيداً بالنسبة لنقطتين فقال : أخشى إن ساعدتك وكسبنا الدنيا أن تتخلّى عني لتبحث عن حظّك في مکان آخر . وثانياً أن تترك لي بموجب قوانين البلاد حقّ جباية الضرائب من رعاياي، والفوائد الزراعية والتجارية، وأن لا تطلب إليّ التنازل عن هذا الحق .
فأجابه الشيخ محمد بن عبدالوهاب قائلاً : أمّا من ناحية المسألة الأولى فهات يدك أعاهدك على ذلك، وأمّا بالنسبة للمسألة الثانية فربّما أنالك الله فتوحات كثيرة تعوّضك عنها بالكثير من الغنائم والأسلاب الحربية التي تفوق ما تتقاضاه من الضرائب) ! أ.هـ .
وعن هذا التحالف الذي جرى بين محمد بن عبدالوهاب و محمد بن سعود، يقول لويس کورانسي في كتابه [الوهابيون تأريخ ما أهمله التأريخ] : (وکان هذا التحالف من أسباب انتشار المذهب الجديد، فازدادت الحرکة قوة وخرجت قوتها المتأرجحة وغير الثابتة من مهدها، واتّخذ هذا الشعب الجديد اسم "الوهابيين"، وهو اسم أخذوه عن عبدالوهاب "والد محمد"، ووجد ابن عبد الوهاب وابن سعود نفسيهما على رأس هذا الشعب، فاقتسما بينهما السلطة العليا، فکانت للأوّل السلطة الدينية وللثاني السلطة الدنيوية، بعد أن تعاهدوا على المحافظة على هذا التمييز لدى ذرية العائلتين) أ.هـ .
وكانت الدعوة الوهابية أول الدعوات التي لعبت دوراً كبيراً في تثبيت السلطان، ومن أظهر الأمثلة على ذلك هي فتاوى ابن عبد الوهاب، والتي كانت مصحوبة بدعم سياسي يقوم على القوة والاستبداد من قبل الحاكم السياسي ابن سعود، ففي إحدى فتاواه يقول كما في "الدرر السنية" (7/239) : "من تغلَّب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء" .
وقال أيضاً لما سأله أهل القصيم عن عقيدته كما في الدرر السنية (1/ 33)، وكذا في (أصول الإيمان:62) : "وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم، ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته وحرم الخروج عليه" أ.هـ .
وسئل أبناء الشيخ محمد، وحمد بن ناصر كما في "الدرر السنية في الكتب النجدية:63 " : نصب الإمام فرض على الناس أم لا؟ فأجابوا : "الذي عليه أهل السنة والجماعة، أن الإمام يجب نصبه على الناس، وذلك أن أمور الإسلام لا تتم إلا بذلك" !!
فإن قيل وما العجب في ذلك وهي فتاوى أهل العلم بل إجماعهم ؟! فالجواب : أن كلام أهل العلم عام في المتغلب العدل ولو جار، والمنكر هنا هو تخصيصه أو إسقاطه على بن سعود وذريته، حيث يلزم للتصدي له وجود "المجتهد" بالاصطلاح الشرعي، وفي نسبة الشيخ محمد وأبنائه إليه نظر !!
حيث أنكره علماء زمانه وعلى رأسهم الشيخ سليمان بن عبد الوهاب شقيق الشيخ محمد وشيخه، كما في كتاب "الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية" المنسوب إليه، والذي أصله رسالة من الشيخ سليمان لبعض الوهابية، هذا من جهةٍ مع التسليم أن الشيخ محمد وأبناؤه من أهل العلم - بالمعنى العام - ولا بد، ومن جهةٍ أخرى فربما كان من آل سعود طواغيت تعدوا الظلم والجور إلى ما هو أفحش، فتكون نسبتهم إلى المتغلب الجائر مجازفةً أفحش !!
لقد اعتمدت مملكة آل سعود على الغطاء الديني الذي توفره لهم الحركة الوهابية، لتثبيت سلطتهم ورفع شعار الدين، وتصحيح المفاهيم الخاطئة - حسب زعمهم - للعقائد والمفاهيم الإسلامية، فكان من شعاراتهم : (من عادى آل سعود يعادي الله، فخذ عدو الله لعهد الله واغدر به)، وهذا الأسلوب له جذور تاريخية كما هو في الحكم الأموي والعباسي، عندما كان يُستخدم علماء السوء والبلاط، لإصدار فتاوى تحض على طاعة الخلفاء، بغض النظر عن عدالتهم وظلمهم وجورهم !!.
إنّ آخر حقبة زمنية لدولة آل سعود والتي بدأت رسمياً عام 1932، والتي لا زالت مستمرة حتى اليوم قائمة على عدة محاور رئيسية :
المحور الأول : الدعم الديني من آل الشيخ، الذي يهدف الى شرعنة النظام السياسي، وإضفاء المشروعية الدينية على سياستهم والقرارات التي يصدرونها، وإعطاء شرعية دينية لسلوك وتصرفات آل سعود، وما يصدرونه من أنظمة وقوانين، واعتبار تلك القرارات - وإن كانت مجحفة - فهي تصدر من (ولي امر المسلمين)، وتكتسب الموافقة من رجال المؤسسة الدينية !
المحور الثاني : الحكم السلطوي المستبد الذي تهيأت له جميع أسباب القمع والتنكيل، من قوات بشرية وأسلحة قمعية، ووسائل أعلام دعائية تحرف الحقيقة لتظهرها بصورة مغايرة للرأي العام العالمي والمحلي !
المحور الثالث : التحالف السياسي والعسكري ما بين دولة آل سعود والدول الكبرى، بما فيها بريطانيا ومن بعدها حليفها الرئيسي ووريثها الحالي (الولايات المتحدة الأمريكية)، التي تعتبر حكومة آل سعود هي القاعدة الرئيسية والمهمة للولايات المتحدة في المنطقة !
المحور الرابع : الاقتصاد القوي الذي يعتمد على مخزونات هائلة من النفط، قادرة على إدامة عجلة السحق والإيلام لشعوب شبه الجزيرة العربية وغيرها !
إنّ ما يهمنا هنا هو المحور الأول وهو موضوع بحثنا هنا، حيث أنه هو الأساس والقاعدة التي تسند هذه المحاور جميعاً وغيرها، وهو الصبغة الدينية والشرعية لحكم آل سعود، وهو ما يصدره مشايخ السلطة من فتاوى تدعم الجانب السياسي مهما شطَّ وتنكب، وأخرى تطيح بالمعارضة السياسية بلا ادنى مبالاة، وثالثة تحجِّم أو تحطِّم دور الطوائف والمذاهب الإسلامية الأخرى، التي تضم بين جنباتها شعباً ذا امتداد تاريخي بدأ منذ زمن الظهور الأول للرسالة الإسلامية ولا يزال !!
وللحديث بقية إن شاء الله .
#فرحات_رمضان
تعليقات