منهجية التفقه !!
----------
تعرضت السلفية الوهابية السعودية لهزات عنيفة بعد ثورات الربيع العربي، زلزلت أركانها بل وأسقطت رأسها على عقبها، وألقت قمتها في بئرها !!
ومن أظهر العوار الذي بان في بنائها بعد ذاك الزلزال، طريقة التفقه الشرعي فيها، باعتماد ما أسموه "النظر في الدليل" مباشرة بمعزل عن المذاهب الفقهية المعتبرة، والمتلقاة بالقبول في الأمة كلها علي مدى اثنَيْ عشر قرناً من الزمان !!
فأصبحت ترى طلبة علم من أمثالنا، إن صح علينا هذا الوصف أصلاً، وإﻻ فهو ثوبٌ فضفاض جداً، على أجسامِ نحيلةٍ جداً وضئيلةٍ جداً، فبدﻻً من أن يكون حالنا حال المتعلمين على سبيل النجاة، ونقنع بذلك عمرنا إذ هو أكبر من قدراتنا وإمكاناتنا، إذا بنا في هذه الحالة القزمية نرى أكثرَنا يريد أن يخرق الأرض أويبلغ الجبال طولاً، ويضع نفسه موضع أئمة المذاهب بل أعلى، فيصحِّح وينقِّح ويفتي ويخطِّيء ويرجِّح على أمثال أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بجرَّة قلم !!
وأكثرهم ﻻ يمكنه أن يكتب سطراً أو يقرأه بلغةٍ صحيحة، وﻻ يدري شيئاً عن علوم اللغة من النحو والصرف والبديع والبيان والمعاني ونحوها، والتي هي أوعية المعاني الشرعية فلا تُفهم الشرائع أبداً بدون التضلع منها !!
هذا فضلاً عن الخواء من معرفة الأدلة الشرعية كتاباً وسنة إﻻ النزر اليسير، فأحسنهم حاﻻً من يحفظ الأربعين النووية إن حفظها ويحفظ شيئاً من القرآن إن حفظه، فضلاً عن الخواء من علوم الآلة كأصول الفقه، ومعرفة أصول النظر والإستنباط عند الأئمة، والخواء من معرفة أصول الحديث، والناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، والخواء من معرفة أقوال الأئمة واستنبطاتهم، إﻻ شذرات من ذلك يظنها المغرور مؤهلات كافيات لإمامته، وما أُتيَ إلا من قِبَل التكبر والتعالي والتشبع بما لم يعطه !!
فلابد إذاً من العودة إلى الحق وأن نعرف حقيقة حجمنا في مقابل حجم الأئمة، كمعرفة الثرى من الثريا، والبعر من البعير، والذرة من الجبل، وﻻ يكن أحدُنا كالضفدع يغرُّه نقيقه الذي يبدد السكون وينسى أن الطينَ طعامُه والعكارَ شرابُه !!
هذا وقد دأبت السلفية الوهابية السعودية منذ نشأتها قبل نحو ثلاثة قرون، على قطع ساق شجرة المذاهب الفقهية الموروثة والمتبوعة لأكثر من عشرة قرون ليتسنى لها إقامة هيكلها المزعوم على أطلال مَقْدِس المذاهب الأربعة، وقد كان لها الكثير من ذلك بقدر الله، واليوم تنبعث أغصان شجرة المذهبية الفقهية الموروثة وفروعها من جديد هنا وهناك، لتعود ساقها أوفر ما كانت بإذن الله تعالى !!
فكان أن عمت الفوضى العلمية التي ملأت الآفاق، حتى تسنم ذروة المناصب العلمية من لا أهلية له، وحتى أصبح يقال للحصرم زبيباً ويشار إليه بالبنان، وخُلِعت على المتحصرمين - قبل أن يتزببوا - ألقاب أئمة الدين العظام كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كالإمام والفقيه والمحدث والعلامة ونحوها، رغم أن الفارق بينهما أبعد مما بين السماء والأرض، ثم طبقت شهرة الحصرم المتزبب هذا العالم بأسره بفعل الإعلام ووسائل الإتصال الحديثة، وما أحدهم - بعد إحسان الظن - إلا واعظ أو خطيب على أحسن الأحوال !!
فليس لدينا اليوم العلماء المتوافرون بكل فنٍ من العلوم الشرعية الخادمة والمخدومة، ومن ثم ليس لدينا المنظومات العلمية التي يشهد فيها السابق لللاحق بالعلم والإجتهاد، ولا يوجد في واقعنا المُعاش تلك الآلية التي تنتج العلماء والمجتهدين وتشهد لهم بذلك !!
فلا يثبت لأحدٍ اليوم - مهما كانت علومه جدلاً - درجة الإجتهاد بشرائطه وأدواته المعلومة اصطلاحاً عبر القرون المتطاولة، وذلك لانعدام المؤسسات التي تؤهلهم لذلك في الواقع المعاش من جهة، وكذا لانعدام الآلية التي تشهد لهم بذلك التأهل بفرض حصوله لهم من جهة أخرى !!
فلا يوجد في الواقع الإسلامي اليوم من أقصاه إلى أقصاه مؤسسة معنية بتخريج المجتهدين، ولا يوجد من يشهد لهم بنيل درجة الإجتهاد العلمية حسب الإصطلاح بفرض حصوله لأحدهم بطريقةٍ أو بأخرى، فليس بطبيب إلا من درس الطب في أحد كلياته المعتمدة، ولو درس الطب لكن لم يحصل على الشهادة - لسبب أو لآخر - فلن يكون في الواقع طبيباً، ولن يوثق بممارسته للطب وإن كان في نفسه مجيداً له كزميله الذي حصل على الشهادة سواءً بسواء، فضلاً عما يناله من عقوبات جنائية على ممارسته للمهنة بدون أهلية ولا ترخيص !!
ولست هنا أنفي أن يوجد في الواقع من يقترب من شرائط الاجتهاد وأدواته أو يحصل عليها، من أفذاذٍ يُعدُّون على الأصابع إن وُجدوا، ولكنهم مع ذلك لا يكونون مجتهدين لافتقارهم إلى الهيئة التي تشهد لهم بكونهم مجتهدين، وترخص لهم في الإفتاء ومزاولة الإجتهاد، والتي هي منعدمة في الواقع المعاش كما أسلفنا، إذ لو وجد الأستاذ الدكتور المتأهل بالدراسة لدقائق التخصصات الطبية، دون شهادة التأهل ودون الترخيص بالمزاولة، فإن وجوده كعدمه، لأنه لا يُعلم ماعنده من دقيق التخصص فيُستفاد منه، ولو عُلم تخصصه فلا يمكنه مزاولة المهنة لفقدانه الترخيص بالمزاولة فلا يستفاد منه كذلك !!
فلا يمكننا إلا أن نسمي الأشياء بأسمائها على حقيقة مسمياتها، وإلا فسمه ماشئت : إماماً أو علامة أو محدثاً أو مجتهداً، فلن يتحقق بشئٍ من ذلك بمجرد تسميتك أو حسن ظنك أو توهمك، حتى يحقق شرائط هذه المصطلحات، ويحصل أدواتها، ويتحقق بأهليتها هذا من جهة، وحتى يُشهد له بذلك عبر آلية معتبرة من أهل الفن المتحققون به بنفس النسق من جهة أخرى !!
فأصبحت طريقة التفقه عند السلفية المعاصرة طريقة مخترعة، تُسمى بـ"فقه السنة" أو "فقه الدليل" - بزعم أربابها - الذين يتسنمون رتب الفقهاء والمجتهدين بغير أهلية تذكر، ويبتدعون ما يسمى بـ"فقه الراجح" من كل من هب ودب، مجانبين بفعلهم هذا لطريقة الصحابة والسلف في التفقه المذهبي، على فقهاء الملة وعلماء الشريعة، بدءاً من عمر وعلي وزيد وبن مسعود وبن عمر وبن عباس رضي الله عن الجميع، ومروراً بعصر الفقه الذهبي في زمان الأئمة الأربعة المتبوعة رحمهم الله تعالى، عبر ألف ومائتي سنة تقريبا، وانتهاءً بصيحات شابة الآن تنطلق من هنا وهناك، تتنادى بالعودة للفقه على المذاهب الأربعة المتبوعة، والمجمع على إمامة أئمتها رضي الله عنهم، ونبذ الفوضى المعاصرة التي أحدثتها السلفية الوهابية السعودية، واستبدلتها بفقه الأئمة المتلقى بالقبول من عموم الأمة، والسائد فيها لأكثر من اثني عشر قرناً بلا نكير !!
فجاءت هذه السلفية المدعاة فنبذته وحاربته بزعم الأخذ بفقه الدليل، مفتريةً على الحق ضمناً، وكأن فقه المذاهب صدر بغير دليل، مما يعني نسبة الأئمة الكرام إلى الضلال والزندقة إذ أطلقوا أحكاماً ﻻ تستند إلى الدليل من الكتاب والسنة بزعمهم، أو نسبتهم رضوان الله عليهم إلى الجهل وقلة الفهم - حاشا الأئمة العظام وحاشا مجتهدي مذاهبهم من هذه الفرية - حتى جاء هؤﻻء الأدعياء ليتحفونا بفقه السنة والدليل بزعمهم !!
فكانت هذه الطريقة المخترعة في التفقه، هي من أهم أسباب نكبتنا الحالية وتسلط عدونا علينا، ومن ثم فهي طريقة عقيمة وفوضوية، ولن تثمر إﻻ حُصْرُماً يملأ الجنبات كما هو الحال منذ مائة سنة ونيِّف، وما أظن هذا التفقه بهذه الطريقة يتعدى الحالة الحصرمية، فضلاً عن أن يتزبب (أي يصيرُ زبيباً) يمكث في الأرض وينفع الناس !!
وﻻ أظن أن يكون الخروج من هذه المحنة إﻻ بالرجوع للطريقة العتيقة، والسبيل المسلوكة عبر القرون، في التفقه علي المذاهب الأربعة المشهورة، الوارثة لفقه الصحابة رضوان الله عليهم، عبر القرون الثلاثة المفضلة، والناشرة لهذا الفقه وطريقته كذلك في أرجاء المعمورة، عبر ما يزيد عن ألف ومائتيْ عام تقريبا، بلا تشتت وﻻ فوضى، وبلا تصدُّرٍ للحوادث والواقعات بغير أهلية وﻻ استحقاق !!
وإن النصوص الآمرة بالتمسك بالكتاب والسنة كسبيل للهدى والنجاة، مثل الوصايا الحاثة على التداوي لتحصيل الشفاء والسلامة، في كونك لاتحصل على النتيجة المتوخاه منهما بنفسك دون الرجوع للمتخصص في كليهما، فكما أنك إذا كنت مريضاً - عافانا الله وإياك والمسلمين - لا تذهب مباشرةً إلى صيدلية الدواء، فتتخير من رفوفها ما تظنه يشفيك بإذن الله، فإن هذا ربما كان أقرب إلى الهلكة منه إلى النجاة، وإنما تذهب إلى الأخصائي الذي يشخص المرض أولاً، ثم يصف الدواء، ثم هو - أي الدواء - قد يُصيبُ الشفاءَ وقد يُخطؤُهُ بلا حرج على الطبيب ولا على المريض !!
وكذلك نصوص الكتاب والسنة فيها الهدى والشفاء للدنيا وللآخرة، فمن أرادهما - أي الهدى والشفاء - لكل مسألةٍ تَعِنُّ له في الدين والدنيا والآخرة، فلا يهجم بنفسه مباشرة على نصوص الكتاب والسنة يظن أن يهتدي بهما، فربما كان أقرب إلى الضلال والزيغ منه إلى الهدى والنجاة، لأننا أُخبِرنا أن العالم يَضِلُّ فكيف بالجاهل ؟! كما قال : "وأضلَّه الله على علم" وقال : "يُضِلُّ به كثيراً" وقال : "آتيناه آياتنا فانسلخ منها" !!
وإنما عليك أن تذهب للأخصائي في الكتاب والسنة، أهل الذكر الممتهن للإستنباط منهما والنظر فيهما، فتعرض مسألتك عليه فيُفتيك، فتعمل بما أفتاك به دون منازعة ولا تعالم، كما تفعل مع الطبيب ومع كل صاحب مهنة لا علم لك بها، ثم هو - أي العالم المجتهد - قد يصيب الحق الذي أراده الله من النصوص وقد يخطؤه، وأنت وهو مأجوران دونما حرجٍ في الحالين الصواب والخطأ، لأنكما فعلتما البديهي المتبادر المقدور لكلٍّ منكما شرعاً ومنطقاً !!
وأخصائي الكتاب والسنة هو العالم المجتهد المطلق، كالأئمة الأربعة الأعلام لا سواهم ممن جاء بعد زمانهم، أو العلماء المجتهدين في مذاهبهم، من تلامذتهم، ومقيمي مذاهبهم، والمفرعين على أصولهم، إلى آخر الزمان لا سواهم كذلك، وهذا كلام غالبية أهل العلم إن لم يكن كلُّ من يعتد بكلامه هنا منهم !!
وغالب كلام الأئمة رحمهم الله، مع ظاهر الواقع يشهدان بفراغ زماننا تماماً من هذا الصنف من العلماء المجتهدين، الذين وجودهم من أوجب الواجبات، وتشقُّ الحياة بدونهم أو تستحيل، ويكون غيابُهم فتنةً في الأرض وفساداً كبيرا كما هو الواقع، فللإجتهاد شروط ومؤهلات لم يزعم أحد في زماننا أنه بلغها، ولا يوجد في الواقع هيئة ولا مجمع لتخريِج المجتهدين، ولا للشهادة لهم بالإجتهاد على مذهب أحد الأئمة فضلاً عن الإجتهاد المطلق، هذه الشروط والمؤهلات ليس منها الأحلام ولا الأماني ولا الظنون الحسنة، ولا الشهرة ولا الهالات ولا كثرة الأتباع، ولا إجادة الوعظ والتذكير، ولا بسطة اللسان بالسليقة والجبلة، ولا كثرة المؤلفات يُقمِّشها من هنا وهناك، ربما لم يصغ منها عبارة بغير استعانة بصديق كما يُقال، ولا شهادات جامعية يُكذِّبُها واقع الحال لصاحبها من أول وهلة !!
لا شك في وجود أفاضلٍ كثيرين في زماننا وقبله، ويكون بعده يُعلمون الناس الخير، ويُستفتَوْن فيُفتون من باب الضرورة والحاجة، مع انعدام أهلية الإجتهاد وأهلية النظر في الكتاب والسنة تلقائياً، وهذا لا حرج فيه حال الضرورة التي بطبيعتها تبيح المحظور، كطبيب البادية يُطبِّبُ ويداوي ويُجري الجراحات للضرورة حيث لا يوجد غيره وإلا كانت النتائج أسوأ، فإذا وجد المستشفى والأشعة والتحاليل والمناظير فما يحل له تطبيب ولا مداواة وإلا ودى وضمِن !!
فلا مناص لنا اليوم إن أردنا تحقيق أهدافنا وسلوك السبيل القويمة دون مزيدٍ من إهدار الأوقات والدوران في الحلقة المفرغة، من ضرورة المبادرة بتصنيع المجتهدين، عبر إيجاد المدارس الفقهية التي تخرِّج هؤلاء المجتهدين على أصول المذاهب الأربعة المتبوعة لا سواها، وتُرخِّص لهم بمزاولة الإجتهاد وإصلاح الواقع به، بدلاً من البكاء على اللبن المسكوب !!
تعليقات