إن ثورة الخامس و العشرين من يناير 2011 م كانت حدثا مفاجئا سواء لنظام 23 يوليو 1952 م أو للقوى المناهضة له سواء منها الإسلامية أم العلمانية، فلم يكن هناك استعداد لحدوثها أو لمواجهة تطوراتها.
بل إن الثورة كمفهوم من مفاهيم علم الإجتماع السياسي لم يكن هناك إدراك أو معرفة لهذا المفهوم و أبعاده، ما هي الثورة؟ ما هي مراحلها؟ ما هي المرحلة الانتقالية؟ و كيف تدار؟ ما هي الثورة المضادة؟ و كيف نواجهها؟
إننا في أزمة معرفة و تأهيل في المقام الأول، بل إن نظام 23 يوليو 1952 م نجح نجاحا باهرا في عزل مناوئيه، و مناهضيه طوال تاريخه عن السلطة و دولاب الحكم و ممارسته بل و تجهيل النخبة السياسية المعارضة عن هيكلة السلطة داخل النظام و في القلب منها و مركز الثقل فيها الجيش
بل إن العلمانيين أصحاب الثقافة و الفكر الأوروبي الحداثي يواجهونك كثيرا بجمل مثل (ما كناش عارفين إن الثورة بتاخد وقت طويل) (ما كناش نعرف إن الثورة بتمر بالمراحل دي) (ما كناش عارفين مسألة الدولة العميقة و قوتها و اللي كان مرسي بيعاني منها) هذه بعض كلمات عن من ثاروا على مرسي و تحالفوا مع العسكر "الثورة المضادة" و وصلوا بذلك إلى تقويض الثورة و هزيمتها، و هم الذين كانوا يتكلمون كثيرا عن الثورة الفرنسية، و قيمها و مراحلها و إنجازاتها!!
و ما وصلنا إليه جميعا في هذه المرحلة هو انتصار الثورة المضادة، و سعيها الدؤوب لتجفيف منابع الثورة و توطيد سلطة العسكر، و الهدف النهائي هو العودة لحالة إستقرار النظام كما كان في عهد مبارك، في أواخر التسعينات و لا يمكن فصل الثورة المضادة و نجاحها عن الراعي الإقليمي لها، و من ورائه الراعي الدولي لها، الذين مهدوا و خططوا و مولوا ولا يزالون، و الذين تتناقض أهدافهم و مصالحهم مع ثورة 25 يناير بكل أطيافها و الرؤى المختلفة لهذه الأطياف و الذين يختلفون الآن من الرعاه الإقليميين للثورة المضادة مع النظام الآن، إنما يختلفون حول تعديلات يطلبونها لإحتواء قوى معينة (الإخوان) و ذلك لضمان استمرار نجاح الثورة المضادة و تحقيق الهدف النهائي ألا و هو استمرار الإستقرار السياسي للنظام،و لا يهولنك ضجيج الدعاية الإخوانية عن صراع السعودية مع النظام أو حتى الصراعات داخل النظام نفسه، فحتى هذه الأخيرة هي صراع بين أجنحة داخل نظام واحد للحفاظ عليه و تحقيق نجاحه و استقراره، فهو إختلاف حول وسائل و أساليب و ليس حول سياسات و غايات أو مناهج أو مصالح أو هيكلة جديدة للسلطة تسمح للمناوئين بمكان داخلها.
و السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل انتهت ثورة 25 يناير أم أن للقصة بقية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تستلزم مستويين من التحليل:-
· مستوى تحليل النظام
· مستوى تحليل الثورة
لفهم نظام 23 يوليو 1952 م لا بد من فهم تاريخي للتأسيس و المراحل، فهو نظام قام في الأصل كحركة عسكرية للإنقلاب على نظام الحكم القائم و هو النظام الملكي و هم يعطون لأنفسهم شرعية للتحرك في أمرين:
· أن تدخل العسكر في السياسة أخذ شرعيته من تدخل عرابي و الجيش ضد الخديو توفيق، و هو ما رفضه رئيس الوزراء شريف باشا و الذي كان واعيا لخطورة خروج العسكر عن وظيفتهم و تدخلهم في السياسة و أرسل لهم خطابات صريحة يطالبهم فيها بالعودة إلى الثكنات ([1])
· أنهم خرجوا للحفاظ على الأمن القومي، و هو نفس المبرر الذي يستخدمه النظام في كل مرحله بل و في كل الأزمات
و في الحقيقة هذا النظام تأسس لإحتواء حالة الثورة التي كان يعيشها شعب مصر في الفترة من 1945 م - 1952 م و التي كانت تخشى الولايات المتحدة من خروجها خارج إطار الهيمنة الغربية و كان لديها نوعين من الحلول: إما إصلاح النظام القائم و هو ما ثبت فشله و إما خروج حاكم مستبد قوي يمسك بزمام الأمور و يوجه هذا الوضع الثائر إلى وضع تحت السيطرة ([2]) ومن خلال تبني السياسات الداخلية و الخارجية التي دعت إليها القوى الكبرى في هذا الحراك ([3]) (الإخوان المسلمون) و خداعها و احتوائها، هذا كله في سياق غياب الإرادة للتحرك الفاعل للتعبير لدى قيادة الإخوان المسلمون آنذاك
و قيادة هذا
النظام ممثلة فيما سموه "مجلس قيادة الثورة" و هي عبارة عن مجموعة
علمانية في إطارها الفكري العام([4]).
و سأعطي شاهدين على ذلك (من شواهد كثيرة):
· قام رشاد مهنا (و هو إسلامي كان وصيا على العرش) بتوجيه ضباط المدفعية إلى إنقلاب لإسقاط النظام (يناير 1953م) لكن الإنقلاب فشل و زج بـ 35 ضابط في سجن الأجانب حيث بدأ التعذيب (فهو سنة قديمة لهذا النظام) و بعد أيام صدر الحكم بإعدام الضابط حسني الدمنهوري (خفف بعد ذلك) و بالمؤبد على رشاد مهنا و كانت تهمة الأخير (السعي لإعادة الخلافة)
· عندما تكلم كمال الدين حسين في مجلس قيادة الثورة عن الشريعة الإسلامية و تطبيقها، استغرب بقية المجلس - و على رأسه عبد الناصر – هذا الحديث جدا ([5]).
و يشكل عام 1954 م عاماً حاسماً في هوية هذا النظام و استقراره بعد صراعات على السلطة سواء بين المجلس و القوى السياسية المختلفة (الأحزاب ثم الإخوان) أو الصراع داخل المجلس نفسه مع محمد نجيب و الذي حسم لصالح عبد الناصر، فحسم النظام قضيتين أساسيتين و هما:
· رفض المرجعية الإسلامية للدولة
· اعتماد الاستبداد كمنهج للحكم
و يمكن على هذا توصيف النظام بكلمات قليلة فهو نظام علماني استبدادي يسيطر عليه النخبة العسكرية،
هذا النظام مر بثلاث مراحل:
· مرحلة صعود مع عبد الناصر حتى 1967
· مرحلة تراجع و انكسار مع الحفاظ على استقرار النظام في 1967 حتى نهاية التسعينات
· مرحلة تدهور و انحدار تمتد من التسعينات حتى 2011 م
و هذا المنحنى الهابط للنظام واضح في حالة الفساد المالي و الإداري (و بدايته منذ عهد عبد الناصر كما يروي البغدادي في مذكراته) و الترهل الذي أصاب الجهاز البيروقراطي للدولة، و تراجع مستوى الكفاءات القادرة على إدارة الدولة داخل النظام ( أو بالأحرى القادرة على حسم صراعات السلطة) فلم ينجحوا أبدا في إدارة الدولة، و التراجع الحاد في قدرة النظام الأمنية و التي وضحت في :
· عدم القدرة على التنبؤ بثورة 25 يناير
· الفشل في التعامل مع الثورة
· التراجع في دور النظام إقليميا و دوليا حتى أصبح الآن تابع لقوى إقليمية و التي هي بدورها تابعة للقوى الغربية بعد أن كان النظام تابعاً للقوى الغربية مباشرة سواء الإتحاد السوفيتي أو الولايات المتحدة .
و من الجدير بالذكر هنا أن هذا النظام كان على الدوام يتكون من أجنحة متصارعة و كان هناك جناحين أثناء فترة عبد الناصر فيما يتعلق بالصلح مع إسرائيل جناح مسيطر على رأسه عبد الناصر يرى الصلح مع إسرائيل و لكن بعد تحقيق مستوى من القوة (فشل في إنجازها حتى مماته) و جناح يرى الذهاب إلى الصلح مباشرةً و هذا الجناح هو الذي انتصر في مايو 1971 م، و أيام مبارك كان هناك أجنحة أيضاً، ففي أواخر أيام مبارك كان هناك الحرس القديم و على رأسه طنطاوي و عمر سليمان، و جناح جمال مبارك و لجنة السياسات، و هذه الأجنحة داخل النظام على اختلاف المراحل لم تختلف على القيم الحاكمة للنظام نفسه أو منهجه في الحكم أو تكوين المؤسسات السلطوية، و لم تصل أبدا في عنفوان صراعاتها إلى تقويض النظام، و إنما كانت تختلف على القيادة و طريقة العمل، كما أنها لم تختلف أبدا على أولوية الجيش في النظام كطبقة حاكمة مسيطرة، و الذي انتصر في الجناحين الأخيرين هو جناح الحرس القديم، لأنهم رفضوا وجود مدني في السلطة حتى و لو حافظ على هيكلة السلطة و أولوية الجيش فيها ([6]) و استغلوا ثورة 25 يناير لتحقيق الحسم في هذه المعركة
هذه الخلفية التاريخية عن نظام 23 يوليو 1952 م ضرورية لفهم هوية النظام و ثوابته و هيكلية السلطة داخله.
و لكن ما هو وضع هذا النظام عقب ثورة 25 يناير؟
هذا النظام فوجيء بثورة 25 يناير و كان ينتفض (تماما كانتفاضة من أصيب بالحمى) و قيادة السلطة كانت قد فقدت لياقتها السياسية، و لذلك أدت سياساته الهوجاء في التعامل مع الثورة إلى إخفاقات، و لكن الجيش كان له رؤية أخرى، حيث كان الجيش يرى في الثورة فرصة للتخلص من سيناريو التوريث، و في نفس الوقت وضعت رؤية لتقسيم الثوار و إضعافهم تدريجيا و إفقادهم الحاضنة الشعبية التي تكونت بعد سقوط مبارك، من خلال عزل الثورة (و في القلب منها الإسلاميين) عن الجماهير و إفشال أي سلطة ستنبثق عن الثورة من خلال أدوات النظام المختلفة، ثم الإنقضاض عليها في النهاية و الإنقلاب عليها ([7])
و هكذا حدث الانقلاب في 3-7-2013 م
و كان النظام في البدأ يناور لكي لا يدخل في تسوية مع الإسلاميين، و في نفس الوقت يعزلهم عن الجماهير، بالمزيد من حملات التشويه الإعلامي و لإعطاء الغطاء السياسي للخطوة الأخيرة و هي مذبحة رابعة، و التي اعتقد النظام أنه بإحداث الصدمة سيقضي على أي مقاومة له تماما، و هو ما ثبت خطؤه بعد ذلك.
و انتقل النظام بعد ذلك إلى رؤية جديدة لهزيمة الإسلاميين من خلال:
· التحييد: بمعنى أن يتم إخراج الإسلاميين تماما من المشهد السياسي و الإجتماعي و الإقتصادي و الديني و إلجائهم أفراداً أو جماعات إلى الإنعزال عن المجتمع من خلال عمليات القتل و السحل و التعذيب و التضييق الإقتصادي حتى يصل الفرد الإسلامي إلى قناعة أنه لا بد أن يكون (في حاله)
· العزل: أي العزل عن الجماهير من خلال الحاضنة الشعبية التي كونها الإنقلاب و التي عمل من خلال عمليات التعبئة الإعلامية على دفعها لمحاصرة الإسلاميين إجتماعيا و إيذائهم بدنيا و نفسيا و ماليا بل و حتى في أعراضهم، و تمت التعبئة باللعب على أوتار الخوف و العاطفة لدى الجماهير مما يؤدي إلى حالة من الهياج المستمر و الأعمال العدوانية و التصرفات اللا إنسانية ضد الإسلاميين، ثم طور هذه الاستيراتيجية لما لم تجدي الخطوات السابقة بإضافة.
· الضربات الاستباقية: من خلال الإختراق الأمني الكثيف لجماعة الإخوان المسلمين و الشباب المرتبط بها، مما أدى إلى نجاحه في إجهاض الحراك في الشارع و في الجامعة.
رغم نجاح النظام في القضاء على الحراك الجماهيري إلا أنه خسر في جبهتين:
· خسر الحاضنة الشعبية التي كونها في سنة حكم الدكتور مرسي و أول سنتين للإنقلاب
· لم يستطع أبدا أن يكسر إرادة الإسلاميين و أخذ إعتراف منهم بالقبول به أو بشرعيته (باستثناء النجاح الذي يدعو للمصالحة داخل الإخوان)
و لكي يتم لنا إدراك كامل للصورة لا بد من تناول المستوى الثاني للإجابة عن سؤالنا، ألا و هو الثورة، و ما هي شروط حدوث الثورة؟
ما هي الثورة([8])؟
الثورة: هي تغيير سريع و عنيف و جذري في الأوضاع القائمة، فهي تغيير جذري لأنها تشمل جميع مناحي الحياة، و هو عنيف لأنه تغيير ضخم و يؤثر على مصالح قطاعات المرتبطين بالنظام القديم، و هو تغيير سريع لأن الثورة بطبيعتها نقل سريع و ليس متدرجا يأخذ وقتا و من هنا يختلف عن مفهوم الإصلاح، و الثورة لكي تحدث لا بد لها من وجود وضع ثوري أو بنية ثورية، حيث تتراكم عوامل مختلفة داخل المجتمع حتى تنقله من حالة الرضا عن النظام إلى حالة الغضب و التوتر وصولا إلى حالة التفجر الثوري،
و يسبق التفجر الثوري داخل المجتمع فترة مليئة بالتوترات و التناقضات و تتعدد سمات و محددات مجتمع ما قبل الثورة ما بين محددات اقتصادية و إجتماعية و ثقافية و سياسية و نفسية و دينية، بل إن للبيئة الخارجية لذلك المجتمع أهميتها القصوى كأحد العوامل المؤثرة في العمل الثوري
و هناك مدرستان تتنازعان في تحديد العوامل الحاسمة وراء العمل الثوري:
المدرسة الأولى تعتمد على في تحليلها على الحالة النفسية أو العقلية للثوار، و تعطي أهمية ثانوية للعوامل الإقتصادية أو الإجتماعية، و ذلك على خلاف ما تراه المدرسة الثانية بضرورة الإهتمام في الأساس بالعوامل الإقتصادية و الإجتماعية فالثورة الناجحة تفسر بالرجوع إلى الظروف الموضوعية للثورة، أما فشلها فيعود إلى عدم إكتمال نمو هذه الظروف، أما المدرسة النفسية فتعتمد في تحليل الفشل على عوامل نفسية بالأساس مثل فقدان الثوار للأمل أو انخفاض توقعاتهم أو بغير معتقداتهم حول شرعية مطالبهم و الجدل بين هذين الاتجاهين ما هو إلا تعبير عن الإختلاف بين التفسير الماركسي للظاهرة الثورية و ما يسمى بالتفسير المذهبي حيث كل منهما يركز على بعد من الظاهرة فيظهر نوع من القصور، فالتفسير الماركسي يعجز عن الإجابة عن لماذا يوجد مجتمعان في ظروف متماثلة و ينتهجان ثقافة سياسية مختلفة؟ و ذلك لإهمال الثقافة و البعد الديني، و كذلك الحال بالنسبة للتغيير الذهني حيث يفسر التغيير الإجتماعي بشكله العام بالرجوع للعامل الثقافي فقط و هو يغفل عامل الزمن المتمثل في السؤال: لماذا قامت الثورات في لحظات بعينها؟ فالثورة الإيرانية مثلا: لماذا لم تقم عام 1989م أو 1969م ؟ و لذا فمن المفيد النظر للظاهرة الثورية و العوامل المؤثرة لحدوثها من خلال بعديها المادي و المعنوي و النفسي و ما يترجح لدى الكاتب أنه لا يمكن الوصول إلى تعميم نظري حول الثورات، فالعامل المشترك الممكن تمييزه في الثورات هو الفعل الثوري ذاته، أما محددات أو أسباب هذه الثورات فهي خاصة و مميزة لكل مجتمع على حدة، و هي السمات السابق إجمالها، و إنه كما أن لكل إنسان خصوصيته، فلكل مجتمع خصوصيته، و هذه الخصوصية تتضح من ترتيب أولوية و أهمية و أوزان العوامل السابق ذكرها لكل مجتمع بخصوصه، فقد تظهر الأزمة الإقتصادية في مجتمع كباعث رئيسي لإنبعاث الثورة، و في حالة أخرى تقوم أزمة في القيم و الثقافة داخل المجتمع كمحرك رئيسي للثورة ([9])
فالأزمة إذا ضرورة لخلق الظرف الثوري و لكن هناك العديد من الأزمات في المجتمعات المختلفة و لكنها في نفس الوقت لم تؤدي بها الأزمات إلى الطريق الثوري إذ ليس هناك علاقة أكيدة بين الأزمات و الثورة، و بالتالي فإن العوامل المختلفة قد تبدو أسبابا مباشرة محدثة للثورة و إن تفاوتت في أهميتها النسبية قد تتواجد دون أن تنتج حتمية ثورية.
فما هو المعيار الحاسم الذي يفرق بين مجتمع ثوري و آخر غير ثوري؟ في هذا السياق نجد أن الجماعة الثورية أي الفئة التي تصلح بعث محاولة التغيير الجذري و السريع في المجتمع أهميتها القصوى في الوصول إلى إجابة لهذا التساؤل فهذا العنصر و الجماعة الثورية يستحيل توقع نجاح أي مفجر ثوري بدونه، و إذا ما أردنا إقتصادياً يمكن تمثيل جانب الطلب في البيئة القادرة على خلق المفجر الثوري أو استبعاده و تسبب ظهوره و ذلك يتضح في أزمات المجتمع و مظالم النظام الحاكم، أما جانب العرض فيمثله جانب الجماعه الثورية في تنظيم هذا التفجر الثوري.
فهما شرطين ضروريين:
· الأسباب الموضوعية للثورة
· الجماعة الثورية التي تفعل معطيات الأسباب الموضوعية للثورة
و لكن يبقى هنا سؤال كثير التداول: إذا كانت العوامل الإقتصادية قد تكون هي المؤثر الرئيسي للثورة في مجتمع ما، فهل الجوعى يثورون؟
الغالبية من علماء الإجتماع السياسي على أن الجوعى لا يثورون، و على الرغم من ذلك فإنهم يقومون بأعمال عنيفة تؤثر على الاستقرار العام للنظام مدفوعين بفقرهم و عوزهم مثل ما حدث في مصر منذ شهر تقريبا حيث استولى بعض أهالي إحدى القرى على المواد التموينية الموجودة في أحد المخازن و ما حدث أيضا في مظاهرات الخبز، فهم لا يقومون بثورة و لكن أفعالهم تنذر و تظهر أن الأسباب الموضوعية للثورة حاضرة، أما الثورة نفسها فيقوم بها الجماعة الثورية التي تقود الجماهير و تنظم الفعل الثوري لها
و هنا نعود إلى النظام و السياسات التي اتخذها بعد الإنقلاب تجاه الثورة، لقد سار النظام في خطين متوازيين لإنهاء الشرطين الضروريين للثورة:
· إنهاء الأسباب الموضوعية للثورة
· قمع الجماعة الثورية و القضاء عليها
كانت الأسباب الموضوعية للثورة في مصر تتركز في أمرين:
· الوضع الإقتصادي المنهار بسبب السياسات الليبرالية التي اتبعها النظام
· مظالم الداخلية و منتسبيها تجاه المواطنين
و كان دعم دول الخليج ماليا للنظام يهدف في الأساس لإصلاح الوضع الإقتصادي و معالجة مشكلتي الفقر و البطالة و لكن الفساد المنتشر في هيكل النظام من القمة حتى القاع أضاع هذه المليارات سواء في سرقات أو مشروعات كبيرة بلا جدوى إقتصادية، كان الهدف منها إعطاء شرعية جديدة للنظام.
أما عن مظالم الداخلية و منتسبيها فقد أطلق النظام أيديهم في البطش و القمع ليس فقط بمناهض النظام إنما أيضاً المواطنين العاديين الذين كان أكثرهم من مؤيديه، و أصبحت حوادث قتل منتسبي الشرطة للمواطنين حدثا متكررا، بل وصل الأمر إلى نهب الأموال و مصادرتها، ليس أموال الإخوان فحسب بل أيضا الاستيلاء على أموال المواطنين العاديين سواء العقارات أو الأموال السائلة عبر الضغط و الإكراه و التهديد.
أما عن الجماعة الثورية و القضاء عليها، فقد عمل النظام على اكتساب شرعية جديدة لنظامه بعد ما سقطت في 25 يناير، من خلال أدواته الإعلامية التي عملت على تكوين حاضنة شعبية للنظام حتى يحقق لنفسه الغطاء السياسي لقمع الفعل الثوري، و نجح النظام في قمع الفعل الثوري، و لكنه فشل في إنهاء الأسباب الموضوعية للثورة بل إن هذه الأسباب زادت حدتها و كثافتها عن فترة ما قبل 25 يناير، و فقد النظام حاضنته الشعبية تبعا لذلك و لكي نفهم لماذا فقد النظام حاضنته الشعبية، لا بد من فهم التغييرات العميقة التي حدثت للمسلمين في مصر طوال الحقبة العلمانية، فقد مرت هذه الجماهير المسلمة بمراحل متعددة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه:
· تم أولا تحويل الهوية الإسلامية للجماهير المسلمة إلى الهوية الوطنية
· ثم في مرحلة أخرى تم علمنة السلوك و تأسيس فصل الدين عن الحياة عند الجماهير
· و في مرحلة السادات و ما بعدها تم تسميم القيم تماما لدى جماهير المسلمين، حيث أسس النظام فيهم قيم النفعية و المادية و الشهوانية و الفردانية و غيرها من أمراض الحداثة
و الذي يهمنا هنا هو النفعية التي أصبح عليها المسلم العادي و قياسه الأمور لا بميزان الصواب و الخطأ في الشرع بل بمنطق المصلحة و النفع و المادة، و عمل النظام في فترة الرئيس مرسي أثناء إسقاط شرعيته على تأسيس مفهوم جديد هو "شرعية الإنجاز" و هو مفهوم مناسب تماما للأخلاق النفعية، فكان ما أسسه النظام من إفساد للقيم عند الجماهير المسلمه هو السبب الرئيس لفقد حاضنته الشعبية، حيث إن الجماهير لما لم تجد ما حدثها عنه النظام من أحلام وردية من خلال الإعلام المجرم، و رأت الجماهير بعينها فشل النظام اقتصاديا، فقاسوا الأمور بمقياس النفعية و المصلحة و شرعية الإنجاز فتراجعوا عن تأييد النظام في غالبيته العظمى و هكذا سقطت الحاضنة الشعبية للنظام.
و في الحقيقة فإن هناك خلل عميق في فهم و قدرة النظام على ممارسة السلطة، فقد كان النظام منذ سنوات قليلة مضت يحافظ على شعبية جارفة من الجماهير برغم آدائه السياسي و الإقتصادي و العسكري المتهافت على مر تاريخه كله، ماذا حدث؟
لقد طرح جرامشي تصورا للدولة و ممارسة السلطة فيها قد يساعدنا على فهم هذه الأنظمة الاستبدادية.
يرى جرامشي أن السلطة تمارس من خلال طبقة قائدة موجهة تعمل في إطارين: الهيمنة و السيطرة؛
الهيمنة على الجماهير من خلال الأجهزة الأيديولوجية التي تشبع عقول الجماهير بأفكار و أيديولوجية النظام و بالتالي فالجماهير تندمج في النظام من خلال ما يسميه جرامشي "الطبقة التاريخية" و السيطرة على الطبقات المعادية و المعارضة للنظام من خلال أدوات القمع، فالهيمنة تحقق التوافق التام بين النظام و الجماهير بحيث تكون طاعة الجماهير للسلطة طوعية و لو أن السلطة استخدمت القمع مع الجماهير و لم تصبح مندمجة معها سوف تصبح الطاعة جبرية و ليست طوعية من الداخل، و هنا يكون النظام في خطر عظيم و سلطته في طريقها إلى السقوط.
و لقد كان النظام في مصر ناجحا إلى حد كبير في الهيمنة و السيطرة و خاصة خلال عهدي عبد الناصر و السادات ([10]) ، و إلى حد ما في عهد مبارك حتى 2007م، و لكن عندما ننظر إلى النظام فيما بعد ثورة 25 يناير نجده قد نجح في إثارة الجماهير ضد الثورة مستغلا نفور المصريين من الفوضى، و نجح في إيجاد حاضنة شعبية له و لكن بالنسبة لنظام يريد ممارسة السلطة و الاستمرار فيها لا تكفي الحاضنة الشعبية إنما لا بد من "الطبقة التاريخية"، و لا بد من آلايات و أدوات الهيمنة و الأجهزة الأيديولوجية و اندماج الجماهير مع النظام في بوتقة واحدة و هو ما فشل فيه النظام فشلا ذريعا، بل لم يدركه في الأساس، و هذا من بدهيات ممارسة السلطة عند هذه الأنظمة كما أوضحت أطروحة جرامشي.
أما عن السيطرة على الطبقات المعادية للنظام و هي قوى ثورة 25 يناير و في القلب منها الإسلاميين (و خاصة شبابهم) فلم يدرك النظام أن الثورة كحدث تاريخي له تأثيرات على شخصية المجتمعات و تعمل عملها في تغيير بنية الشخصية المجتمعية، و إن الشباب – تحديدا من عاشو 25 يناير و هم في السادسة عشر فما فوقها إلى نهاية العشرينات و رأوا الحرية و واجهوا النظام على الأرض و لو بأدوات بسيطة – ذووا نفسيات مختلفة لا يمس قلوبها شوب الخوف الذي صنعه و رسخه في الأجيال السابقة و بالتالي فمحاولاته لبث الخوف في قلوبهم بالتعذيب ( السجن و القتل) لن تجدي نفعا و لن تكسر إرادتهم و هذا مشاهد، فالإرادة و لله الحمد لم تنكسر.
كما أن الوضع الإقليمي ككل و انتشار روح الثوره فيه من المتغيرات (التي لم يدركها النظام و لا منظروه و لا داعميه الإقليميين أو الدوليين) و الثورة كما قلنا تعمل عملها في المجتمعات، فلم تعد المجتمعات كما كانت، و لم يعد الشباب كما كانوا، بل لم تعد الأنظمة الاستبدادية الموظفة غربيا لقهر الإسلاميين كما هي، بل ضعفت و لن تعود بنفس قوتها قبل الثورات، و إن مقولة "دولة ضعيفة و نظام قوي" التي كانت تطرح لتوصيف هذه الأنظمة قبل الثورات، لم تعد تعبر عن واقع هذه الأنظمة في شيء لأنها أصبحت "دولة ضعيفة و أنظمة ضعيفة" و هنا لا بد أن أتوقف عند قضية "الإرادة".
فإن الهزيمة في أية معركة ليست نهاية العالم
طالما لم تنكسر الإرادة، فالإرادة الحرة ستعمل على العبور من الكبوة و الخروج من
الهزيمة إلى النصر بإذن الله، و ما تفعله هذه الأنظمة المجرمة في تونس أو ليبيا أو
مصر أو اليمن أو سوريا من ثورات مضادة أو معادية للثورة هي مجرد كبوة و محاولة
للإضعاف في مسار الحركة التاريخية التي تمثلها الثورات و التي هي في حقيقتها مرحلة
من النهوض الحضاري للأمة، و هو ما يخشاه الغرب في الحقيقة.
إن النظام في غمرة حماسته في قمع الثورة و محاولة قلعها من الجذور و إقامة نظام
استبدادي (نظام الرجل الواحد) لم يستطع أن يفهم أن الاستبداد كي ينجح له واقع،
فثروات اقتصادية كالغاز أو البترول أو غيرها من الروافع التي تسند الاستبداد و
تجعل له القدرة على الثبات و الاستمرار و يحقق الاستقرار للنظام، فكان النظام يروج
لشخصية "بوتين" و في بعض الأحيان للتجربة الصينية، و قدرة الاستبداد على
تحقيق التنمية، و كما قال السفير الصيني في القاهرة: "إنهم لا يسيرون في طريق
الصين بل في عكس الطريق".
إن عمق الأزمة في نظام 23 يوليو 1952 تتمثل في شيخوخة النظام و بلوغه حد الهرم و الذي لا يجدي معه أي علاجات أو منشطات أو تأهيل، و هذه الشيخوخة مؤشرات فهناك حالة الفساد المستشري في النظام من قمته إلى قاعه و التي أضاعت على النظام نفسه فرصة المساعدات الخليجية و التي لو استغلت استغلالا صحيحا كانت أخرجت النظام من أزمته الاقتصادية و أعطته "شرعية الإنجاز" أمام جماهيره و قضت على آمال الثورة في سقوط هذا النظام، و لكن أنى لهم أن يدركوا هذا، إنهم"صم بكم عمي فهم لا يعقلون" و الحمد لله أولا و آخرا، و لكن المؤشر الأخطر على شيخوخة النظام، هو عدم قدرته على إنتاج كفاءات (رجال دولة) يستطيعون الخروج بالنظام من الوهدة التي سقط فيها و عدم القدرة هذا أوضح ما يكون في قمة السلطة و الآداء المتهافت و الفاشل سياسيا و اقتصاديا و اعلاميا لقائد الانقلاب العسكري، و عدم قدرته على تقديم أي منجز على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو منجز عسكري.
و عدم القدرة على انتاج الكفاءات واضح أيضا على مستوى مؤسسات السلطة سواء منها المدنية كالاقتصاد أوالادارة المحلية أو التموين (على سبيل المثال) أو المؤسسات التي تمارس القمع (وزارة الداخلية) فلا يخدعنك حجم الأجهزة الأمنية أو دعايتها، فإنهم حتى الآن لم يستطيعوا إنهاء "حالة الثورة" في المجتمع أو كسر إرادة الثائرين برغم إنهاء حراك الشارع، فالعبرة كما قلت لك بـ "الإرادة الحية القوية"
إن هذه الشيخوخة تعني السقوط الحتمي عاجلا أو آجلا و الذي ينتظر الدفعه التي ستطرحه أرضا و للأبد كما عبر ابن خلدون عن سقوط الدولة في نهايتها.
و كان النظام
على مر تاريخه يحافظ على أن يكون الجيش في خلفية الصورة و ليس في الواجهة، و إن
كان هو الحاكم الحقيقي و الفعلي و صاحب
الشرعية الوحيد عند الجماهير كما صورت أجهزة السلطة الأيديولوجية في
التعليم و الإعلام و الأزهر و الأوقاف و غيرها، و لكن مع إنقلاب 3-7-2013 م انتقل
النظام إلى مرحلة جديدة حيث أصبح الجيش في الواجهة سياسيا و إقتصاديا بل و في
إدارة الدولة و في مواجهة الأزمات كالسيول أو أزمة السكر أو غيرها من الأزمات التي
لم يستطع النظام حلها (و هي أيضا من مؤشرات شيخوخة النظام) فأصبحت هيكلية السلطة و
ان الحاكم الفعلي هو الجيش أمرا مكشوفا لدى جماهير الناس و البسطاء منهم و أصبح ما
كانت الثورة تجاهد لإيصاله للجماهير عن حقيقة النظام حاضرا أمام أعين الجماهير و
هذا الأمر له خطورته لأنه يجعل شرعية الجيش التي هي سند شرعية النظام في الأساس
على المحك و بتوالي الإخفاقات سياسيا و اقتصاديا و أمنيا ستصبح هذه الشرعية في مهب
الريح و في طريقها للسقوط الحتمي.
كان الانقلاب على الثورة في 3/7 هو النصر الذي هو في الحقيقة هزيمة فكان خطيئة استراتيجية،
و كل هذا كان في تدبير الله للمسلمين المستضعفين الذين ليس لهم إلا الله، (و الله
غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون)
[1] - لست هنا بصدد تقييم ثورة عرابي، و لكن أتكلم عن تدخل العسكر في السياسة و أصوله التاريخية
[2] - راجع ما كتبه المستشار طارق البشري في الحركة السياسية المصرية 1945 م – 1952 م
[3] - راجع ما كتبه بكر مصباح (تطور النظام السياسي في مصر 1952 م – 1976 م) دكتوراة في السياسة من جامعة القاهرة 1979 م صـ 224
[4] - لا أقصد هنا كونهم مفكرين
[5] - كما ذكر ذلك البغدادي في مذكراته
[6] - هذه من ثوابت النظام التي لا يساوم و لا يقبل فيها نقاش و لا تراجع
[7] - لن أتطرق هنا إلى تفاصيل ما حدث و الأخطاء الاستيراتيجية التي حصلت، لأن ما يهمني في الحقيقة ما حدث بعد الانقلاب العسكري في 3-7-2013م
[8] - لست هنا بصدد شرح علمي تفصيلي للثورة و شروط حدوثها فطبيعة المقالات تأبى ذلك، إنما حسبنا هنا الإيجاز ما استطعنا
[9] - و عليه فلا يصح أن يطلب الرجل السياسي من المجتمع أن يثور من أجل قيم و أفكار يتبناها و يراها سبب رئيس للثورة و لكن يجب عليه إدراك العامل المؤثر صاحب الوزن في تحريك الثورة في مجتمعه و التحرك ليثور المجتمع بناءا عليها و ليس العكس، هذه طبائع الحياة و سنن الكون فلا تضاد فيها
[10] - تراجع دراسة " السلطة و تشكيل الرأي العام، مصر نموذجا 1952-1981" للكاتب
(الرابط على الشبكة العنكبوتية : https://archive.org/details/Al-Sulta-Wa-Tashkeel-Alra2y-Al3am )
Comments