سرعان ما تبدل الحال بعد الحرب العالمية الثانية التي كان فيها الاتحاد السوفيتي صديقا للولايات المتحدة الأمريكية والغرب في حروبهم ضد ألمانيا النازية الهتلرية وحلفائها، حتى عاد الاتحاد السوفيتي العدو الأخطر المهدد لوجود البشرية وليس أمريكا الغرب فحسب، كما كان الحال قبل الحرب.
وطوال الفترة بعد الحرب العالمية الثانية من الخمسينات إلى نهاية الثمانينات، وهي الفترة المعنونة بالحرب الباردة، كان الاتحاد السوفيتي هو العدو الأخطر للمصالح الأمريكية الغربية، ودارت رحى الحرب بالوكالة في مناطق شاسعة من العالم، بين قطبي القوة في النظام العالمي، المعسكر الغربي الليبرالي الرأسمالي بقيادة أمريكا وأوروبا، والمعسكر الشرقي الشيوعي الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي والصين.
وكانت السياسة الخارجية الأمريكية تعتمد عدة أهداف، في مقدمتها: احتواء الاتحاد السوفيتي، ومنع توسعه في البلدان المجاورة والبعيدة، ومنع تصدير الفكر الشيوعي الاشتراكي، ومن ثم تحقيق التفوق الأمريكي السياسي والعسكري والاقتصادي على الصعيد العالمي، ونشر قيم الديمقراطية وقيم الليبرالية واقتصاد السوق الحر.
واتبعت عدة استراتيجيات في مواجهة الخطر السوفيتي: سياسة الاحتواء، سياسة الردع الشامل، سياسة حرب النجوم.
ومع انتهاء فترة الثمانينات وحلول التسعينات، شهد العالم سقوط وانهيار الاتحاد السوفيتي، والقوة السوفيتية العظمى، وتفكك المعسكر الشرقي، وسقطت أنظمة الحكم الاشتراكية في دول أوروبا الشرقية، وانسحبت منها الجيوش السوفيتية، وقامت أنظمة بديلة تقوم على الديمقراطية الغربية ونظام السوق.
وبالتالي تغيرت أولويات السياسة الأمريكية، حيث أصبحت القوة العظمى الوحيدة التي تقبع على قمة النظام الدولي، وأعلنت النظام العالمي الجديد، ونظر لها المنظرون، وفي مقدمتهم فوكوياما بنظرية نهاية التاريخ، وصارت أولوياتها: استثنائية القوة الأمريكية العسكرية، نشر قيم الديمقراطية والليبرالية، الحروب الاستباقية، استخدام القوة ضد الأخطار المحتملة مستقبلا قبل وقوعها.
لابد من عدو
ثم جاء هنتنجتون بنظرية صدام الحضارات، التي رشحت القوى أو الحضارات المعادية للحضارة الغربية، وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية، وهكذا تم استبدال العدو الأخضر الإسلامي، بالعدو الأحمر الشيوعي.
وصارت محاربة الأصولية الإسلامية أو الحرب على الإسلام في مقدمة أولويات السياسة الأمريكية، وكان تنظيم القاعدة هو الممثل الرئيسي للإرهاب، ومن ورائه الدول المارقة، وفي مقدمتها إيران وسوريا، والجماعات المصنفة إرهابيا، وفي مقدمتها منظمة حماس، ومن ورائها الجماعات التابعة لإيران الشيعية، كحزب الله.
واحتاجت أمريكا إلى الحشد العالمي ضد الخطر الأصولي الإسلامي، وما اتصل به من جماعات تالية كجماعات الإسلام السياسي، والجماعات السلفية، باعتبارهما منبعا للمجاهدين، وهما نواة الإسلام الحضاري المضاد للحضارة الغربية، وبالفعل قامت بضربات استباقية لهذه الجماعات في التسعينات، خاصة في مصر والجزائر.
أما الجماعات الجهادية، فلم تحتج أمريكا إلى كبير جهد لحشد القوى العالمية الغربية ضدها خاصة، بل وضد الإسلام وجماعاته المختلفة، عامة، والدول الراعية له.
ولكن المفارقة هي أن الرفيق المعين والشريك الأكبر كان الجمهورية الإيرانية الإسلامية.
فإيران كانت هي المساعد الأكبر لأمريكا في حروبها جميعا في المنطقة، ضد الإسلام السني، في أفغانستان والعراق، ثم سوريا واليمن، وغيرهم.
وسمح ذلك التعاون الأمريكي الإيراني، بالتمدد الشيعي في هذه الدول، وانطلقت الميليشيات الشيعية التي جاوزت الخمسين، في دول العالم السني، وأحكمت سيطرتها على العراق، ومكنت نظام الأسد العلوي الموالي لإيران، قلبا وقالبا، من البقاء على قمة النظام السوري، وهي قبل ذلك تمسك بمقاليد الأمور في لبنان، وهي في الطريق لكسب معركة اليمن لصالحها.
وبذلك استطاعت الولايات المتحدة من احتلال العراق ونهب ثرواتها، ومن قبلها نهب نفط أفغانستان، ثم نهب نفط سوريا، وزرع حكومات موالية أو متعاونة، هنا وهناك، كما استطاعت الحد من خطورة تنظيم القاعدة، إلى أقصى درجة، وتحقيق نصر كبير، خاصة بعد قتل زعيمه ابن لادن، ثم هزيمة تنظيم الدولة، وقتل زعيمه البغدادي.
كما استطاعت بعد فرض معادلة الشرق الأوسط وفق المنظور الأمريكي، من الإصلاح السياسي وفرض بعض قيم الديمقراطية، والإصلاح الاقتصادي، والثقافي والتعليمي، ثم فرض نظرية الفوضى الخلاقة، وطرح نظرية إعادة تقسيم الدول العربية، أدى ذلك وغيره، إلى التمهيد لقيام الثورات العربية ضد الأنظمة الديكتاتورية العتيقة في المنطقة، التي كانت تتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها تتحرك في هامش من المعارضة يسمح لها بالبقاء على السلطة.
ولكن بعد تغير هذه الأنظمة وفق لعبة الثورات، عاد نموذج آخر من الديكتاتوريات موالية تماما للولايات المتحدة، بصورة أكثر فجاجة، ولكن الأمر الأشد خطورة أن هذه الدول قامت بالوكالة عن أمريكا في محاربة الإسلام السياسي، خاصة في مصر وتونس، وبرعاية السعودية والإمارات، وغيرهما.
ففي نفس الوقت الذي حاربت فيه أمريكا التنظيمات الجهادية، القاعدة وتنظيم الدولة، وفروعهما، قامت الدول العربية والإسلامية بمحاربة الإسلام السياسي، وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين، من السعودية والإمارات، إلى مصر وتونس، إلى السودان وموريتانيا، وحتى الأردن والمغرب.
وهكذا استطاعت الولايات المتحدة بمساعدة حلفائها الإقليمين سواء الدول العربية أو الإسلامية أو إيران من إضعاف قوى الإسلام المناوئة المعادية، واستطاعت المضي قدما في تحقيق نظرية الفوضى الخلاقة، واستطاعت تغيير كثير من الأنظمة في الإقليم، لتصبح موالية لها بصورة فجة، حتى إنها على وشك إقامة حلف عربي، أو ناتو عربي، يذكرنا بحلف بغداد في الخمسينات.
ولكن لماذا هذا الحلف، وقد استطاعت هزيمة القوى الإسلامية؟.
الجواب: إيران
فإننا نلحظ أنه خلال هذه المسيرة الطويلة، وبرغم العلاقة المتبادلة المصلحية بين أمريكا وإيران، فإن كلا منهما هو في الحقيقة عدو للآخر، وكلاهما يدرك ذلك جيدا، ولكنها كانت معركة مؤجلة حتى القضاء على الإسلام السني.
وخلال هذه المسيرة أيضا، كما اتبعت الولايات المتحدة سياسة الاحتواء مع الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة، اتبعت تقريبا نفس السياسة مع إيران فترة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، مع بعض المتغيرات.
فقد حشدت الولايات المتحدة دول العالم العربي السنية ضد الدولة الإيرانية الشيعية، منذ البداية، بل وحاربتها بعضهم، إلى أن وصل الحال بهذه الدول أن تسعى لتكوين حلف ناتو عربي لمواجهة الخطر الإيراني، وكأن هذه الدول استيقظت فجأة بعد أربعين عاما من قيام الثورة الشيعية الإيرانية، لترى الخطر الشيعي ماثلا أمامها، مما يستدعيها لهذا التحرك الكبير.
وهكذا من العدو الأحمر الشيوعي، إلى العدو الأخضر السني، إلى العدو الأخضر الشيعي.
ولكن هناك الكثير من المتغيرات والصعوبات، أهمها:
- أن أمريكا لم تستطع إلى الآن حشد القوى الغربية وخاصة الأوروبية في معركتها الجديدة ضد إيران، بل وفشلت في ذلك فشلا ذريعا، وما مؤتمر وارسو إلا مثال على ذلك الفشل.
- أن أمريكا وتحديدا منذ تولي ترامب وهي تزيد من عداء الدول الصديقة والابتعاد بمسافات متفاوتة عنهم من ناحية السياسات الخارجية والأولويات والأهداف، وبمرور الوقت لا تزيد إلا من حالة العداء ضدها، حتى من حلفائها الأوروبيين.
- كذلك أمريكا لا تستطيع الدخول حرب بمفردها الآن، بصورة مباشرة.
- كما أن دول الاحتواء ليست بالقوة الكافية لردع إيران، لا السعودية ولا إمارات، الغارقتان في المستنقع اليمني، فضلا عن البحرين، التي تقع تحت نفوذ شيعي مجتمعي كبير، أو عمان التي هي خارج المعادلة تماما، وكذلك الكويت التي ترغب دائما بسلوك موقف الاعتدال أو الحياد، وهي تذكرني بدولة بلجيكا الأوروبية التي نقع بين القوتين فرنسا وألمانيا، وكذلك بولندا بين ألمانيا وروسيا. وتتبقى قطر التي يعتبرها البعض ولاية أمريكية، ولكنها تعتبر خارج معادلة القوة كذلك.
- أيضا ليس النظام العالمي كما كان، فلا هو ثنائي القطبية، ولا أمريكا تقبع على قمته كقوة واحدة، كما التسعينات، ولكنه أقرب إلى كونه نظام متعدد القوى، ربما لا تستطيع أمريكا اتخاذ قرارات فردية عنترية، كما فعلت في حالة أفغانستان والعراق، فثمت روسيا، والأقوى منها الصين، تلك الدولة التي بعثرت سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والأقصى.
- كذلك ليست الأجواء التي مهدت لغزو أفغانستان والعراق موجودة الآن، ولا ما يقاربها، فقد هزمت الجماعات الجهادية، وهزمت الأصولية الإسلامية، وحققت أمريكا، وفقا لرؤيتها، نصرا كبيرا على الإرهاب، وفوق ذلك فقد حققت نصرا أكبر على جماعات الإسلام السياسي، وليست هناك مسوغات كأحداث 11 سبتمبر، يجتمع حولها الرأي العالمي.
- أيضا فإن تلك الحروب كانت ضد جماعات وحركات خارج نطاق الدول، ولم تكن أيا منها دولة ذات سيادة، وحدود جغرافية، ونظام حكم متماسك، ومؤسسات، وجيش كبير قوي، وأسلحة نووية. وفوق ذلك فإنها دولة تمتد أذرعها خارج حدودها لتجد لها دولا شبه تابعة لها بقوة، في الإقليم من حولها، ولها ميليشياتها العسكرية في أماكن متفرقة منه، وفي غيره.
-
فالذي
تحتاجه الولايات المتحدة إذا للتغلب على هذه الصعوبات أن تدفع إيران لتكون هي
المعتدية، لتتحقق صورة الإرهاب الذي يكفي القوى العالمية الموالية لأمريكا أن
تشاركها الحرب، والقوى العالمية الغير موالية أن تأخذ سبيل الحياد على الأقل.
فما هي الأسباب التي يمكن أن تدفع إيران لفعل أمر مثل ذلك؟
وما الذي يمكن أن تفعله إيران بحيث يحقق الإجماع الغربي على حربها؟
وهل يكفي قتل قائد مثل قاسم سليماني أن يدفع إيران للمواجهة المحتومة؟
وماذا على إيران أن تفعله لتتجنب الحرب المدمرة التي ربما ستكون هي فيها الخاسرة في نهاية الأمر؟
وفي نفس الوقت كيف يمكنها محو الآثار السلبية لهذه الحادثة التي وضعتها في موقف لا تحسد عليه في موازين القوى؟
في رأيي يمكن لإيران أن تسلك طريقا سلكته أمريكا مع أعدائها، وهي أن تقوم بدعم جماعات مسلحة كثيرة حول العالم، بالمال والسلاح والاستخبارات، تقوم بإجبار أمريكا على التراجع خطوات، للعودة إلى الحرب على الإرهاب، وشغل أمريكا بنفسها، وإدخالها في حرب ظنت أنها قد انتهت منها.
فماذا لو عملت إيران على إحياء تنظيم القاعدة وفروعه وأجنحته؟ أو الأسوأ تنظيم الدولة الإسلامية؟.
لقد استغرقت الولايات المتحدة الأمريكية نحو أربعين سنة لهزيمة الاتحاد السوفيتي. واستغرقت نحو ثلاثين سنة لهزيمة الإسلام السياسي والجهادي. فكم ستستغرق لهزيمة الجمهورية الإيرانية الشيعية؟ وهل هي مستعدة لتكاليف الحرب؟ هذا ما ننتظر حدوثه. ([1])
([1]) بقي أن يقال إن ترامب ربما استعجل تنفيذ الاستراتيجية لأهداف سياسية داخلية، حيث يواجه احتمالات العزل، أو عدم إعادة انتخابه، فاراد أن يقدم بعض أوراق الاعتماد لدى الناخب الأمريكي، وبصفة خاصة اللوبي اليهودي الصهيوني المسيحي.
ومما يدل على استعجال ترامب لهذا الأمر وأن الولايات المتحدة ليس في مقدورها الآن خوض هذه الحرب، الرد الهزيل من إيران، لحفظ ماء الوجه، بعد ترتيبات مع الولايات المتحدة نفسها.
تعليقات