السيطرة على الحكم فنٌّ لابد من إتقانه، وهو فنٌ لا يَعرف العواطفَ ولا حُسن النيات، ولا ينتظر التسويف، فالسرعةُ والمبغاتةُ ومبادرةُ الخصوم أيًّا كانوا هو أساس نجاحه.
ففي الظرف السياسي الذي كان فيه صلاحُ الدينِ وزيرًا للعاضدِ لدين الله آخرِ الخلفاءِ الفاطميين، وفي حوزته جيش قليلُ العدد من رجال نور الدين محمود؛ جعل منهم صلاحُ الدين عددًا نوعيًّا متميزًا لا يُستهان به، استصغر بعضُ القادةِ صلاحَ الدين ورفضوا الخدمة تحته ورجع بعضُهم إلى نور الدين كالياروقيّ ِو قطب الدين ينال ، وبقى صلاح الدينِ في قلة من المناصرين المخلصين، وبعضٍ ممن يأكلُ الحسدُ قلوبَهم.
وطمِع رجالُ الدولةِ الفاطميونَ في صلاحِ الدينِ - ثاني وزيرٍ من خارج البلاط الفاطميّ وهو بعدُ فتىً صغيرُ السِّنِّ قليلُ الخبرةِ بالمؤامراتِ السياسيةِ في ظنهم، وبدأوا يعقدون الصِّلات ويُجرون الاتصالات بالخارج و الداخل من أجل الإطاحة به من الوزارة !
المخاطر الحقيقية التي واجهت صلاح الدين:
تعددت المخاطرُ التي أحاطت بصلاح الدين، فالصليبون رابضون على الحدود الشمالية والشمالية الشرقية يهددون الدولة صباحَ مساءَ، وينتظرون اللحظة الحاسمة للهجوم.
وخشيَ نورُ الدينِ محمودُ رحمه الله على صلاحِ الدينِ أنْ تَغُرَّهُ الدنيا، ويُطمِعَهُ مُلْكُ مصرَ فيَنْكُصَ على عقبيه، ولذلك ألحَّ عليه بسرعةِ التغيير وخلعِ الخليفةِ الفاطمىِّ والدعاءِ للخليفةِ العباسىِّ، وكَلَّفَهُ بتكليفاتٍ ضخمةٍ يَختبرُ بها ولاءَه وطاعَته.
بالإضَافة إلى ذلك كانت الولاية المصريَّةُ فى حالةِ تردٍّ وتخلفٍ حضاريٍّ كاملٍ؛ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ ودينيّ ٍوأخلاقيٍّ وسياسيّ ٍوعسكريٍّ... إلخ
، وفى ظل هذا كلِّه تولَّى صلاحُ الدين الوَزارة!!
المؤمرات الانقلابية الداخلية:
بالطبع لم يصفُ الجوُ هكذا بكل سهولة لصلاح الدين،ولم تستقرَّ له البلادُ ويذعنَ له العبادُ دونَ شوشرةٍ أو تنغيصٍ أو مؤامرات،فقد واجه صلاحُ الدين رحمه الله ثلاثَ محاولاتٍ انقلابيةٍ، اثنتان منهم كانتا غاية فى الخطورة، إذِ اكتملت لهما أسباب تمكُّنِهِم من الانقلاب عليه، ولكن عونَ الله له وعنايته به، ثم وعيَهُ وتنبهَهُ وسرعةَ مباغتته خصومَه؛ مكَّنته من فضحِ مخططاتهم، والمكرِ بهم والقضاءِ عليهم قبل أن يصلوا إلى غاياتهم!!
المحاولة الأولى:كانت محاولة مُؤْتَمَنِ الدولة (الخادم جوهر):
وكان بمثابة رئيس الديوانِ الملكيّ، فقد أرسل رسالة سرية إلى ملك الصليبين فى الشام يحرضه على الهجوم على مصرَ لكى يتمكن هو من تدبير الانقلاب على صلاح الدين مستغلًّا انشغاله!
اكتشف الرسالة صلاح الدين بترتيب إلهي إذ لمح أحد الجند رجلاً فقيراً رث الهيئة يلبس حذاء فخماً فشك أنه سارق و ألقى القبض عليه ليعرف سره فإذ به يفاجئ بالرسالة المشؤمة محشوة في نعل الحذاء فأُخذوه إلى صلاح الدين و اعترف له بالأمر فأمر بحبسه و إخفاء الأمر تماما وأخفى عن الرجل خبرها حتى خرج إلى أحد قصوره فأرسل له من قتله،وعيَّن مكانه الخَصِىَّ بهاءَ الدينِ قَرَاقُوْش، فثارت ثورة الخِصْيَانِ والعبيدِ و كانوا زُهَاءَ خمسين ألفًا، فخرج إليهم تُورَان شاه أخو صلاح الدين الأكبر وعضده وسنده وقضى عليهم بعد جُهدٍ جهيد، وحرّق عليهم حيَّهم المنصورية، فخرجوا إلى الجيزة فتبعهم إلى هناك وقضى على شوكتهم تماما.
المحاولة الثانية: ثورةُ الشاعرِ عِمارةَ اليمنيّ:
وكان شاعرًا سُنِّيًّا وَفَدَ إلى الفاطميين ومدحهم فأكرموه وأعلَوْا رتبته فكسبوا ولاءَه، وقد تواصل هذا الرجل مع رجال الفاطميين وأعيان الشيعة الذين عزلهم صلاحُ الدين، ورتبوا بينهم ترتيبًا يستعدون به لما بعد صلاح الدين فسمَّوا خليفةً وسمَّوا وزراءَه.
وكان ضمن ترتيبهم أيضًا الاتصال بالصليبيين،ودعوتُهم للهجوم على مصر لإشغالِ صلاحِ الدينِ فى الشمال، فى حين ينقضون عليه من الخلف ويُطْبِقُونَ عليه طرفي الكَمَّاشَة!
واستغلوا ذَهاب توران شاه على رأس فريقٍ كبيرٍ من الجيش إلى اليمن لإخماد ثورةٍ قامت هناك، وكان من عظيم البلاء في هذه المحاولة أنْ تواصَلَ المتآمرونَ مع بعضِ رجالِ نور الدينِ الذينَ ظَهَرَ تأفُّفُهُمْ من صلاحِ الدين؛ لينضموا إليهم، فاستجاب بعضهم بالفعلِ، وتمنع البعض لكنهم سكتواعلى الخيانة وتمنَّوا لو نجحت!
ولم يكشف ترتيبهم إلا أنهم تواصلوا مع ابن نجا الواعظ ، وكان فقيهًا وواعظًا سُنِّيًّا وَفَدَ إلى مصرَ بتوجيهٍ مِنَ الإمامِ عبدِ القادرِ الجيلانيِّ للوعظِ فى مصرَ وَفْقَ الخطة المعمول بها فى إعداد جيل النصر، فنزلَ مصرَ واتصل بالفاطميين وكان ذا حُضورٍ كبيرٍ وقَبُولٍ عند الناس فقربوه منهم، حتى قربه الخليفة الفاطميُّ نفسُه، فتواصلَ الخونةُ مع ابن نجا على اعتبار أنه من رجال الفاطميين!
لكنَّ الرجلَ كان سُنِّيًّا، وولاؤه لصلاحِ الدين فَوَشَىْ بهم عند صلاح الدين، وأخبره بحقيقة حالهم، فطلب منه أن يستمرَّ معهم على ما هم فيه،ويجاريَهُم ويطلعَهُ على أخبارهم أولًا بأول،إلى أنْ حانَ موعدهم ليكتشفوا أن صلاح الدين على علم بكل شيء،فتم اعتقالهم جميعًا وأعدموا وعلى رأسهم قائدهم الشاعر عمارة اليمنيّ.
المحاولة الثالثة:
ثورة كنز الدولة:
وكان وزيرًا شيعيًّا ترك القاهرةَ مع تولِّي صلاحِ الدينِ الوَزارة،ولجأ الى بلاد النوبة،وحرَّك أهل نوبة السودان، وجهز جيشًا واستعدَّ لمهاجمة القاهرة، فأرسل إليه صلاحُ الدينُ أخاه توران شاه على رأس جيشٍ قضى على حركته فى مهدها.
الدروس السياسية المستفادة من تحركات صلاح الدين:
سطَّرَ صلاحُ الدين الأيوبيُّ دروسًا سياسيةً قيِّمَةً، لو استوعبها القائمون على جماعة الإخوان المسلمين في فترة توليهم السلطة بعد ثورة 25 يناير لتمت لهم السيطرة التامة على مصر ، ومنها:
مثلُ هذه الدروسِ العملية التي سطّرها التاريخ تستحق النظر والتدبر، ولربما دار الزمان بنا وعدنا مثلما كنا، ساعتها لابد أن نكون قد استوعبنا الدرس، فالتاريخ لايعيد نفسه كأحداث ولكن كسنن ربانية ثابتة، لا تحابي أحدًا، فمن جَدّ وَجَد، ومن وَعَى حَكَم.
_________________________________________
مراجع المقال :
تاريخ بن كثير
تاريخ بن الاثير
. كتاب الروضتين فى تاريخ الدولتين
تاريخ صلاح الدين للقاضى بن شداد
كتاب جيل صلاح الدين للدكتور ماجد الكيلانى
تعليقات