إن الناظر في التراث العربي يدرك مدى أصالة ذلك التراث وغزارته وغناه، الأمر الذي يدعو إلى التأمل، كيف تعيش المجتمعات العربية الإسلامية تشكو الفقر الفكري، وتفتقد إلى الأصالة في كل ما يربط حاضرها بماضيها.
وعندما يتعلق الأمر بالفكر السياسي الإسلامي، نجد أن الإمام ابن تيمية يعد واحدًا من أبرز أعمدة هذا الفكر[1]، إذ الاستدلال بآرائه في السياسة، والسلطة، والمبثوثة في مؤلفاته، سواء في علم التوحيد، أم الفقه، أم في فتاواه، منتشرة بكثرة، ومؤثرة في كتب المفكرين الإسلاميين المعاصرين، خاصة داخل الحركات السلفية، والتي اتخذت من آرائه السياسية منهجًا حركيًّا حاكمًا لها.
فبناء على التأثر بالفقه التيمي في المقام الأول، دعت الجماعات السلفية بكل أطيافها إلى جعل الشريعة الإسلامية أساسًا للدولة، ومصدرًا وحيدًا للتشريع فيها، وإعادة بناء الدول الحديثة على أساس من الشريعة والعقيدة الإسلامية خالصة من أي مصدر آخر غيرها، مع عدم الدخول في تفصيلات ذلك، أو محاولة إصلاح نموذج الدولة القومية الحالي، والذي رأته نموذجًا خارجًا عن الشريعة الإسلامية.
الإيمان أو العقيدة الإيمانية في مفهوم شيخ الإسلام ابن تيمية هو أساس بناء النظام السياسي، وأهم أجزائه، إذ تتمحور الدولة حول العقيدة الإسلامية، والتي تقوم أساسًا عامًّا لجميع الأصول والفروع الإسلامية في مختلف نواحي الحياة، وتقوم فيه العبادات بدور الرابط بين العقيدة والعمل، سواء كان هذا العمل دنيويًّا أم أخرويًّا، فلا يقوم الإيمان قيامًا كاملًا إلا بإقامة الفرائض، والشرائع، والحدود، والسنن.
إذ تقوم العقيدة السياسية عند تيمية بتأسيس قاعدة إيمانية صلبة تنتظم داخلها كل أنشطة المجتمع النافعة، والتي بدورها ليست سوى عبادة لله ﷻ «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»[2]، ومنها الفعل السياسي، والذي يستقيه من نصوص الكتاب والسنة، جاعلًا من الفعل السياسي فعلًا تعبديًّا إيمانيًّا.
يؤكد هذه الفكرة د. كوناكاتا في كتابه «النظرية السياسية عند ابن تيمية» أن السياسة الشرعية عند ابن تيمية ليست منفصلة عن العقيدة، إذ إنها تقوم على مبدأ «الحاكمية لله»، وأن العقيدة تلعب دورًا محوريًّا في تشكيل الأمة وتحديد ماهيتها، ولو كان الفقهاء قد تحدثوا عن السياسة بوصفها متمحورة حول محور «الإمامة»، فإن ابن تيمية قد جعلها متمحورة حول محور «الشريعة المنزلة»[3].
وعلى أهمية الدور العقدي الإيماني في الحياة السياسية للمجتمع، يؤكد د. مصطفى وصفي في كتابه «مصنفة النظم الإسلامية»، إذ يقول:
1– إن الإيمان يؤدى إلى وحدة الفكر والتضامن: من خلال وحدة العقيدة المؤدي إلى وحدة الوسائل، والعمل، والمنهج.
2– إيجاد مشروعية تسود الجماعة الوطنية: حيث يصير التوحيد هو معيار العدل والصحة.
3– إيجاد الدافع الذاتي على العمل للصالح العام: فكلما قوي الإيمان لدى الفرد، زاد انبعاثًا للعمل للأغراض التي يحدوها المجتمع الإسلامي، وتقوم عليها المقاصد الشرعية.
4– إيجاد الضمير الفردي العام: فإن الإيمان يوجد لدى كل فرد مقياسًا للحكم على الأمور بالخير، والشر، والعدل، والظلم، وهذا الضمير الذي يبدأ ذاتيًّا في التحول إلى ضمير جماعي بسبب وحدة الفكر، والعمل، والتفاهم التام.
لكن قد يتساءل البعض من أين له هذا التصور السياسي؟ وماذا يهدف من خلاله؟
فأجيبه بأن ابن تيمية كعالم من علماء الشريعة الإسلامية، يكتب في السياسة من خلال فتاوى شرعية، موضحًا ما فهمه من أوامرها ونواهيها، دائرًا حول هدف واحد وهو: «أن تكون كلمة الله هي العليا»[4]؛ بمعنى ظهور الشريعة الإسلامية على ما دونها من الشرائع، وتطبيقها العملي من خلال النظام السياسي القائم، فهو عنده الهدف و«المقصود الذي من أجله خلق الله الخلق»[5]، موضحًا غرض الولاية السياسية، إذ يقول في فتاواه ج28/262 «فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم»[6]، فإصلاح الدنيا غرضه قيام الدين.
ويثبت هذا المعنى بقوله -رحمه الله-: فالمقصود أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الله: اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه، وهكذا قال الله تعالى: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط»، فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه.
من هنا أعطى ابن تيمية الإصلاح العقدي أولى اهتماماته، وفي القلب من ذلك الجانب السياسي منها، فلا مجال عنده لإقامة الدين بحقه إلا بإقامة الدولة على أساس من الشريعة الإسلامية، واضعًا سلطان الدولة وقوتها في خدمة الدين.
وفقًا لابن تيمية «فعلى كُلٍ أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله»[7]، صانعًا حالة من وحدة الهدف، والفكر، والهوية، والتشريع، التي لا مجال عنده للخروج عليها أو تفكيكها، وصانعًا حالة دفاعية ضد ما يهددها موضحًا أنه قد «ثبت بالقرآن والسنة والإجماع أنه يُقَاتَل من خرج عن شريعة الإسلام»[8]، متمسكًا بأن «مَنْ عَدَلَ عن الكتاب قُوِّم بالحديد»، يقول ابن تيمية في فتاواه ج28/264: قال تعالى: «وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب»، فمن عَدَلَ عن الكتاب قُوِّم بالحديد؛ ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف، وقد روي «عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نضرب بهذا -يعني السيف- من عدل عن هذا -يعني المصحف»[9].
وكذلك يفتتح ابن تيمية كتابه السياسة الشرعية بقوله: «محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله؛ وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم، والقلم، للهداية والحجة؛ ومعنى القدرة، والسيف، للنصرة والتعزير»[10]، موضحًا أن الإسلام نزل ليكون له السيادة على كل من خالفه، مستخدمًا السلطان، الذي هو العلم والحجة، ثم السيف لمن عاند الدين وظلم.
يعلل هذه الفكرة عند ابن تيمية قمر الدين خان في كتابه «ابن تيمية وفكره السياسي» إذ يقول: «لقد آمن ابن تيمية أنه إذا علم وثبت بأن الدولة من الضرورات اللازمة للمجتمع الإنساني، فإن أفضل شيء هو قيامها على حكم الله سبحانه ورسوله، لأن الله سبحانه لا يريد إلا الخير لعباده في الدنيا والآخرة.
وقبول هذا عند ابن تيمية أمرٌ لازم، لا خيار فيه لكل فرد، وأن وضع شريعة الله موضع التنفيذ في البلاد وتطبيقها على العباد لا يتم بدون سلطان، ولذلك فإن سائر ما أوجبه الله من الجهاد والعدل و… لا تتم إلا بالقوة والإمارة، وحتى تقوم هذه الإمارة والسلطة لا بد من اجتماع الكتاب (الشريعة) والحديد (القوة) « [11] .
وبناءً على ما سبق من بناء النظام السياسي على قاعدة إيمانية خالصة، فقد جعل ابن تيمية جميع الولايات عنده هي في أصلها مناصب دينية، إذ يقول: «وجميع هذه الولايات هي في الأصل ولاية شرعية ومناصب دينية، فأي من عدل في ولاية من هذه الولايات فساسها بعلم وعدل، وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان، فهو من الأبرار الصالحين، وأي من ظلم وعمل فيها بجهل، فهو من الفجار الظالمين»[12]، بل يرى ابن تيمية أن «ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها»، وأن «الواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقُربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات»[13].
ووفقًا لابن تيمية فإن صلاح الدولة في المتابعة للكتاب والسنة وحمل الناس على ذلك، ويحصر الصلاح الديني للحكام في أربعة أشياء: إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أقام الحاكم أو الوالي الصلاة في مواقيتها جماعة هو وحاشيته، وأمر بذلك جميع الرعية، وعاقب من تهاون في ذلك، فقد تم هذا الأصل، فإذا ناجى بعد ذلك ربه في السحر واستغاث به أعطاه الله من التمكين ما لا يعلمه إلا الله[14]، وأما الهزيمة وقلة التوفيق فسببها الذنوب والخطايا[15]، ولا يجوز أن يطاع الحاكم في معصية الله، بل يشارك فقط فيما يفعله من طاعة الله[16].
وكذلك يؤكد أن صلاح الحكام والمحكومين أو الراعي والرعية بالقيام بالصلاة، والزكاة، والصبر وأجناسهم، فيدخل في الصلاة ذكر الله ﷻ، ودعاؤه، وتلاوة القرآن، والإخلاص له، والتوكل عليه، وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال، ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، وقضاء حاجة المحتاج، وفي الصبر احتمال الأذى، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، ومخالفة الهوى، وترك الظلم[17].
وأيضًا فإن أعظم عون للحاكم يتمثل في ثلاثة حالات إيمانية: الإخلاص، والإحسان، والصبر[18]؛ فتمكين الحاكم وقوته وصلاحه عند ابن تيمية تابع لمتابعته لأمر الله، واللجوء إلى قوة الله العلوية؛ فهو يستمد سلطانه وقوته وتوفيقه من الله، ويستمد تشريعاته وأحكامه من الله، فالله هو الحاكم ابتداء، وهو الغاية والمنتهى والمقصود انتهاء.
كذلك فإن فساد الحاكم والمجتمع في متابعة الرعية للحاكم وحكومته في مخالفة الشريعة الإسلامية، ولا يجوز أن يطاع في معصية الله، بل يشارك فقط فيما يفعله من طاعة الله، ونص على ذلك في مواضع عدة، منها في كتابه منهاج السنة النبوية، إذ يقول – رحمه الله-: «إن الواحد من هؤلاء ونوابهم وغيرهم لا يجوز أن يطاع في معصية الله، بل يشارك فيما يفعله من طاعة الله: فيغزى معه الكفار، ويصلى معه الجمعة والعيدان، ويحج معه، ويعاون في إقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمثال ذلك، فيعاونون على البر والتقوى، ولا يعاونون على الإثم والعدوان»[19].
1– هو «إصلاح دين الخلق، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر الدنيا»[20]، فالدولة مقصودها الأساسي هو إصلاح الدين ثم الدنيا التي تأتي تبعًا للدين، أي «لإقامة الدين والدنيا التي يحتاج إليها الدين»[21].
2– أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وليس معناها إكراه الناس على اعتقاد أو اعتناق الإسلام، إنما ألا يسود قانون فوق الشريعة الإسلامية، ولا يظهر دين فوق دين الإسلام، ويرى ابن تيمية أن الله ﷻ إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمؤمنون[22].
3– التقرب إلى الله وإقامة دينه[23].
وبذلك يبني ابن تيمية الدولة على قاعدة عقدية من الإيمان الخالص، المتبع لأحكام الشريعة الإسلامية، مما يؤدى إلى وحدة الهوية، والهدف، والفكر، والتشريع، وتربية الضمير الجماعي والفردي لدى الراعي والرعية على السواء، فالكل خاضع لقوة الله الخالق، الحاكم، الآمر، والمدبر، والرازق.
[1] حامد ربيع، مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي، ص 197.
[2] سورة الذاريات، آية 56.
[3] حسن كوناكاتا، النظرية السياسية عند ابن تيمية، ص 237.
[4] أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوى، ج 28، ص263..
[5] أحمد بن تيمية، الاستقامة، ج 2، ص284.
[6] أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوى، ج 28، ص262.
[7] المرجع السابق، ج 28، ص219.
[8] أحمد بن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص 90.
[9] أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوى، ج 28، ص264.
[10] أحمد بن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص 5.
[11] قمر الدين خان، ابن تيمية وفكره السياسي، ص57.
[12] أحمد بن تيمية الحراني، مجموع الفتاوى، ج 28، ص68.
[13] المرجع السابق، ج28، ص 391.
[14] المرجع السابق، ج 28، ص242.
[15] المرجع السابق، ج 28، ص431.
[16] أحمد بن تيمية، منهاج السنة النبوية، ج 1، ص547.
[17] أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوى، ج 28، ص362و364
[18] أحمد بن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص 93.
[19] أحمد بن تيمية، منهاج السنة النبوية، ج1، ص547.
[20] المرجع السابق، ص 18.
[21] المرجع السابق، ص 43.
[22] أحمد بن تيمية، مجموع الفتاوى، ج 28، ص61.
تعليقات