القنطرة !!
مثلُ الأئمةِ الأربعةِ ومذاهبِهمُ المؤصلةِ، كمثل القنطرة ضربت على متن الفتنة والجهالة، لتصلَ الآخِرين بالأولين، على درب الهدى والرشاد، على الشريعة الغرَّاء والواضحةِ البيضاء، لا يَزيغُ عنها - بعدما أصلها الأئمةُ، وقعَّدوا قواعدها، وجمعوا متناثرها، ووضعوا ضوابطها - إلا هالك، فمن ترك مذاهبَهم أوشك أن يسقط في الفتنة والزَّيغ !!
فمذاهب الأئمة الأربعة - دونما سواها - جمعت فقه ومذاهب الصحابة والتابعين، واستوعبت فهم الإسلام والسنة سوياً صحيحاً، كما نزل به الوحي غضاً طرياً، وقدمته للأمة فهماً سائغاً هنيئاً مريئاً، جامعاً مانعاً في الأصول والفروع، بما لم يتيسر مثله لأحدٍ من قبل المذاهب ولا من بعدها !!
أما ما قبل المذاهب، فقد كان علم الصحابة والتابعين بعلوم الكتاب والسنة متناثراً في البلدان بانتشار الصحابة فيها يدعون إلى الله ويجاهدون في سبيله، وكذا التابعين، وكان لعلماء الصحابة والتابعين مذاهب في الفتيا والقضاء أخذوها من نبيهم - عليه السلام - ومن اجتهاداتهم، ولكنها لم تكن جامعة ولا مستوعبة لعامة مسائل الشريعة، وإنما كانت عدداً من المسائل تقل أو تكثر بحسب ما أفاد به هذا الصحابي أو ذاك، وبحسب ماتوفرت الدواعي لنقله أو تركه، فكان الأئمة الأربعة هم أولُّ من عُنُوا بجمع هذا العلم عن الصحابة والتابعين في عامة علوم الشريعة بالأسانيد الصحيحة، ودونوه ورتبوه ووضعوا الأصول وقعَّدوا والقواعد لضبطه وفهمه واستنباط الأحكام منه، مهتدين في ذلك بالنبيّ عليه السلام وأصحابه والتابعين عليهم رضوان الله !!
وقد كان ثمَّ مذاهب أخرى معتيرة غير الأربعة، مواكبةٌ لزمان الأئمة وبعده، كمذهب سفيان والليث والطبري وغيرهم غير أنها اندثرت وتلاشت لعدم وجود من يقوم بخدمتها ونشرها كالمذاهب الأربعة، إلا المذهب الظاهري فهو مذهب معتبر وباقٍ، إلا أنه دون الأربعة بكثير من جهة الخدمة والإنتشار والقبول !!
وأما ما بعد الأئمة فلم يبق للأمة إلا المذاهب الأربعة المعظمة والمتبوعة لأكثر من عشرة قرون، تلقاها الناس بالقبول والإتباع - اجتهاداً أو تقليداً - ولم يكن لهم سواها من أقصى بلاد الإسلام إلى أقصاها ليَرِدوا عليها ويَصْدُروا عنها في شتى علوم الشريعة، حتى نبتت نابتة في الجزيرة العربية في منتصف القرن الثاني عشر الهجري تقريباً تزعم الانتساب إلى السلف، وتضع يافطة المذهب الحنبلي على رأسها، وحقيقتها التمذهب بمذهب ملفق من الأربعة ومن غيرها، ومن اختيارات علمية وسلوكية من هنا وهناك حسب حاجة ومصلحة الدعوة الجديدة، وكأننا أمام مذهب جديد أو هو كذلك، بل هذا المذهب يرفض التمذهب أصلاً إلا له، باستعلان مرة وبخبث ودهاءٍ ودعايات خادعة ألف مرة !!
وكان من أعظم دعاياتها دهاءً بحيث تهزم المدعوين نفسياً فيقعوا في شباكها فوراً، هي دعوتها الناس للأخذ من الكتاب والسنة مباشرةً ونبذ أقوال الرجال بزعمها، تعني أول ما تعني بـ"الرجال" الأئمة ومجتهدي المذاهب، حتى ترسَّخ في العقل الباطن لدى الأكثرية من الأمة، بسلاسةٍ ويُسْر ماكر أن فقه الأئمة قد يكون أكثره على خلاف الكتاب والسنة، مع التشدق الماكر بـ"رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، مما يثبت عليهم التهمة بمخالفة الكتاب والسنة، إما لجهلهم بالسنن تارة أو لاتباع أهواء طوائفهم وجماعاتهم تارةً أخرى – زعموا - فكبرت كلمةً لاكتها السلفية الوهابية بالحال والمقال لنحو ثلاثة قرون وحتى يومنا هذا، وغفلت أو تغافلت أن هذا يتضمن نسبة الحكم بغير ما أنزل الله بمحض الجهل أو الهوى للأئمة الكرام حاشاهم من ذلك، بل ونسبة الزندقة إليهم - برأهم الله من إفك الوهابية – وإلا فما الظن بمن أصدر الأحكام في دين الله بمحض الجهل بالسنن ؟! أو بمحض الهوى لنصرة جماعته أو طائفته ؟! أفلا يكون زنديقاً من يفعل هذا ؟!!
وحقيقتها أيضاً الانتساب لمؤسسها الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي لا ينتمي إلى إمام ولا يأخذ إلا عن شيخ الإسلام ابن تيمية فيما يوافق دعوته الجديدة، وابن تيمية هو أحد المجتهدين في المذهب الحنبلي وليس هو إمام المذهب، ولا تُعدُّ جملة من أقواله من معتمد المذهب الحنبلي، ونُقِل عنه الكثيرُ من الإفتاء بخلاف المذهب، بل ونقلت عنه المخالفة للأئمة الأربعة وللإجماع أحياناً، ولعل هذا ما جعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب يعتمد على الكثير من أقواله تلك ويعتضد به دونما سواه !!
والظاهر أن الشبخ محمد ليس بمجتهد في المذهب الحنبلي، كما شهد عليه أخوه الأكبر الشيخ سليمان بن عبد الوهاب في الكتاب المنسوب إليه والمسمى بـ"الصواعق الجلية في الرد على الوهابية" ! فكيف يسوغ لمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد أن يتصدر لقيادة الأمة ؟! والأدهى والأمرُّ أن يكون تصدُّرُه ذاك بمعزل عن أئمتها ومذاهبها وسبيلها القويم ومنهاجها المستقيم في العلم والدعوة، وإن مطالعة يسيرة لكتب توارخ دعوته التي كتبها تلامذته كابن غنام وابن بشر تنبيك عن هذا !!
نتحدث هنا عن فساد منهجية التلقي لعلوم الشريعة، وفساد التصدُّر للنشر والإفتاء والقضاء من غير أهلية ولا استحقاق، وإرغام الناس على اتباع الدعوة الجديدة بكل سبل الدسِّ والمخادعة وتصدير سيوف التكفير والتبديع والتفسيق قبل عرض الدعوة نفسها، بعيدا عن الحديث عن طوام الوهابية وبلاياها، التي سُطِّرت وتناقلها الثقاة - رغم اجتهاد الوهابية في طمسها بكل سبيل - من التكفير بالعموم، والقتل بالظُّنة، والخروج على دولة الخلافة، والسلب والنهب لأموال المعصومين والغارة عليهم، وموالاة الطواغيت وأعداء الملة ونحوها من الجرائم، مما يكفي مطالعة كتاب الشيخ سليمان السابق ذكره لاستظهار ذلك، فليس هنا موضع هذا، ولعله أن يكونَ له موضعاً آخرَ إن شاء الله !!
فإن قيل : أليس أصل مصدر تلقي الإسلام من الكتاب والسنة ؟!
أليس العلماء مصطلحون على أن العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ؟!!
فالجواب أن يقال : بلى إن المصدر هو الكتاب والسنة، والعلم قال الله قال رسوله قال الصحابة نعم، لاخلاف على ذلك إلا مع الشطط والزندقة، لكن هذا للعلماء المجتهدين فقط، فهم الذين لهم الحق أن يقولوا : قال الله قال رسوله قال الصحابة على الوقائع والأحكام، وهم الذين يحق لهم أن ينظروا في آيات الكتاب ونصوص السنة مباشرةً، ويستنبطون منهما الأحكام للوقائع والنوازل التي ترد عليهم، بما لديهم من علوم اللغة العربية المتبحرة، وأصول الفقه، وأصول الحديث ومعرفة الرجال والجرح والتعديل، ومختلف علوم الكتاب والسنة !!
وهم مع ما سبق أحفظ لكتاب الله ولسنة رسوله، حتى اشترط بعض الأئمة لمن يفتي أن يحفظ أربعمائة الف حديث، وفوق ذلك فهم أعلم بعام نصوص الكتاب والسنة وخاصها، ومطلقها ومقيدها، ومنطوقها ومفهومها، وظاهرها ومؤولها، وناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وهم مع ذلك أعلم بأقوال الصحابة صحيحها وسقيمها، وأعلم بفهومهم واجتهاداتهم، وهم مع ذلك أقرب إلى نور النبوة من حيث الزمان، وأكثر قرباً من الصحابة وأشد قرباً من التابعين، وهم داخلون في القرون المفضلة الذين هم خير الناس بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم !!
لذلك فهم جديرون - بلا مرية - بالاستلال بالكتاب والسنة مباشرة، وعندهم كامل الأهلية لإعمال فكرهم في نصوصهما، والاستنباط منهما للوقائع والنوازل الواردة، وإلا فليس ثَمَّ جديرٌبذلك إن لم يكونوا هم الجديرون، فهم وأمثالُهم - إن وُجِد أمثالُهم - هم المحقوقون بأن يقولوا استدلالاً لأحكامهم : قال الله قال رسوله قال الصحابة، أما غير الأئمة مِنْ مجتهدي مذاهبهم، فليس لهم غالباً أن ينظروا في الدليل استقلالاً بخلاف نظر الإمام إلا في حدود ضيقة جداً، وله أن يعمل بفهمه المستقل للنص في خاصة نفسه فقط، لكن لا يفتي الناس إلا بالمذهب وقول الإمام !!
أما المقلد الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد - سواءً كان عاميَّاً أو طالب علمٍ أو مجتهد يُقلِّد - كما هو الحال في كل المنتسبين للعلم والدعوة في قرننا هذا، بل وفي قرون عديدة سبقته، فليس له البتة أن يستقل بفهم النص أو النظر فيه مباشرةً، إلا من خلال استدلال الإمام أو استدلال معتَمَدات المذهب أو استدلال مجتهدي المذهب، فهؤلاء المقلِّدون جميعاً ليس لديهم الأهلية أن يقولوا استقلالاً قال الله قال رسوله قال الصحابة، ولا ينبغي لهم ولا يستطيعون، وإنما لا يسعهم إلا أن يقولوا : قال أبو حنيفة قال مالك قال الشافعي قال احمد قال مجتهدو مذاهبِهم، وبالجملة قال العلماء المجتهدون، ومن ضمن أقوال المجتهدين أدلتهم التفصيلية من الكتاب والسنة على الحكام العملية، فالمقلد يذكر الأدلة حكاية عن قول إمامه فيها واستدلاله بها لا أن يستقل هو بالقول والنظر !!
أما قول القائل : أنا منهجي الكتاب والسنة ولا آخذ إلا من الكتاب والسنة، فإن قصد اتباع الكتاب والسنة باتباع إمامه الذي يلتزم الكتاب والسنة ولا يخرج عنهما، وإلا كان حاكماً بغير ما أنزل الله وتزندق - حاشا الأئمة الكرام - فهذا لا إشكال فيه، بل هو الواقع والحق والحقيقة، وأما إن قصد أن يتبع الكتاب والسنة بنفسه استقلالاً، أو بجماعته وطائفته التي ليس فيها مجتهد، بمعزل عن فهم الأئمة والعلماء المجتهدين، فهذا كمن تصدى لقيادة "السوبر جيت" ولا علم لديه بالقيادة مثقال ذرَّة، وبين يديه من حاز "رخصة قيادة أولى" بمنتهى الجدارة مع مرتبة الشرف القصوى، فنحَّاه عن القيادة وتصدَّى هو لها بغير ما أدنى أهلية، فهذا قطعاً يَهْلِكُ ويُهْلِك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " .... رؤوساً جُهَّالاً فأفتُوا بغير علمٍ فضَلُّوا وأضلُّوا" !!
وبعد : فهذا استطراد يسير لجملة من نقول أهل العلم كالبيِّنة على ماذكرتُ آنفاً فيها تبيين الحجة وإظهار المحجة، وكل امريءٍ حسيب نفسه وقد احسن من انتهى إلى ما سمع !!
قال الجويني (419هـ - 478هـ) – في كتابه (البرهان: 2 / 744) :
[أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا ونظروا وبوبوا الأبواب، وذكروا أوضاع المسائل، وتعرضوا للكلام على مذاهب الأولين ، والسبب فيه أن الذين درجوا وإن كانوا قدوة في الدين، وأسوة للمسلمين، فإنهم لم يفتنوا بتهذيب مسالك الاجتهاد، وإيضاح طرق النظر والجدال، وضبط المقال، ومن خلفهم من أئمة الفقه كفوا من بعدهم النظر في مذاهب الصحابة، فكان العامي مأمورا باتباع مذاهب السابرين] أ.هـ
قال النووي (متوفَى 676هـ) في (مقدمة المجموع شرح المهذب:193):
[وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة وغيرهم من الأولين، وإن كانوا أعلم وأعلى درجة ممّن بعدهم، لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه، فليس لأحد منهم مذهب محرر مقرر، وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناحلين لمذاهب الصحابة والتابعين، القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها، النّاهضين بإيضاح أصولها وفروعها، كمالك وأبي حنيفة وغيرهما] أ.هـ
قال ابن خلدون (808هـ) في مقدمته :
[ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودرس المقلدون لمن سواهم، وسد الناس باب الخلاف وطرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم، ولما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه، فصرحوا بالعجز والإعواز وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء كل من اختص به من المقلدين، وحظروا أن يتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب، ولم يبق إلا نقل مذاهبهم وعمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم، بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية، لا محصول اليوم للفقه غير هذا، ومدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود على عقبه مهجور تقليده وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الائمة الأربعة] أ.هـ
وقال الشيخ أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي (909 هـ - 973 هـ) في كتابه (كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع) :
[عدم جواز تقليد الخارجين عن المذاهب الأربعه :
لأنَّ كثيرين من المجتهِدين الخارجين عن الأئمَّة الأربعة لا يجوزُ تقليدهم " كما هو مُقرَّر فِي كتب الفقه والأصول، ألا ترى إلى ما جاء عن عطاء فِي إباحة (إعارة) الجواري للوطء، وعن آخَرين فِي تحليل المطلقة ثلاثًا، وَعَن الأعمش فِي الأكْل فِي رمضان بعد الفجر وقبل طُلوع الشمس، ونحو ذلك من مذاهب المجتهِدين الشاذَّة التي كاد الإجماع أنْ ينعقد على خِلافها، فهذه كلُّها لا يجوز تقليد أربابها، ومَن قلَّدهم فهو آثِمٌ فاسق يحدُّ ويُعزَّر إجماعًا بموجب فعله، وليس مجرَّد الاختِلاف مُسوِّغًا للهُجوم على الفعل ، بل لا بُدَّ من جميع شُروط التقليد كما هو مقرَّر ومحرَّر فِي كتب الأصول، ولكنَّ الجهل بذلك يُوجِب الوُقوع فِي أوعَرِ المسالك، وقد ذكَر الأئمَّة أنَّه لا يجوزُ لمفتٍ ولا لقاضٍ تقليدُ غير الأئمَّة الأربعة، قالوا: لا لنقصهم؛ لأنَّ الصحابة وتابِعِيهم ساداتُ الأمَّة، وإنما هو لارتفاع الثقة بشُروط مَذاهبهم وتحقيقاتها وصُورها، فإنها أقوالٌ فِي جُزئيَّات مُتعدِّدة، ولم يعلمْ لهم قواعدُ يُرجَع إليها، ولا شروطٌ وتقييداتٌ يُعوَّل عليها، وارتفعت الثِّقة بها لأنَّها لم تُحرَّر وتُدوَّن، بخلاف المذاهب الأربعة فإنها حُرِّرتْ ودُوِّنت وتعاقَبتها الآراء، ومَحَّصَتْها كَوامِلُ العقول حتى نقَّحتها وحرَّرتها، ولم يُنقلْ منها مسألة إلا وعلم مَغزاها ودَليلها ومَعناها، فوثقت بها النُّفوس، واطمأنَّت إليها القلوب ، بخِلاف بقيَّة المذاهب الخارجة عنها ، ومن ثَمَّ كان الشَّافِعِيُّ يقول : الليث أفقَهُ من مالك لكن ضيَّعَه أصحابُه؛ أي : بعدَم تدوين مذهبه وتحرير مقاصده وقواعده، واعلم أنَّ الأئمَّة صرَّحوا بأنَّ الظاهريَّة لا يعتدُّ بخلافهم، ولا يجوز تقليد أحدٍ منهم؛ لأنهم سُلِبوا العقول حتى أنكَرُوا القياس الجلي !!] أ.هـ
وقال المنّاوي (متوفَى 1031هـ) في (فيض القدير:1210) :
[لكن لا يجوز تقليد الصحابة وكذا التابعين - كما قاله إمام الحرمين - من كل من لم يدوّن مذهبه، فيمتنع تقليد غير الأربعة في القضاء والإفتاء، لأنّ المذاهب الأربعة انتشرت وتحررت حتى ظهر تقييد مطلقها وتخصيص عامها، بخلاف غيرهم لانقراض أتباعهم، وقد نقل الرازي إجماع المحققين على منع العوام من تقليد أعيان الصحابة وأكابرهم] أ.هـ
قال الشيخ محمد بن أحمد بن محمد عليش المالكي ( 1299هـ) في كتابه (فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك) :
[وَأَمْرُ عَوَامِّ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ :إذْ مُرَادُهُ تَرْكُ الْمَذَاهِبِ الْمُتَّبِعَةِ وَأَخَذَ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَهَذَا ضَلَالٌ وَالْأَمْرُ بِهِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى الْجَهْلِ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ النُّصُوصَ مِنْهَا الْمَنْسُوخُ ، وَمِنْهَا الْمَرْدُودُ لِطَعْنٍ فِي رُوَاتِهِ ، وَمِنْهَا مَا عَارَضَهُ أَقْوَى مِنْهُ فَتُرِكَ ، وَمِنْهَا الْمُطْلَقُ فِي مَحَلٍّ وَقَدْ قُيِّدَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، وَمِنْهَا الْمَصْرُوفُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِأَمْرٍ اقْتَضَى ذَلِكَ ، وَمِنْهَا وَمِنْهَا ؛ وَلَا يُحَقِّقُ ذَلِكَ إلَّا الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ وَأَعْظَمُ مَا حُرِّرَ مِنْ مَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِكَثْرَةِ الْمُحَقِّقِينَ فِيهَا مَعَ سَعَةِ الِاطِّلَاعِ وَطُولِ الْبَاعِ فَالْخُرُوجُ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ ضَلَالٌ وَالْأَمْرُ بِهِ جَهْلٌ وَعِصْيَانٌ وَوَاجِبٌ تَقْلِيدُ حَبْرٍ مِنْهُمْ !!] أ.هـ
وقال أيضاً : [ومعلوم لكل أحدٍ أن رتبة الاجتهاد قد انقطعت منذ أزمان وأنه ليس في هذه الأزمان أحدٌ من الذين بلغوا درجة الاجتهاد ومن توهم ذلك فقد ضحكت عليه نفسه ولعب به الشيطان ؛ وعلى فرض الوجود هل يعتقد عاقل أنه أعظم من المتقدمين حتى يُتبَع ويُترَك ما عليه الأوائل ؟؛ والواجب على ولاة الأمور وكلِ مَن بسط الله يده أن يزجر هؤلاء القوم ويمنعهم من إضلال الناس وتعطيل المذاهب المتبعة فإن لم ينزجروا أخرجوا من البلاد وأبعدوا عن العباد ليستريح الناس من شرهم وتصلح أحوالهم إن شاء الله تعالى والله أعلم] أ.هـ
وقال ايضاً : [وقد أجمع أهل السنة على وجوب التقليد على من ليس فيه أهلية الاجتهاد ، حسبما في الديباج للإمام ابن فرحون - رحمه الله تعالى - وعمدة المريد للشيخ اللقاني وغيرهما، وشاع ذلك حتى صار معلوما من الدين بالضرورة !!] أ.هـ
وقال الإمام ابن الهمام : [انعقد الإجماع على عدم العمل بمذهب يخالف الأربعة لانضباط مذاهبهم ، واشتهارها وكثرة اتباعها] أ.هـ
وقال الإمام السبكي الشافعي : [ما خالف الأربعة كمخالف الإجماع] .
وقال الصاوي المالكي : [لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ، ولو وافق قول الصحابة ، والحديث الصحيح ، والآية ، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل] وقال الإمام النفراوي المالكي : [انعقد إجماع المسلمين اليوم على وجوب متابعة واحد من الأئمة الأربعة، وعدم جواز الخروج عن مذاهبهم] .
وقال ابن الصَّلاح : [وليس له التمذهب بمذهبِ أحدٍ مِن أئمة الصحابة وغيرهم مِن الأولين وإن كانوا أعلمَ وأعلى درجة ممّن بعدهم لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه، وليس لأحدٍ منهم مذهبٌ مهذَّبٌ محرَّر مُقرَّر] .
وقال الإمام الزركشي : [وقد وقع الاتفاق بين المسلمين على أن الحق منحصر في هذه المذاهب وحينئذ فلا يجوز العمل بغيرها] .
وقال ابن نجيم في الأشباه : [وما خالف الأئمة الأربعة مخالف للإجماع] .
و قال الإمام المرداوي : [فإن مدار الإسلام واعتماد أهله قد بقي على هؤلاء الأئمة وأتباعهم وقد ضبطت مذاهبهم وأقوالهم وأفعالهم وحررت ونقلت من غير شك في ذلك بخلاف مذهب غيرهم].
و قال ابن مفلح : [إن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة ، وأنّ الحق لا يخرج عنهم].
و جزم ابن تيمية بأن الحق لا يخرج عن الأئمة الأربعة حيث قال : [وقول القائل : لا أتقيد بأحد من هؤلاء الأئمة الأربعة، إن أراد أنه لا يتقيد بواحد بعينه دون الباقين فقد أحسن بل هو الصواب من القولين، وإن أراد أني لا أتقيد بها كلها بل أخالفها فهو مخطيء في الغالب قطعاً، إذ الحق لا يخرج عن هذه الأربعة في عامة الشريعة
وقال الإمام عبد الغني النابلسي : [وأما تقليد غير المذاهب الأربعة ، فلا يجوز لعدم تدوين مذاهبهم وعدم معرفتنا الآن بشروطها وقيودها، وعدم وصول ذلك إلينا بطريق التواتر، إذا علمت هذا فاعلم أن المذاهب الآن التي يجوز تقليدها هي هذه المذاهب الأربعة لا غير] .
وغير هذه النقول في هذه المعاني كثير، وفيما ذكرنا غنىً وكفاية، والله الموفق للسداد والهادي إلى سبيل الرشاد، جعلنا الله وإياكم من أهله، والحمد لله .
---------
تعليقات