يحمل غالب شعب مصر في صلب تكوينه حب شديد للنبي صلى الله عليه وسلم، ساهم في كثير من عاداته التاريخية المتوارثة (ولو كانت مخالفة لصحيح السنة) كالحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم والاحتفال بالمولد النبوي وطقوسه العبيدية والتحديث عنه بالأمثال، وحتى الأغاني والأهازيج الشعبية والتواشيح الدينية لا تخلو أبدا من ذكره صلى الله عليه وسلم، وأشد الناس علمانية في مصر لا يجرؤ على الطعن في سنته أو رواتها (إلا في وقتنا الحاضر) لما لها من مكانة في قلوب العامة.
وسط هذه الحالة الشعورية السائدة كانت تتوارد على ألسنة العامة والخاصة أحاديث كثيرة في فضل مصر منها الصحيح والمكذوب. واستغلت هذه الأحاديث من نظم الحكم متعاقبة بصورة سياسية بحته وظفت الخطاب الديني السلطوى متجنبة الالتفات لمفاهيم هذه الأحاديث ومعانيها والحكمة منها.
وبالتوازي مع هذا الخطاب سادت حالة فعلية من الاستهزاء الإعلامي بكل مستن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مطاردة وسجن وقتل لكل من دعا لتطبيق شريعته بتهم الانقلاب على النظام العلماني أو زعزعة السلام الاجتماعي للسلطة الحاكمة. وبالرغم من هذا الواقع واصلت الأنظمة توظيف هذا الخطاب(المبهم) وتحريفه لتتحصن بثوب القداسة والكهنوت.
وباستعراض روايات أحاديث النبي في مدح مصر والتحذير من فتن تصيبها فإن غالبها بين ضعيف وموضوع خلا عدة أحاديث صحيحة ذكرها المختصين كالسيوطي والسخاوي والعجلوني والألباني وغيرهم. ولم يتناول باحث(على حد علمي) الحكمة من ذكر مصر فيما صح وروده في السنة والتي تأتي دائما مفسرة وموضحة للقرآن ومثبته ومتممة لحكم عامة أو مخصوصة وردت فيه.
وأول الحكم: الوصية بمصر جاءت مشروطة بالظهور والفتح والتمكن للإسلام وشريعته وعدله كما قال صلى الله عليه وسلم: "اللهَ اللهَ فِي قِبْطِ مِصْرَ، فَإِنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُونَ لَكُمْ عِدَّةً وَأَعْوَانًا فِي سَبِيلِ اللهِ" الصَّحِيحَة: 3113
فجملة الروايات صحيحها وضعيفها جاءت بوصف: ستفتحون مصر، جنود الإسلام المرابطون على ثغوره، كنانة الله، كحكمة لازمة وشرط لمدحهم بالدفاع عن الإسلام وأهله كما حدث في حطين وعين جالوت وغيرها. أما في حال قيادة الجنرال اللمبي الإنجليزي لعشرة آلاف جندي مصري يُسقط بهم فلسطين والقدس في يد الإنجليز1917 م تؤول بعدهم لليهود ثم نقول هؤلاء وأمثالهم جند الله، فقد جاوزنا القنطرة.
الحكمة الثانية: التحذير لأهل مصر من الوقوع في الفتن الدنية و سفاسف الأخلاق والنهي عن الانقسام والاقتتال على لعاع الدنيا فإن فيها مهلكتهم وضياع وخراب بلادهم كما صح عن أبي ذر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لهم ذمة ورحما، فإذا رأيتم رجلين يقتتلان على موضع لبنة فاخرج منها"، فمر بربيعة، وعبد الرحمن ابني شرحبيل بن حسنة يتنازعان في موضع لبنة فخرج منها، والمعنى: فاخرج منها شفقةً عليه لكيلا يتضرَّر من تلك الخصومة التي هي مادَّة الفتن.
وتأمل تحذير العلماء لأهل مصرفي حال الفتن قال الطحاوي: إن أرضَ مصرَ يسمى فيها القيراط؛ لأنَّ أهلَها يستعملونه في السبِّ وإسماع المكروه، فيقولون: أعطيت فلانًا قيراطًا أي: أسمعته المكروه، ويقولون: اذهب وإلا أعطيك القراريط أي: السب والشتم، ينبههم على صفة يحذر منها عند فتحها عن خُلُق أهلها (المطلوب إصلاحها).
قال ابن وهب: فسمعت الليث (يعني ابن سعد) يقول: لا أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ذلك إلا للذي كان من أهل مصر في عثمان بن عفان (ومشاركتهم في قتله)، ذلك راجع إلى أعلام النبوة التي كوشف بها من الغيب في وقوع الفتن بها. وقال الملا على القاري محذرا: يكثر أهلها ذكر القراريط في معاملاتهم لتشددهم فيها وقلة مروءتهم، ومعنى الحديث أن القوم لهم دناءة وخسة، أو في لسانهم بذاء وفحش(وجب تجنبها).
الحكمة الثالثة: الصبر على الإصلاح في حال تمكن الإسلام من حكم مصر: (فإذا فتحتموها) أي: إذا استوليتم على أهلها وتمكنتم منهم (فأحسنوا إلى أهلها) بالصفح والعفو عما تنكرون ولا يحملنكم سوء أفعالهم وأقوالهم على الإساءة، (فإن لها)، أي: لأهلها (ذمة)، أي: حرمة وأمانا من جهة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم (ورحما): بفتح فكسر أي: قرابة من قبل هاجر أم إسماعيل عليه السلام، فإن هاجر ومارية كانتا من القبط (سكان مصر).
الحكمة الرابعة: إرشاد المصلحين لاختيار الهجرة في حال وقوع الفتن وتعذر الإصلاح: مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم ..(فاخرج منها) لأبا ذر، أي: من مصر، والظاهر المطابق لرأيتم أن يقال: فاخرجوا، ولعله صلى الله عليه وسلم خص الأمر به شفقة عليه من وقوعه في الفتنة لو أقام بينهم وعجز عن الاصلاح، قال الطيبي: أو علم أن في طباع سكانها خسة ومماكسة، كما دل عليه صدر الحديث، فإذا اقتضت الحال إلى أن يتخاصموا في هذا المحقر، فينبغي أن يتحرز عن مخالطتهم ويجتنب عن مساكنتهم، وقال القاضي البيضاوي: لعله عليه السلام علم من طريق الوحي والمكاشفة أنه ستحدث هذه الحادثة في مصر...وأمره بالخروج منها حسبما رآه... فإذا أفضت الحال إلى أن يتخاصموا في مثل هذا المحقر، فينبغي أن يتحرز عن مخالطتهم ويجتنب عن مساكنتهم. وهنا إشكالية تعرض لها المعاصرون وهي أن الخطاب قد يكون خاص بسيدنا أبي ذر، وعليه الخطاب الموجه إلى المعين لا يدخل في حكمه غيره، فيجيب البيضاوي: اللهم إلا إذا كان هناك نص أو قياس يدل على تساوي المخاطب وغيره وعدم الفارق بينهما، فحينئذ يدخل في خطاب المعين غيره معه، وهل أحد من أهلها أشد ديانة من أبي ذر حتى يأمن على نفسه حال الفتن المتموجة؟
الحكمة الخامسة: التحذير في التفريط في مقدراتها وانتشار الظلم وضياع الحقوق حتى خرابها: فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام مديها ودينارها ومنعت مصر إردبها ودينارها وعدتم من حيث بدأتم وعدتم من حيث بدأتم وعدتم من حيث بدأتم" رواه مسلم. فقد يكون المنع لأسباب متعددة: كحصار اقتصادي أو فساد سياسي أو لنهب وسرقة يترتب عليه خرابها.
الحكمة السادسة: الحفاظ على النسيج المكون لمصر بعدل الشريعة وعدم العودة للطبقية وظلم ما قبل الإسلام. قال بن حجر: عدتم من حَيْثُ بدأتم أَي رجعتم إِلَى مَا كُنْتُم عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة من ترك إِعْطَاء الْحُقُوق غَالِبا، قال الصنعاني وغيره: «وعدتم من حيث بدأتم» أي: رجعتم إلى الكفر بعد الإسلام، وهو من أعلام النبوة لإخباره بما سيكون .وليس المراد المعنى بتنحية الشريعة والعودة للكفر ذاته فقط، بل العودة لطبقية النظم الجاهلية كما حكم الفراعنة والرومان والاستحواذ على الثروات للحكام وظلم أهلها فتعود لما كانت عليه من ظلام وظلم وخراب نظم الجاهلية.
ما ذكرته هو غيض من فيض من حكم النبي صلى الله عليه وسلم بذكر مصر، وشيء أوضح به ما غمي علينا عبر خطاب ديني مزور وسياسي تراكمي مضلل استخدم فيه عموم الخطاب النبوي لتعمية الشعب المقهور.
تعليقات