بارباروس .. وحش البحر الضاري

لا تصاغ مشاهد السينما بارتجالية، ولا تكتب سيناريوهات أفلامها بعشوائية، بل تحمل ورائها إرثا تاريخيا من الحقد يجهله كثير من المشاهدين.

فتتراكم في أذهانهم صور مشوهة لأبطال تفردوا بالمجد عبر صفحات من تاريخنا المنسي، ومن هؤلاء بارباروس .. وحش البحر الضاري.

ذلك الأسطورة الذي اهتم المفكرون الغربيون بسيرته ومنهم:"ياتسيك ماخوفسكي" في "تاريخ القراصنة "، وتناولته كذلك السينما الغربية بتشويه صورته والطعن في جهاده ومقاصده.

ولو استعرضنا شيئا من تاريخ هذا البطل العظيم والمجاهد الكبير قبطان أساطيل الدولة العلية فهو:

خضر بن يعقوب المشهور بخير الدين، وبربروسا هو ما عرف به لدى الأوروبيين أي ذو اللحية الحمراء (barba: لحية، rossa أحمر)

وهو أحد أكبر قادة الأساطيل العثمانية، وأحد رموز الجهاد البحري، تولى منصب حاكم إيالة الجزائر، ثم عينه السلطان سليمان القانوني كقائد عام لجميع الأساطيل البحرية للخلافة العثمانية.

تصدى خير الدين للحملة العسكرية على الجزائر التي قادها ملك صقلية هيكو دي مينكادا في سنة 1519 م، كما تمكن من الاستيلاء على مدينة القل و بونة (عنابة) و قسنطينة.

واستطاع خير الدين أن ينقذ مايفوق 70.000 من المهاجرين الأندلسيين، ونقلهم إلى الجزائر، فازدهرت المدينة بفضل مهارة الأندلسيين الذين نقلوا إليها فنونهم وصناعاتهم، وبفضل الغنائم التي كانت تجنيها من غزوات البحر.

وتمكن حينها من طرد الإسبان نهائيا من قلعة البينيون التي كانوا يحتلونها قبالة مدينة الجزائر، وذلك سنة 1530م.

وفي 1538م استولى بأمر من السلطان سليمان القانوني على 20 جزيرة من الجزر الواقعة على بحر إيجة، وإلحاقها بالدولة العثمانية.

أوربا ترتعد وتنهزم

بعد هذه الانتصارات دب الرعب الشديد في الممالك الأوربية ، وأقلقت مضاجعهم الغارات التي يشنها خير الدين على سواحلها وجزرها وسفنها.

فعقد شرلكان هدنة مع ملك فرنسا فرنسوا الأول، وتنادت الممالك الأوربية لعقد تحالف صليبي كبير اشتركت فيه أسبانيا والبابا، والبندقية، والبرتغال، فأعدت حملة مكونة من 600 سفينة حربية، وسفينة دعم، وسلمت قيادتها إلى أندوريا دوريا.

فاستعد خير الدين لمواجهة التحالف الصليبي بأسطول مكون من 122 سفينة، ثم اشتبك معه في معركة كبيرة في خليج بروزة، انتهت بهزيمة ثقيلة للتحالف الصليبي، واستيلاء خير الدين على 36 سفينـة، و2175 أسير، فكان من أهم نتائج هذه المعركة سيطرة العثمانيين على البحر المتوسط وتحوله لبحيرة تركية.

كرامات بربروسا

سطر بربروسا في مذكراته بعضا من كرامته والتي منها:

أنه عندما بدأت أحد المعارك كانت الرياح الجنوبية تهب بشدة مخالفة لاتجاه سفنه مما هدده بالخطر، وعند ذلك قام بنثر بضعة أوراق مكتوب عليها رقى من القرآن الكريم، على سطح البحر ثم وقف متضرعا إلى الله في ذلة وانكسار بأن يلطف به ويتولاه بحفظه ورحمته.

فلم يمض وقت يسير حتى استجاب الله تعالى ولم تلبث العاصفة أن هدأت قليلا، ثم تغير اتجاهها..!

أدبيات حياته :

استعرضت"مذكرات خير الدين بارباروسا" ، وتقع في ١١٧ صفحة مزدوجة، بعضا من تاريخ وأدبيات هذا الصنديد بما يشبه كبسولة سريعة غير مفصلة لحياته .

أما كتاب "الجزائر في عهد رياس البحر" لوليم سبنسر، والذي نشرته دار القصبة الجزائر 2006، في حجم صغيريقع في 242 صفحة فقط، يستعرض فيها إيالة الجزائر العثمانية وتاريخها البحري وريايستها وقادتها فقد تناول شيئا يسيرا من حياته.

ومن أفضل المصادر التي تناولت حياة وجهاد آل برباروس: إلياس وإسحاق وعروج وخضر (خير الدين) ذلك الكتاب الضخم "الأتراك العثمانيون في شمال أفريقيا" لسامح التر، وفيه تفصيل لعمليات آل بارباروس وجهادهم البحري ضد ممالك أوروبا وخاصة فرنسا وإسبانيا، وكيف أسسوا إيالة الجزائر العثمانية.

و كتاب "حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وأسبانيا (1492-1792)" لأحمد توفيق المدني وهو كتاب جيد، وفيه وصف للجزائر العثمانية، وتعريج على آل بارباروس، ووصف لعشرات المعارك البحرية والبرية.. في 560 صفحة.

لكن على القارىء أن يتنبه لكتبما بعد الثورة الجزائرية على الاحتلال الفرنسي، والتي ركبها العلمانيون والقوميون، وأثر ذلك واضح في لغة الكاتب، لكن الحكمة ضالة المؤمن.

ومن أجمل الكتب عن هذا الإمام المجاهد العلم أمير البحرية العثمانية، "خير الدين بربروس والجهاد في البحر (1470-1547)" للأستاذ بسام العسلي.. الكتاب طبعة دار النفائس، وموفور على الشبكة العنكبوتية بصيغة pdf .

حاجة الأدب لباربروسا

مثل هذا المتفرد تاريخيا تحتاجه عقول وخيالات الأدباء لتحول أحداث حياته الواقعية لرواية أدبية،من خلالها تقوم ببث معاني الجهاد والقتال في سبيل الله فيها بأسلوب فذ فريد، وتبين صفحات تاريخنا المنسي حينا والمشوه حينا آخر .

فرحمة الله على كل أبطالنا ومجاهدينا قمم الجبال الشوامخ وعبق التاريخ المجيد وقدوة الأمم ومنارات الهدى.