قديما قالوا في التاريخ سيرة ومنهاج، مقررين لحقيقة واقعة أدركها الحكماء وقررها النبهاء ودرسها الفقهاء، فسطرت كتب التاريخ ونصب عينها "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ"، إن أمة إقرأ لابد أن تقرأ وتعي وتتدبرالتجارب والعبر السياسية والفكرية في حركة التاريخ القديم والمعاصر.
ولقد مررنا بتجربة فشل و إخفاق فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين لمصر، بصفتها مفوضة عن الحركة الإسلامية ، ولوكنها أكبر كيان منظم وثقت فيه جموع الإسلاميين ومن ورائهم جموع الشعب.
فكان قدرها الكوني والشرعي بتحمل المسؤولية والقيام بها على أكمل وجه، ولكن الحركة عجزت عن ذلك لأنها لم تستفد من حركة التاريخ وتجاربه المشابهة لحالة التحول الفكري والسياسي.
ومن أقرب التجارب التاريخية إلى واقعنا المصرى تجربة صلاح الدين رضى الله عنه فى إسقاط خلافة الفاطميين و إقامة دولته و الدعاء لخليفة بنى العباس على منبر الأزهر، حرره الله .
وذلك لأن التجربة كان واقعها العملي فى مصر مع المصريين أنفسهم ، فتفهمت طبيعتهم و تعاملت معهم بحرفية كبيرة وكتب الله لها النجاح ... وذلك له اعتبار كبير فى ثقل التجربة و أهمية دراستها بعناية وتدبر من قبل المباشرين للعمل السياسي على الأرض .
تجربة صلاح الدين في حكم مصر
ولنستعرض التجربة سريعا ..
منذ لحظة دخول يوسف صلاح الدين مصر مع عمه أسد الدين شيركوه على رأس جيش أرسله نور الدين محمود (رضى الله عنه)؛ بهدف إعادة الوزير شاور الى وزارة العاضد لدين الله أخر خليفة فاطمى و نصرته على ضرغام الذى غصبه المنصب السامى .
بالطبع الشكل الظاهري السياسي هو (مساعدة الدولة الفاطمية)، و النية السياسية المبيتة لدى نور الدين (فتح مصر و إسقاط حكم الدولة الفاطمية) وإستعادة جناح الأمة الثانى(مصر) وتوحيده مع الشام للقضاء على خطر الصليبيين .
أحداث مضطربة
لم يسير الأمر كما أرادوا لعدة حوادث نتجاوز عن سردها، عاد شاور للوزارة وعاد شيريكوه لنور الدين، لكن تواصلات شاور مع الصليبيين لتمكينهم من مصر نظر سيطرته على الحكم؛ أجبرت نور الدين على إعادة إرسال شريكوه مرة ثانية بهدف (فتح مصر )، لأن الامر أصبح لا يحتمل فى ظل وجود شاور الغير مأمون الجانب ، فقد يؤول الأمر بين عشية وضحاها إلى احتلال الصليبيين للقاهرة لو تأخر أكثر من ذلك.
رد الفعل السريعة
بمجرد تنامي الأخبار كانت ردة الفعل السياسي السريعة وعاد أسد الدين شريكوه و بن أخيه صلاح الدين رحمهم الله كالبرق في صورة المنقذ للدولة، وقتل صلاح الدين شاور الخائن، و تولى شيريكوه وزارة العاضد (الفاطمي)، وما لبث أن مرض شريكوه و وافته المنيه و خلى منصب الوزارة.
وأثناء وزارة شريكوه تواصل بن أخيه صلاح الدين مع العاضد (الخليفة الفاطمى) وصار من ندمائه و جلسائه و الذي كان شابا ذكيا -على ما كان عليه من مرض و اعتلال فى الصحة منعه من القيام بأمور الحكم- و استضعفته الحاشية و تسلط عليه الوزراء و حجبوه عن الرعية .
استغلال الفرصة السياسية
لما مات شريكوه استدعى (العاضد ) صلاح الدين و عينه وزيرا له و كان أول وزير يعين بإرادته و أخر وزير بالطبع ، فسرعان ما استغل صلاح الدين الظرف السياسي بالتغيرات الجذرية الفاعلة.
فواجهه صلاح الدين عقب توليه الوزارة مباشرة ثلاثة تحديات
التحدي الأول هو رجال نور الدين محمود و قادة شريكوه الكبار و كانوا ذوي أنياب و بلاء قديم فاستصغروا صلاح الدين و استنكفوا الخدمة تحت رياسته، فعاد منهم البعض الى نور الدين مظهرا تضجره، فعنفهم نور الدين بالطبع على أنفتهم الخدمة تحت سلطة عامله صلاح الدين، و منهم من بقى و الحسد يأكل قلبه.
التحدي الثاني و هو جال النظام القديم من خصيان القصر و كانوا طائفة كبيرة و السودان و الوزراء الفاطميين و رجالهم القدامى.
التحدي الثالث و هو نور الدين الذى يلح عليه فى إسقاط ملك الفاطميين و إعلان خلافة بنو العباس من ناحية و خطر الصليبيين الذى يهدد بقوة و هو يرى مصر تتحول أمام عينه من حكم العبيديين وتتوحد تحت حكم نور الدين محمود عامل خليفة المسلمين العباسى .
الحلول السياسية لصلاح الدين
اتخذ صلاح الدين خطوتين قويتين جريئتين تبعتا بعض فى سرعة و ثبات :
الأولى : حل الجهاز الإدارى للدولة كله بشكل فورى وإحلال رجاله فى كل المفاصل الإدارية للدولة .
تقريبا أخذت منه هذه الخطوة ست شهور، فعزل (قادة الجند كلهم) وولى مكانهم انصاره و عزل (خدم القصر وسيدهم ) وولى مكانهم بهاء الدين قراقوش( الذي تضرب به الأمثال المصرية حتى الأن في شدة الحزم)، و عزل (جميع الوزراء الشيعة) وولى مكانهم السنة و (عزل القضاء الشيعى) و ولى مكانه القضاء الشافعى و المالكى و ما أن انتهى منها حتى بدأ يجهز للخطوة التالية.
الثانية : تغيير هوية الدولة بشكل جذرى و تحويلها من المذهب الشيعى الاسماعيلى العبيدى الباطنى الى مذهب أهل السنة و الجماعة الأشاعرة و تحويل الجامع الأزهر من جامعة لتدريس هذا المذهب إلى منارة لأهل السنة و الجماعة يدرس فيها السادة الشافعية و الحنابلة و المالكية و الحنفية فقه و عقيدة أهل السنة و الجماعة
وبنى مدرستين أيضا إلى جوار الأزهر واحدة للمالكية و الأخرى للشافعية
و وحد المسلمين تحت راية خلافة واحدة و دعا لخليفة بنو العباس.
سنقف عند هذه الخطوات الجريئة والسريعة، التي أربكت خصومة ومكنته من الدولة، لنتعلم درس (المباغتة السياسية)، (واستغلال الفرصة)، (وتولية الكفاءات التي تتناغم مع النظام)، (وادراك الواقع السياسي الدولي)،( والتمكن من مفاصل الدولة سواء جيش وشرطة وهيئة رئاسة أو قضاء ووزراء).
لكن هل سارت الأمور كما يتخيل البعض بسهولة و سلاسة؟ أم واجهت صلاح الدين تحديات جسام كادت تعصف به و بدولته الوليدة ؟
تعليقات