ديناميات العلاقة بين السلطة السياسية الحاكمة و ظاهرة الرأي العام
تتحدد ديناميات العلاقة بين السلطة السياسية و ظاهرة الرأي العام بمجموعة من الأنشطة و الأنظمة السياسية الموجهة عبر آليات و وسائل متنوعة من قبل الطرف الأول إزاء مختلف مراحل تكون ظاهرة الرأي العام الطرف الثاني بحيث يتم إنتاجها و إعادة صناعتها و يتحكم في هذه العملية متغيرات ثلاثة: طبيعة السلطة و الأشكال التي تتخذها - نوعية المرحلة التكوينية التي يمر بها الرأي العام بصدد المشكلة المثارة - ثم طبيعة هذه القضية أو المشكلة و موضعها في أجندة أولويات كل من السلطة السياسية و الرأي العام
نستطيع القول أن السلطة السياسية تتدخل في مراحل تكون الرأي العام التي نميز بصددها بين أربع مراحل هي:
1. مرحلة إدراك المشكلة أو القضية محور ظاهرة الرأي العام: تولد ظاهرة الرأي العام و تتبلور عبر توافر المعلومات المناسبة كمّاً و نوعاً و توقيتا عن قضية أو مشكلة ما، عندئذ تتحول إلى قضية مثارة، و في هذه المرحلة يمكن للسلطة السياسية الحاكمة أن تتدخل عبر سياسة حجب المعلومة المطلوبة عن القضية المثارة أو احتكارها أو تشويهها أو التلاعب في طريقة أو توقيت إذاعتها و بثها، الأمر الذي يترتب عليه إحداث نوع من التشويه الإدراكي أي لشاشات الإدراك الفردية و الجماعية للرأي العام... و تلك نقطة البداية المهمة في عملية تشكيل الرأي العام و صناعته التي تتضمن درجة من درجات التحكم فيها من المنبع و الأصل: أي تمنع تشكيله في الاتجاه الصحيح أو تحرفه منذ البداية.
و لا يتحقق الإدراك فقط بوصول المعلومات التي يتم استقبالها، و الذي يعبر عنه على مستوى الجماعة بحق الاتصال، و لكن لا بد أن يتم الإدراك عبر شاشات نظام القيم الفردي و الجماعي أيضا، و بالتالي فالهيمنة على الرأي العام تتحقق - داخليا و خارجيا - عبر منطقين متكاملين الرقابة و التحكم في تداول المعلومات و الصور من ناحية، و التلاعب في البناء القيمي عبر الغزو الحضاري و الثقافي من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي سنتناوله فيما بعد.
و تختلف طبيعة العملية حسب طبيعة السلطة السياسية الحاكمة داخليا: هل تنتمي إلى النمط الديمقراطي التعددي أو النمط الشمولي، بدرجاته و أنواعه المختلفة؟ و بالتالي تتعدد أنظمة الرقابة و أنواعها؛ و أشكالها، و درجاتها؟ أو السلطة السياسية المهيمنة خارجيا؛ طبيعتها، و نظرتها للآخر؟ و نظام القيم الخاص بها؟ و طبيعة الرسالة الحضارية التي تؤمن بها و تسعى لتقديمها للبشرية حتى و لو من باب الدعاء ... إلخ.
يتفق هذا الأمر مع التحليل على المستوى العمقي لظاهرة الرأي العام، و مع التعريف الإختباري لها، بإعتبارها تفترض معرفة مسبقة بالمشكلة أو بالقضية التي أثارت الرأي العام و قدرا من الإحاطة بجوانبها المختلفة.
و هكذا يفترض تشكيل ظاهرة الرأي العام و صناعتها في هذا المستوى تعاملا سلطويا من شقين:
· ممارسة عملية الرقابة السياسية عبر الكثير من الآليات، و الأدوات.
· ممارسة إعادة تشكيل الطابع القومي عبر التسميم السياسي للإطار الفكري، و القيمي و العقيدي بآليات، و أدوات تختلف نوعيا عن الأولى.
و يلاحظ أن المستوى الثاني يحدد نوعية الاستجابة للمستوى الأول من مستويات عملية تكوين الرأي العام و صناعته فمعرفة النظام القيمي يحدد نسبيا كيفية التفاعل مع المعلومة، و كما أنه من جانب آخر يتعين معرفة كيفية التحكم في النظام القيمي داخليا، و التلاعب به و اختراقه خارجيا؟؟
2. مرحلة التفاعل و الحوارات و النقاشات و تحديد البدائل المختلفة للتعامل مع قضية الرأي العام: تتميز هذه المرحلة بتداول النقاشات و الحوارات بين وجهات النظر المختلفة و المتباينة، حتى تصل إلى درجة من التفاعل و الصراع الذي يحدد أوجه الخلاف بين الآراء في توصيف المشكلة أو القضية، و من ثم تحديد الحلول أو الوسائل التي يتم من خلالها التعامل معها، و يعد التمييز أو الاختلاف الواضح بصدد جوانب المشكلة مساحة يحدث الانقسام في كتلة الجماهير بين أغلبية و أقلية و قد تتدخل السلطة السياسية الحاكمة كطرف أساسي في الحوارات و النقاشات و تدير دفتها بوضوح و صراحة أو تفعل ذلك من وراء ستار و من خلال مجموعه من الوكلاء لكي تؤثر على عملية تكون الأغلبية و الأقلية حجماً و مضموناً و نوعية ... إلخ.
3. مرحلة تبلور الرأي العام و ظهوره في شكل الأغلبية و الأقلية: تشهد هذه المرحلة تبلور الأغلبية و الأقلية بصدد القضية المثارة و ظهورها، و تتحدد أدوار السلطة السياسية الحاكمة في هذا المستوى بمقدار هيمنتها على أجهزة الإقناع أو القمع الفكري، - و التي يسميها بعض المحللين "الأجهزة الأيديولوجية للسلطة" - و أحيانا قنوات السلطة السياسية، و هي تمارس هذه الأدوار من خلال تقنيات الدعاية السياسية، و سوف نقدم فيما بعد أحد النماذج الدعائية لتشكيل الرأي العام و صناعته عبر أنماط الخطاب الاتصالي.
4. النتائج العملية و السياسية للرأي العام قبل إختفاء المظاهر المعبرة عنه: تعتبر هذه المرحلة الخاتمة في حركة ظاهرة الرأي العام، و التي يتحول إلى أشكال من الأفعال السياسية عبر القنوات المختلفة التي يتيحها كل نظام سياسي حسب طبيعته و طبيعة النمط الحضاري الذي ينتمي إليه؛ ففي النظام التعددي مثلا نلاحظ أنه بعد أن تؤول الأغلبية إلى الظهور ننتقل إلى مرحلة تأسيس السلطة السياسية بجميع عملياتها و دينامياتها على الرأي العام عبر منطلقات ثلاثة: التعديل، أو الإلغاء ، أو الإرساء لقانون أو لقرار أو لإجراء أو لسياسة معينة، أو لقاعدة سلوكية جديدة، و محددة، و يظهر هذا المستوى من خلال العديد من الأدوات و الآليات التي تختلف من حالة إلى حالة أخرى - حسب نوع المشكلة أو القضية التي أثارت الرأي العام، و لكن المسألة دائما تكون من خلال قيام السلطة السياسية الحاكمة بوظيفتها الأساسية و هي عملية التخصيص السلطوي للقيم، و يتجلى ذلك مثلا في المؤسسة التعليمية من خلال وضع منهج تعليمي محدد..، أو في المؤسسة الإعلامية عبر تخطيط حملة إعلامية محددة. أو في المؤسسة التشريعية بسن قوانين محددة لعلاج حالة خاصة أو حالة مطروحة، على أن البعض لا يدخل هذه المرحلة ضمن نطاق اهتمام دراسة الرأي العام، و لكنه يعتبر مرادفا لمفهوم آخر هو الإرادة الشعبية، و إن كنا لا نتفق جزئيا - مع التحليل النظري لهذا الاتجاه - إلا أنه يرى أن هذه المرحلة تعبير عن النتائج السياسية أو العملية لفعل أو إعمال الرأي العام، و من هنا يهتم بها من هذا الجانب
نماذج من الخبرة السياسية المصرية لعلاقة الرأي العام و السلطة
يرى الكثير من الباحثين أن التاريخ معمل تجارب للعلوم الإنسانية و الإجتماعية و عليه فإن "النموذج التاريخي" هو الآداة المنهجية التحليلية التي تقوم على إمكانية اقتطاع أي حدث ذي دلالة من سياقه التاريخي و القيام بدراسته و فق ضوابط منهجية معينة مما ينتج رصيد من معرفة سنن الممارسة و الحركة التاريخية و قوانينها، وهناك وظيفة منهجية أخرى للنموذج التاريخي حيث هناك إمكانية للتجربة و القياس بالنسبة للأحداث و الوقائع التاريخية المتشابهة، و بالتالي فإن الحديث عن النموذج التاريخي في علاقة الرأي العام في مصر بالسلطة السياسية هي تجريد لخبرة معينة تكوِّن نسق متكامل يمكن اعتباره نموذجا مرجعيا لمقارنة و رؤية الواقع.
و الخبرة التاريخية التي سنتناولها هنا تنتمي للخبرة المعاصرة و الحديثة للعلاقة
بين السلطة و الرأي العام و هو النمط الذي تقدمه حركة يوليو 1952.
حركة يوليو 1952 تعد نقطة تحول تاريخية في التاريخ المصري الحديث، فقد كانت حركة
الجيش في 1952 إنتقالا بالبلاد من وضعية إلى وضعية أخرى مخالفة لها بصدد طبيعة
النظام السياسي و توجهاته في التعامل مع الرأي العام و القوى المجتمعية المختلفة
و نموذج حركة يوليو يقدم ثلاثة أنماط في خبرة التعامل مع الرأي العام المصري،
يترجم كل نمط منها طبيعة السلطة السياسية الحاكمة و إدراك القيادة السياسية للرأي
العام، و منطق التعامل معه بالإضافة إلى طبيعة القضية التي تم من خلالها تحريك قوى
الرأي العام المصري و المناخ العام الذي يجري في إطاره عملية التعامل معه، و هذه
الأنماط الثلاثة هي:-
§ نمط منه الرأي العام وصفه و الذي عَرِفَته الفترة الناصرية
§ نمط التلاعب بالرأي العام و الذي عَرِفَته الفترة الساداتية
§ نمط تحييد الرأي العام و هي ما عَرِفَته فترة مبارك ( )
أولاً: نموذج تعبئة الرأي العام (1952-1971)
قامت حركة الجيش في 23 يوليو 1952 كإنقلاب عسكري على الحكم تعبيرا عن رفض الجيش لما وصلت إليه أوضاع البلاد عامة و الجيش خاصة و لتتبنى استكمال الاستقلال الوطني و لتوسيع عملية التحديث و تنشيء الدولة العصرية إضافة لإصلاح أحوال المجتمع و محاربة الفساد (و هذا حسب بياناتهم الأولى)
القضية المحورية التي أثارت قوى الرأي العام المصري و شكلت أسس التحرك العملي:-
يمكن رصد بدايات الأحداث التي بلورت القضية التي أثارت الرأي العام المصري منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى قيام الحركة، و هو موضوع الجلاء الإنجليزي و انتشار الفساد، و هذه القضية كانت محور الأحداث العنيفة التي سبقت قيام حركة يوليو و مهدت لها و قد تطور مطلب الاستقلال بوصفه الحل الذي تقدمه قوى الرأي العام المصري للقضية الوطنية فلم يعد الاستقلال السياسي مجرد إجلاء الإنجليز عن مصر و إنما صار تحريرا للإرادة السياسية الوطنية من الضغوط الخارجية المفروضة عليها و رفضا لمعاهدات الدفاع المشترك مع القوى الكبرى، و اتساع نطاق "الاستقلال الوطني" و ساهم في ذلك ظهور القضية الفلسطينية التي هزت وجدان الرأي العام المصري و بدأ توجه الوطنية المصرية نحو إيجاد صيغة لتجميع القوى و الأقطار العربية في إطار فكرة الوحدة العربية، و بدأت قوى الرأي العام المصري تدرك أن قضية الاستقلال التي تحقق بشكل جاد لإزاحة الهيمنة الأجنبية على الاقتصاد المصري، و على مدى الثلاثينيات و الأربعينيات بدأت بعض قوى الرأي العام المصري تدرك أن القوى التي سيطرت على ثورة 1919 م تعكس توجها علمانيا صبغ فكرة الاستقلال السياسي بهذه الصبغة العلمانية و حصرت فكرته في كونه جلاء للمحتل الأجنبي بقصد "بناء مجتمع جديد على صورة المجتمعات الغربية" و من هنا بدأت تظهر الحركة الاسلامية تؤكد على الهوية و المرجعية الاسلامية للحركة الوطنية و التي بدونها لا يثبت الشعور بالتميز العقدي الحضاري
و استمرت الأوضاع في نهاية الأربعينيات تفصح عن حالة من الإحباط و الإضطراب و ذلك
إزاء رفض الانجليزمنح مصرالاستقلال الحقيقي و هزيمة الجيش المصري في حرب فلسطين و
فساد القيادة السياسية للبلاد و قد تفاقمت الأوضاع و جرت الأحداث بسرعة حتى
استحكمت القضية الفلسطينية و وصلت في نهايات 1951-1952 إلى أزمة سياسية حادة في ظل
عجز الحركة الوطنية عامة و الاسلامية خاصة عن أن تحل محل القوى المسيطرة على الحكم
بسبب غياب إرادة المواجهة لدى قيادة الحركة الإسلامية، و غياب تصور الصراع و
طبيعته و عدم القدرة على إدارته.
في إطار هذه الأجواء من الأزمة الشاملة من التعامل مع القضية الوطنية ظهرت حركة
الضباط الأحرار في الجيش المصري، و قد تواجد في داخلهم مختلف التيارات السياسية
التي راجت بين الشباب المصري ذلك الوقت، و هم يرتبطون بجامع "الانتماء إلى
المؤسسة العسكرية" و في ظروف الأزمة السياسية جرت حركتهم التي انتهت بالسيطرة
على جهاز الدولة، و برغم أن المطالب التي اتفقوا عليها و أعلنوها من المباديء
الستة بعد نجاح الحركة كانت بمثابة ترجمة لمفهوم الاستقلال الشامل الذي تكلمنا
عنه، فإنها كانت تنظر إلى الجماهير بتوجس.
ممارسات سلطة يوليو بصدد تشكيل الرأي العام المصري
نستطيع في هذه الفترة رصد الكثير من الأزمات التاريخية التي واجهت سلطة ثورة يوليو و قامت بعملية صناعة الرأي العام و منها أزمة مارس 1954، و أحداث 9-10 يوليو 1987 م
1.
أزمة 1954 م
و إعادة تشكيل الرأي العام المصري:
تعد أزمة مارس نقطة تحول خارقة
بمختلف ما بعدها كما كان سائدا قبلها سلبا و إيجابا، فقد كانت خيارا بين توجهين
للحركة السياسية المصرية و كانت حاسمة في اختيار
أحدهما فقد كانت الحركة الوطنية عامة تتبنى الديمقراطية كطريقة لتنظيم جهاز الحكم
( ) ، و كانت الحركة الإسلامية تتبنى قضية التميز العقائدي و الحضاري من خلال
الهوية و المرجعية الإسلامية.
و حيث أن حركة يوليو و هي تنتمي إلى المؤسسة العسكرية من داخل جهاز الدولة رأسا من
غير الطريق الديمقراطي، أضف إلى ذلك حسم الحركة منذ وقت مبكر قضية وجود الاسلاميين
في قيادة الحركة مما حسم اختيارات الحركة سواء في تبني الديمقراطية و الحريات أو
تبني المرجعية الإسلامية كإطار مرجعي للدولة و لكن هذه النتائج احتاجت لعامين بعد
1952 ليبدوا آثارها واضحة، حيث أنه حتى عام 1954 م لم يكن قد تبين الوجه الواضح
لرجال الحركة إلا كوعود كتاريخ سابق، و كانت معاهدة 1954 بين مصر و إنجلترا مما
خيب آمال الكثيرين من رجال الحركة الوطنية و قوى الرأي العام في ذلك الوقت بسبب ما
تضمنته في إمكان عودة القوات البريطانية لمصر إذا ما تهددت الحرب في الدول العربية
و تركيا فلم تكن المعاهدة مما يكفي للإطمئنان للتوجه الوطني للقيادة الجديدة و لكن
ما لبث هذا الأمر أن تحقق للرأي العام في عام 1956 بتأميم القناة و إلغاء معاهدة
1954، و ما تلاها من أهداف معروفة و منها كان انفصال جانب تحقق السياسات الوطنية
عن جانب تنظيم الحكم بأسلوب ديمقراطي يعتمد أساسا على ما تفرزه قوى الرأي العام
المصري و بالتالي فقد افتقد النظام مشاركة حقيقية للرأي العام المصري في سياساته و
انجازاته التي كانت نتيجة سياسات أفراد و قراراتهم الفردية بالأساس.
و على الجانب الآخر نشطت الدعاية الناصرية لتعبئة جماهير الرأي العام المصري و
سوقهم في مظاهر التأييد لكل القرارات السياسية الصادرة في ذلك العهد، و في نفسه
كانت آلة الهيمنة و الرقابة تفرض عليهم و على عقولهم عدم معرفة سوى القدر اليسير
من الحقائق السياسية و المجتمعية في إطار رقابة أجهزة المخابرات و قد استمر هذا
الوضع سائدا و مسيطرا على الفكر و الممارسة السياسية في مصر، ما دامت المضامين
السياسية رغم أنها قد تحققت، و في هذا الإطار ابتدعت دعاية تلك الفترة مفهوم
"الديمقراطية الموافقة"، لكي يكون بديلا عن (ديمقراطية المشاركة ما دامت
الجماهير "موافقة") في تلك الانجازات الوطنية المزعومة للقيادة السياسية
و باعتبار أن الشرعية السياسية هي رضا المواطنين.
فإنه لا حاجة للمشاركة الفعلية لقوى الرأي العام المصري عبر انتخابات أو غيرها
2. أزمة مظاهرات 9-10 يونيو 1967 م و دلالتها:
عقب الهزيمة القاسية في 5 يونيو 1967 قام عبد الناصر بإلغاء بيان التنحي
المشهور، فكان أن خرجت جماهير غفيرة من الرأي العام المصري تعلن تمسكها بقيادة عبد
الناصر رغم الهزيمة، و بالرغم من أن البغدادي و غيره يؤكد أن تنظيم الاتحاد
الاشتراكي - و هو أحد أدوات النظام الناصري في تعبئة الجماهير خلف سياسات النظام و
هو الذي حرك هذه المظاهرات، إلا أن آخرين كجمال حماد الذي كان محافظا لكفر الشيخ
وقتها - مع إقراره لهذا الأمر فهو يؤكد أن هناك جماهير كثيرة تحركت من تلقاء نفسها
و البعض من المحللين يفسر هذا التحرك الجماهيري بأنه حالة من الطفولة السياسية في
حالات اليتم السياسي بفقدانه و يرى البعض الآخر أن هذه حالة من حالات الجيشان
العاطفي الجماعي من شعب إزاء قيادته السياسية لا يمكن إرجاعه لأسباب موضوعية
حقيقية، و الواضح أن عبد الناصر كان يدرك تماما الأثر الذي سيحققه البيان في
الجماهير و هو ما عبر عنه حسين الشافعي - نائب رئيس الجهورية وقتها - أن عبد
الناصر كان لاعبا سياسيا ماهرا يدرك الأثر الذي سيحدثه خطابه في الجماهير، و هذه
الهزيمة كشفت عن أن الخلل الحقيقي و الذي أنتج هذه الهزيمة كان يتعلق بطريقة بناء
الدولة و تنظيم المجتمع على أسس لا تكفل مشاركة قوى الرأي العام و بناء التنظيمات
الشعبية الحقيقية القادرة على تغذية هذا البناء و دعمه، و هذه النتيجة ظهرت من
البداية بشكل هدامي و غير محدد منذ يوليو 1967 حتى فبراير 1968 ، حيث حدثت
المظاهرات الواسعة كرد فعل للأحكام المجحفة الصادرة بحق قادة الطيران و اعترف
النظام السياسي بالخلل التنظيمي في الدولة و المجتمع في بيان مارس 1968، و لكن
اتضح بعد ذلك أن هذا البيان كان مجرد تهدئة للرأي العام و على أية حال لم يتم
إجراء أي تعديل جوهري في نظم الدولة و المجتمع خلال السنوات التالية حتى 1971 م بل
لعل السلطة الفردية قد صارت أكثر تفردا بعد تصفيته لمراكز القوى التي كانت مشكلة
في القوات المسلحة على يدي عبد الحكيم عامر و رجاله.
طبيعة القوة القائدة لتحرك الرأي العام المصري 1952 و إدراكها له:-
القوة القائدة لتحرك الرأي العام في 1952 هي الضباط الأحرار و كانت أهم سمات حركتهم هي:-
· كانت استجابة لروح العداء الاستعماري البريطاني، و كانت تنازع الحركة اتجاهان أما الانضمام إلى الأحزاب القائمة أو حصر الحركة السياسية لهم على مؤسستهم العسكرية و مع الوقت رجح الإختيار الثاني
· كونها حركة في نطاق بعيد عن الحركة الجماهيرية جعل رؤيتها للتغيير تنحصر في وسيلتي الاغتيالات أو الانقلاب و تأرجحت الحركة بين الوسيلتين حتى تقرر القيام بالإنقلاب العسكري عشية 23 يوليو 1952 م
· استغلال الضباط وضعهم الوظيفي بالجيش إما في فاعلية التحرك و هذه سمة عامة تظهر في كل حالات التحرك السياسي للمؤسسات العسكرية "الانقلابات العسكرية"، فالحركة لا تقوم بالشعارات أو البرامج السياسية التي ترفقها الأحزاب لتحريك الجماهير و قوى الرأي العام، و إنما عن طريق"الأمر الإداري" هي إظهار علامات الخضوع الرئاسي في شكل تعليمات تنفيذية محددة توكل إلى كل فرد أو جماعة ضعيفة دون إدراك المأمورين للهدف العام وراء ذلك، و من هنا نلاحظ حرص مخطط الحركة على أن يجذبوا بعض أصحاب الرتب بغيره نسبيا لملأ فراغ ما في عملية التنفيذ و بهذا جميعه أمكن تحريك القوى المؤثرة للمؤسسة العسكرية و بالقدر الذي مكن من الإنجاز المطلوب في صورة التنفيذية الملموسة
· إدراك القيادة لدور الرأي العام المصري في علاقة السلطة السياسية في البيانات الأولى التي صدرت في أول أيام الحركة مما يفصح عن إدراكها لدور الرأي العام المصري و لنمط علاقتها السياسية به، فهي قامت نيابة عنه تفكر و تعمل له، فقد كانت تناشد الجماهير أن تخلد إلى الهدوء و السكينة و النظام دون دعوة للتحرك ، و دون طرح أهداف سياسية محددة يمكن أن تساهم الجماهير في صنعها مع القيادة، و قد جاء في البيان الذي أذيع يحمل نبأ تنازل الملك عن العرش في 26 يوليو 1952 م "لإن نجاحنا للأن في قضية البلاد يعود أولا و أخيرا إلى الهدوء و السكينة، إنني أتوسل إليكم أن تستمروا في إلتزام الهدوء التام حتى نستطيع مواصلة السير بقضيتكم في أمان"
و تفصح القيادة الناصرية عن رؤية متشككة في فاعلية الرأي العام المصري، فذكر في فلسفة الثورة ما يلي "و لقد كنت أتصور قبل 23 يوليو أن الأزمة كلها متحفزة متأهبة و أنها لا تنتظر إلا طليعة تقتحم أمامها السور فتندفع الأمة وراءها صفوفا متراصة منتظمة تزحف زحفا مقدسا إلى الهدف الأكبر .....و كنت أظن أن دورنا هذا لا يستغرق أكثر من بضع ساعات و يأتي بعدها الزحف المقدس للصفوف المتزاحمة المنتظمة إلى الهدف الكبير ... ثم فاجئني الواقع بعد 23 يوليو، قامت الطليعة بمهمتها و اقتحمت سور الطغيان و خلعت الطاغية، و وقفت تنتظر وصول الزحف المقدس للصفوف المزاحة المنتظمة إلى الهدف الكبير ..و طال انتظارها ... لقد صارت جموع ليس لها آخر .. و لكن ما أبعد الحقيقة عن الخيال ... ما كانت الجموع التي صارت أشياعا متفرعة، و فلولا متناثرة ... و تعطل الزحف المقدس إلى الهدف الكبير ... و بدت الصورة يومها قاتمة مخيفة تنذر بالخطر"
و الواقع إنها تتمة لما حدث للشعب المصري و لقوى الرأي العام المعبرة عنه تسلل
الرعب في النفوس بالتدريج و مع الرعب و الخوف ظهرت السلبية و النفاق، و التحدث
بلغتين، و جهر المرء بعكس ما يؤمن به من آراء و فقد الإنسان المصري قدرته على
الرفض و الاعتراض، كما فقد ملكة التفكير العقلي المتزن، إذ كان القمع مصحوبا بحملة
دعائية منظمة قائمة على أسس "علمية" مدروسة تستهدف في نهاية الأمر ألا
يكون هناك سوى رأي واحد، و ألا يسمع الناس إلا وجهة نظر واحدة، تظل تردد و تكرر
المرة تلو المرة إلى أن يصدقها كل من كان يقاومها و لم يكن مقتنعا بها في مبدأ
الأمر، لقد أصبح الإنسان المصري من فرط خوفه و انكماشه يقبل أوضاعا ما كان يقبلها
من قبل فأصبح يقبل باستسلام فكرة وجود قانونين، قانون للمحكومين و قانون للحاكمين،
و هذا الوضع - وجود مثل هذين القانونين - قد يوجد في بعض الفترات التاريخية، و لكن
أخطر الظواهر في التجربة الناصرية هي أن الناس أصبحوا بالتدريج يقبلون بهذه
الإزدواجية بوصفها أمرا طبيعيا و لا يعلقون عليها و كأنها من طبيعة الأشياء، و لعل
هذا هو التخريب الداخلي لنفسية المصري و عقله، فالمشكلة لم تكن انتشار مظالم و
استثناءات، بل كانت في خلق نوع من اعتياد الانسان المصري عليها إلى حد أنه أصبح
يراها شيئا طبيعيا، و بحيث يعتد الإحساس بالظلم، و تحول الاستثناء إلى قاعدة لا بد
من قبولها بإستسلام.
و النتيجة النهائية للتجربة الناصرية - على المستوى الفردي - هي أن الفرد حتى لو
فكر فلن يجدي تفكيره شيئا فالأمور تسير دائما كما يريد أصحاب السلطة، و على
المستوى الجماعي فإن آلة القمع قائمة و مستعدة و الشعارات التبريرية جاهزة فلا صوت
يعلو فوق صوت المعركة لإخماد كافة الأصوات التي لا تنخرط في القطيع الذي تحول إليه
سلوك الرأي العام المصري.
الدلالات الأساسية لعلاقة السلطة السياسية الحاكمة في الفترة الناصرية بالرأي العام:
يمكن الخروج من دراسة هذا النموذج و النمط بالدلالات التالية:-
1. الدلالة الأولى: تم الدمج عمليا بين السلطتين التشريعية المفترض أنها ممثلة للرأي العام و المحكومين و السلطة التنفيذية الممثلة للحاكمين، فقد استوعبت السلطة التنفيذية الوجود المستقل للمجلس التشريعي، و بذلك انتهت عمليا فعالية الرأي العام المصري كما رأينا.. أما بالنسبة للسلطة القضائية فقد تضمنت دساتير 1956 - 1958 - 1964 م نصوصا تمنع التقاضي بالنسبة لبعض مجالات نشاط الدولة مما عرف بنظرية أعمال السيادة في الفقه الدستوري، و أخرى تقضي بتشكيل محاكم خاصة عسكرية أو محاكم لأمن الدولة تحكم في أنواع معينة من القضايا غالباً ما كانت تلك القضايا المتعلقة بالرأي العام ....
2. الدلالة الثانية: المركزية الشديدة في بناء أجهزة الدولة حتى قمة الهرم الذي يتمثل في شخص رئيس الجمهورية، و قد منح جهاز الإدارة وظائف تتخطى حدود وظيفة التنفيذ الأصلية المنوطة به، فأوكل له رسم السياسات و تقريرها كنتيجة لازمة لارتباط الوظائف التشريعية و التنفيذية و اندماج سلطات الدولة، و تم ذلك بعيدا عن إشراك فعلي للرأي العام أو استجابة لمطالبه، كما جمع القائم على رأس الدولة سلطات تقرير السياسات و تشريعها و تنفيذها، و ظهر كمصدر للشرعية و منبعا للسلطة السياسية على نطاق المجتمع كله، و تشكل الهيكل التشريعي على أساس من هذه السلطات المركزة.
3. الدلالة الثالثة: استغناء التنظيم السياسي للدولة و المجتمع عن مبدأ الحزبية في عمومه - سواء تعدد الأحزاب أو الحزب الواحد - فقد فرضت الضرورات السياسية نفسها على الضباط و حركتهم فصار جهاز الدولة معهم هو الجهاز السياسي و الإداري معا، و لم يوجد بعده تنظيم سياسي حزبي له ذاتيته المتميزة عن الدولة، أو مكنة الإمساك بزمامها، بل العكس هو ما حدث، إذ تركزت السلطات في جهاز الدولة و تركزت فيه الوظائف السياسية المختلفة، و دارت التنظيمات السياسية الشعبية في فلكه بكل ما لذلك من آثار على الرأي العام المصري.
4. الدلالة الرابعة: تجسدها النجاحات الدعائية و الإعلامية؛ فقد كانت الدعاية الناصرية ناجحة إلى حد بعيد في ربط الناس بالسياسات المطبقة حينذاك، و التي كانت في أبعادها الخارجية موجهة سياسيا ضد الاستعمار الأجنبي و ما قام بإنشائه من تكتلات معادية، مع طرح فكرة الوحدة العربية على الصعيد الإقليمي، و موجهة في الداخل لإجراء قدر من التنمية الإقتصادية مصحوبة بقدر لا بأس به من عدالة التوزيع، لكن الذي ظهر بعد 1967 م أن النظام الذي بناه عبد الناصر لم يستطع الحفاظ على فعالية سياساته، و لا أن يحمي استقلال البلاد أو أن يحافظ على مشروع الاستقلال الوطني ككل، و كانت السلبيتان الأساسيتان في هذا الصدد هما:
· الأولى: مسألة ابتعاد بناء الدولة و السلطة عن القيم و الإجراءات الديمقراطية
· الثانية: مسألة غياب الهوية و المرجعية الإسلامية.
و مع هزيمة 1967 م انكشف هذا الوضع و بدأت قوى المجتمع السياسية و الإجتماعية تطرح مواقفها و توجهاتها باحثة عن صياغة جديدة لمشروعها، و لكن التساؤل الذي يجدر طرحه في هذا المقام هو مدى استمرارية النجاحات الدعائية في رسم صورة ذهنية معينة لدى قوى الرأي العام المصرية،
فوفقا للمقولة السياسية الرائجة إنه يمكن خداع بعض الناس بعض الوقت و لكن لا يمكن خداع كل الناس طوال الوقت، فتجربة الدعاية الناصرية و التي قامت بدرجة كبيرة من النجاح - في إطار سلطة شمولية - بعملية صناعة للرأي العام المصري و نوع من غسيل المخ الجماعي تحتاج دراسة مفصلة في حقيقة الأمر و لو في إطار مقارن مع تجارب دعائية أخرى أثبتت الأحداث بعد فترة فشلها من قبيل: تجربة الدعاية النازية، و الفاشية، و السوفيتية، الأمر الذي لا مجال للتعرض له في هذا الموضع، و لكن الأمر الجدير بالملاحظة أنه برحيل القيادة الكاريزمية لعبد الناصر تراجعت معظم شعاراتها و سياساتها بشدة حتى أن البعض تحدث بعد إنقضائها عن عودة الوعي؛ الأمر الذي يثير على أوسع نطاق التساؤل حول مدى استمرارية نجاح السياسات الدعائية لأنماط السلطة السياسية الشمولية بشكل تنظيري عام
5. الدلالة الخامسة: عرفت هذه الفترة و جسدت ظاهرة الزعامة الملهمة "الكاريزمية" و التي جمعت الجماهير و حولتها إلى قوى لا يستهان بها؛ مما جعلها قادرة على الإستمرار في التوكيد على النداء الحركي للإستقلال، و ذلك ليس في الشارع المصري وحده، و إنما في الشارع العربي أيضا، فصار قوة محتشدة، و معبأة لصنع المستقبل، و لكن القيادة التي خرجت من المؤسسة العسكرية عجزت عن إقامة الأمة، فاستمرت بديلة عنها، و استفحلت المؤسسة الإدارية بجناحيها المدني و العسكري بديلا عن الأمة في القيام بأدوارها الحقيقية
6.
تعليقات