وقت القراءة: 13 دقائق/دقيقة (2695 كلمات/كلمة)

الدعوة السلفية وخيانة الفكر الإسلامي !! (4) (شيوخ الفضائيات 2)

18809185_258900194585705_5949257216585367552_n

بسم الله الرحمن الرحيم

الدعوة السلفية وخيانة الفكر الإسلامي !! (4)

(شيوخ الفضائيات 2)

________

ذكرت في المقال السابق أظهر نقاط الاتفاق والتطابق بين دعاة السلفية من شيوخ الفضائيات في مصر خصوصاً، من مبتداهم إلى منتهاهم في نحو ربع قرنٍ من الزمان كما سبق بيانه>

وهي: التفريق في عرض قضايا الدعوة على الناس، وممارسة الانفصام النكد بين أصول الدين وفروعه، فيعرضون من الدين الناعم واللين، كالمواعظ والرقائق، وما يرضي أعداء الدين في الداخل والخارج، دون ما يثير زوابعهم ويؤجج حفائظهم، من قضايا الدين العظيمة وأصوله الفخيمة التي تقض مضاجع الكفار والمنافقين كقضايا الحاكمية والولاء والجهاد ونحوها .

وعرضنا في ذلك المقال مشاهدتي وشهادتي على مواقف المدعو "أبو إسحاق الحويني"، كنموذجٍ فجٍّ وصاخب لذلك الإنفصام النكد والتفريق الآثم، واليوم أكمل مشاهداتي في ذلك الصدد على أغلب مشاهير شيوخ ورواد الفضائيات الآخرين ممن عاصرتهم وتصح شهادتي عليهم .

فهذا شخصٌ آخَرُ هو المدعو محمد حسان، وهو من أوسعهم انتشاراً، وأعظمهم شهرةً، وأكثرهم جمهورا، كان ليلةً على مائدة العَشاء في بيتي، وذلك بعد محاضرة في الرقائق كالعادة في منطقتنا الدعوية عام 1998م، وبحضور نخبة من الإخوة قد تربو على العشرين، فسألته ليلتها : كم محاضرة لك في الرقائق يا شيخ ؟ فهالني الرقم الذي ذكر حين قال : ثمانمائة شريط ! مع أن بدايته كانت قبل نحو ست سنوات تقريباً، فليست بالفترة التي تناسب هذا القدر الهائل !!

فقلت له : وما حظ أصول الدين وقواعد الملة إذاً ؟! فأدرك بذكائه ما أرمي إليه من الإشارة إلى إهماله هذا الجانب الأصيل، وأبدى وجاهة ملاحظتي وتقديره لكلامي.

وقال : لقد سئمت من الدعوة الجماهيرية ومن كثرة الرواد في المحاضرات العامة، وأشعر أنها موالد تُقام وتَنفض بلا كبير فائدة، أو كما قال، فقلت في نفسي اطرق الحديد وهو ساخن، فبادرته على الفور : فما رأيُك يا شيخ لو جمعت لك خمسين من أمثل طلبة العلم لدينا، فحاضرتَهم مرةً في الشهر في أصول الدين وقضاياه المهمة، مما لا تستوعبه المحاضرات العامة غالباً ؟! وليكن هناك متسعٍ من الوقت نحو ست ساعات مثلاً تتخللها راحات ؟!! 

.فقال : الله - بالمد والإستحسان - أحسنت والله يا شيخ "هو دا الشغل" !

وتواعدنا بعد شهر من تلك الليلة، ثم قبل حلول الموعد بيومين حدث ما كنت أتوقعه وأعرفه، وهو أنِ اتصل سكرتيرُه فاعتذر له عن الموعد وبالتالي عن الفكرة كلها، وأظن هذا المثال كافياً ليشرح حياته الدعوية بأكملها دون الحاجة إلى المزيد !!

وآخرُ هو مصطفى العدوي، ما قاتل الدَّيْلمَ ولا الفُرس، وما انتقد اليهود ولا السيخ ولا النصارى ولا المنافقين، وإنما شحذ شفرته واستجمع قوته لينال من الشيخ الألباني، وهو شيخُ شيخِه مقبل بن هادي، أظنه ليقال : من هذا الذي يناطح الجبل ؟! فكان أول ما قدم به نفسه للساحة الدعوية هو نقد الألباني، الذي كان يومئذٍ عند السلفيين جبلاً لا يُطاول ووحياً لا يُخطيء، ولا يتصور انتقاده من عمالقة الصف السلفي ابن باز والعثيمين فضلاً عمن دونهما من الأحداث ومجهولي الهُوِيَّة !!

فإذا بشاب حدث لا يكاد يعرف يفاجيء الساحة الدعوية والسلفية برسالة صغيرة في بضعة ورقات عنوانها بقدرها، ويعرف مغزاها من عنوانها وهو :"المؤنق في إباحة الذهب المحلق وغير المحلق والرد على الشيخ الألباني"، وكان يمكن للمؤلف أن يكتفي بالرد على الألباني داخل البحث لمن يطالعه، لكن يبدو أن التنويه بالرد على الشيخ الألباني في عنوان الكتاب وعلى صدر صفحته الأولى شيء مهم للغاية عند المؤلف إن لم يكن هو الأهمية كلها والمقصود من تأليف الكتيب أصلاً !!

هذه القصة هي بمثابة أول القصيدة لهذا الرجل - مصطفى العدوي - ولعلها تكفي الحصيف لمعرفة أغوار تلك الشخصية ابتداءً، بحيث لا تكاد تجد في مسيرته الدعوية - حسب ظني - أبرز من محاولته مناطحة الألباني بكل سبيل في ربع قرن، حتى أنه أغرى غلمانه وتلامذته بذلك، فصار مجيدهم عنده من يصنع بحثاً يُخَطِّيءُ فيه الألباني، في تضعيف حديثٍ صحَّحه أو تصحيح حديثٍ ضعَّفه أو مخالفته في مسألة فقهية ذهب الألباني إليها، فضلاَ عن رميه بالتساهل وغير ذلك من عيوب المحدثين، فتصدى صِهْرٌ له فاضلٌ من طلبة العلم فرد عليه بالكمال والتمام، ووضع الحق في نصابه، وأظهر الهوة العلمية السحيقة بين الشيخ والتلميذ !!

وجدير بالذكر هنا أن أؤكد على أنني لست أنكر على مصطفى العدوي نقد الألباني، أو أنني أزعم أن الألباني فوق النقد - معاذ الله – من مصطفى العدوي أو ممن دونه، أو أنكر أن العدوي ربما كان محقاً ومصيباً في نقده للألباني أحياناً أو غالباً، ولكن المستنكر هو تطاول التلميذ على شيخه، وتسلُّقُ الصبيِّ على كتف المُعلِّم !!

وأما ما تبقى لديه من حَنَقِه وتعاليه، فقد صرفه لإخوانه في الصف السلفي خصوصاً على مدى عقد ونصف من الزمان تقريبا، يُظهر الخلاف، ويفرق الناس به كلما سنحت الفرصة له وإلا أسنحها، وذلك على أمور يسيرة مما يسوغ فيه الخلاف من قديم، حتى خاصم أكبر قطاعات السلفيين يومئذٍ وهم السكندريون، وبدَّعهم كلهم على موضوع البيعة والعمل الجماعى، رغم كونها أموراً أجازها - على الأقل - الأقدمون من علماء السلف ومن بعدهم، ولها صور شرعية منذ عهد السلف فيما يعرف ببيعات الطاعة، والأمر بالمعروف، والتعاون الشرعي على البر والتقوى، هذا بفرض وجودها أصلها عند أولئك السلفيين السكندريين الذين يشن عليهم الغارة تلو الغارة، وإلا فلا أظنها موجودة حقيقةً إلا صوراً شوهاء من التشبع بالقول دون الفعل، أو ربما كان لدى حزبية برهامي الخاصة والمشخصنة قدراً منها !!

وتتابع عليه دعاة الأسكندرية حينها، خاصة المقدم وسعيد عبد العظيم، يتألفونه ويبينون له أمرهم ومشروعيته، ويقسمون له أنهم ليس فيهم بيعة وأن ما عندهم من العمل الجماعي قريبٌ مما عنده مما يقع بالضرورة، فكان أن يظهر الموافقة لهم في وجوههم، ثم ما تلبث ريمة حتى تعود لخصلتها القديمة، فيُلسِّن عليهم في دروسه، ويلمزهم بما أقسموا أمامه ببراءتهم منه !!

وما تصافَوْا ولا تآلفوا على شيءٍ طيلة قرانتهم الدعوية، كما ائتلفوا بعد ذلك على موالاة الإنقلاب وتأييده، سواءً بالقول أو بالصمت على جرائمه بلا إكراهٍ معتبر، بل في حال قدرتهم على الإنكار، وحال شدة حاجة الأمة لبيانهم وإلحاحها في طلبهم وانتدابهم ليفتوها في أمرها، فخذلوها وما أنصفوها، فسبحان الملك !!

وكان العدوي كسابقيه في قضية المساومة في مسائل الدعوة، إذ لم يتجاوز الرقائق والأحكام الشرعية المستفيض علمها نسبيا في خطبه ودروسه العامة، وفي الدعوة الخاصة حيث حلقاته العلمية وطلبته المنتقين ومكتبته الضخمة، لم يجاوز مصطلح الحديث أيضاً إلا يسيرا، ولم يتعرض في هذا ولا ذاك لقضايا الأمة الملحة التي أسلفناها، وكأني به بلسان الحال يوافق ما نطق به صاحبه الأول بلسان المقال أن مصطلح الحديث يحوي كل العلوم زعموا !!

وآخر هو محمد يعقوب، رغم بدايته السكندرية، التي كانت منفتحةً نوعاً ما على قضايا السياسة والفكريات، إلا أنه من أوائل التسعينات سار في تيار الحويني وحسان وبقية الركب، واشتهر بعمامته المتفردة وبطريقته مع مريديه التي اشتهر أنها أقرب للصوفية منها إلى السلفية !!

وكالسابقين أو أشد كان يعقوب جلداً في التزام منهج الرقائق لا يبرحه، حتى كان مرتبطاً فترةً طويلة من عمره الدعوي بشرح مدارج السالكين، ولا يخرج عنه إلا نادراً، وانتقل به إلى الفضائيات كذلك !!

وأشيع بخفة أنه كان ليعقوب قرباً ما أو علاقةً ما بـ"جمال وعلاء"، حتى حدثني من لا أتهم - وكان من جملة المدعوين - أن يعقوب كان يستحثُّ صفوته من شيوخ الفضائيات وأنصار السنة لأداء "واجب العزاء" في "محمد علاء"، باستثارة أحدهم بقوله : "أعزَّيت" ؟! فقال محدثي : "ع الزيت وللا ع السكر !!

وقد يقول قائل : وما المشكلة في العلاقة بالأسرة الحاكمة ؟! وهي مظنة الإصلاح من الشيخ والنصح لهم بسلوك سبيل الحق والعدل ما أمكن !!

والجواب : لا مشكلة ولا بأس إن كان هذا ظاهراً معلناً، أما أن يستعلنوا لنا على المنابر بالمفاصلة والبراءة، ويُقَعِّدوا فينا أن السلف عليهم الرضوان كانوا لا يأتون أبواب الولاة ! وأن من انزلق إليها منهم قاطعوه وهجروه ونحو ذلك كثير، ثم من تحت المنضدة إذا بهم يجاملونهم ويواسونهم ! ففي هذا كل البأس وكل المشكلة، وهو المسؤول فيما أظن عما صاروا إليه من خيانة الأمة، وكتمان الحق عنها أحوج ما تكون الأمة إليه، ومجاملةً للطواغيت، وإيثار ما عندها على ما عند الله تعالى، وخشيتهم كخشية الله تعالى أو أشد خشية، وجعل فتنتهم كعذاب الله !!

وآخرٌ - لا أحب ذكر اسمه هنا لاعتبارات شخصية - أُدْخلتُ أنا وإياهُ على غشومٍ جائر، فابتدره الظَّلومُ يسأله بلطف ظاهر : "بتتكلم في إيه يا شيخ" ؟! ... فأجابه على الفور - قبل أن أفهم أنا وِجْهة السؤال - وقال : في الرقائق طبعاً ! فعلَّق عليه الظلوم مبتسماً ومفتخراً : أنا أحب الرقائق وأهل الرقائق أصحاب القلوب الرقيقة !

وظل الظلوم يتجاذب معه أطراف الحوار على هذا النحو أكثر من ثلثي الساعة، في حين لم يسألني شيئاً بل لم يلتفت إليَّ أصلاً وكأنه يتجاهلُني تماماً، لكن كان واضحاً أن الكلام لكِ يا جارة كما يقال !! ... ثم أخبرنا بفرمان المنع من الخطابة والدروس، فما هي إلا أيامٌ قليلة حتى كان المنع من نصيبي وحدي دون صاحبي، وذلك لأنه قد بات واضحاً أن الرِّقَّة والرَّقاقة تكسب !! .

وقد أمضى - هذا - رِدحاً من زمان دعوته لا هم له إلا موضوع الرقية الشرعية، ففيها يعمل وفيها يصنف، ولا تخلو تصانيفه فيها من أخطاء فادحةٍ في العقيدة خصوصاً، وما ترك ذلك ظاهراً حتى عوتب شديداً من بعض أهل العلم، كما حدثني من لا أتهم أن الشيخ الجبرين (مسح به الأرض) - على حد تعبير محدثي الذي شهد الواقعة - في مكة في إحدى الإعتكافات الرمضانية، وذلك لِما في تصانيفه تلك من الإنحراف، فترك ذلك ظاهراً على الفور وانتسب إلى الفقه والتفقه، ولكنه لم يدع طباعة كتب الجن والشياطين تلك، ولم يتبرأ من مخالفاتها ولا من التشبع بالبروز بها في الفضائيات والمجامع، بل قد أذن لكثير من طلابه وأقاربه فهم يتعيشون منها ويعملون بها، حتى خلَّف طبقةً ليست بالقليلة أثرت من "الكهانة" وتربحت من تجارة "العفاريت"، تحت ذريعة الرقية الشرعية !!

وكانت خطبه ودروسه بعد ذلك لا تكاد تتجاوز الآداب والمسائل الفقهية والمواعظ، في الوقت الذي تكتنفُ الأمةَ فيه الفتنُ والمذابح من كل جانب فلا يتعرض لشيء من ذلك بشيء، وكانت عادة السلفيين في منطقته الدعوية أن يُحيوا أفراحهم ومحافلهم بانتهاز الفرصة لنشر الأفكار الدعوية والمضامين السلفية، وكان هو في وادٍ مختلف يفترض في كل حفل جاموسة في السوق ويجري عليها ألواناً من البيوع للتعليم بزعمه، فكان الشباب السلفي يتندرون دائماً على جاموسته ويدعون عليها بالذبح ليتخلصوا من فيلمها السمج، وذلك على مدى ربع قرنٍ كذلك !!

وقام يوماً بعد الخطبة وصلاة الجمعة في بعض القرى ليجيب على أسئلة الناس، فسأله أحد الشباب عن تعليقه على بعض الزنادقة المارقين، الذي يشوه دين الإسلام على الشاشات، ويسب البخاري، وينكر السنة، وقد عمت البلوى بفساده في العامة، فأعرض عن الشاب ولم يجب عن سؤاله ! ثم سأله رجلٌ - على إثر ذلك - عن مسألة في الوضوء فقال : هذا هو السؤال، ثم شرع في الجواب !! .

وآخرٌ هو الشيخ أسامة، ما تعدت دعوته حد شعائر العبادات وإن كانت بطريقة سنية محمودة، وتربية من يأتيه عليها، مع الإهتمام بالقرآن الكريم تحفيظه وتجويده، والقراءة به مطولاً في الصلوات سرها وجهرها، حتى إنه ليختمه في الصلوات كل ثلاثة أيام أو أقل، وكل هذا حسن جميل لا شائبة فيه، ولكنني لا أظن أنه يشفع له في سكوته التام عن قضايا الدين الملحة وقد انتصب للعلم والدعوة والتربية والأستاذية في الأصول !!

وحدثني عدد من الثقاة القاهريين في المعتقل عام 1994م أن أحد الدعاة ويدعى رجائي المكي كتب يافطة على باب مسجده بالقاهرة أن دعوته لا تتعرض لمسائل السياسة والحاكمية، كأنه يعني أن العزاء مقتصر على تشييع الجنازة !! .

ونظائر هذا من مواقفهم على مدى أكثر من عشرين سنة كثيرٌ لا يكادُ ينحصرُ، لو جرينا معه لطال بنا المقام، وإن كان فيما ذكرنا غنى وكفاية ليدل على منهجيتهم في تبليغ جانب واحد من الشريعة، يكفل لهم مع الكثير من مهاراتهم في اللغة والبيان والحفظ والتحضير الجيد، وغير ذلك من أنواع الإجادة نوعاً ما، أن يُسلكوا في صف الدعاة المعاصرين بل في قمتهم، وأعظم شهرتهم في الواقع الأعم هذا من جهة، ويُجنِّبهم غضبة السادة ويكفل لهم السلامة - حسب ظنهم - من جهة أخرى !!

وكان هذا العطب الجسيم والمرتع الوخيم والخلل المنهجي الفادح الذي لا يُحتمل - في الحقيقة - ولا أظنه يمكن أن يُجازَ صاحبُه معه كداعيةٍ إلى الله تعالى على منهج الرسل والأنبياء، أعني بذلك مسألة حصر موضوع الدعوة إلى الله تعالى فقط في المواعظ والعلوم الخادمة، ما يعني الإنفصام الدعوي والتجزيء والتقسيم للمباحث الدعوية حسب الهوى وحسابات السلامة .

كان ذلك هو ديدن أولئك الدعاةِ لأكثر من عقدين من الزمان ملكوا فيها زمام الشهرة والدعوة، وبرغم ذلك لم يَدَعُوا ذلك الإنفصام بالعمد والقصد فقادوا الأمة إلى الخنوع والإستنامة لعدوها، والإستكانة لطواغيتها، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وهم راضون مكتفون لها بقدرٍ من الهدْي الظاهر وشعائر الإسلام العامة، فضلاً عن بعض المسائل الشرعية التي ضخموها وفخموها، وملأوا الجو صخباً وصراخاً بها، وكأنها أصولُ الدين وثوابتُهُ التي لاخلاف حولها، ولا فهم يُعتَمَد لها سوى فهمهم، كمسائل في الهدي الظاهر والتعدد، وهيئات محددة في حجاب المرأة المسلمة ونحو ذلك، كل ذلك دون الدخول في حقيقة الدين الكلية ظاهراً وباطنا، خصوصاً ما اشتبك منه بالواقع المعاصر مما ذكرنا آنفا، وهو قدْرٌ من العلمنة، والفصل لحقيقة الدين عن معظم زوايا الدين والحياة ولا بُدّ، سقطوا في حمأته، وساقوا الأمة عامتها وخاصتها إليه، شاؤا ذلك أم أبوْا .

ولكن نظراً لقلة العلم وغلبة الجهل والعواطف والحُلُم الضالة من العامة والخاصة على السواء من جهة، ونظراً لتسلط الأعداء وسيطرة الطواغيت وتضييقهم السبيل على الدعوة والدعاة بالقمع والتنكيل من جهة أخرى، ربما تهيَّب الأكثرية من النخبة الإسلامية أن يُنكروا هذا الإنفصام الشنيع - فيما مضى - ويواجهوه بقوَّةٍ ويُثرِّبوا على فاعليه، خشيةَ أن يطفئوا نور شمعة يُتوقَع سطوعُها في ظلماءَ عاتيةٍ بزعمهم، والحقيقة أن هذا كان خطأً جسيما أدى إلى سيطرة أولئك الدعاة على الصحوة فصاروا نجومها بغير حقٍّ ولا أهلية، ومن ثم سيطر الطواغيت بالدَّوْرِ عليهم وأحكموا عليهم القبضة كما هي سنة الله تعالى "وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ"[الأنعام:129]، ومن ثم سقطت الأمةُ كلُّها في حِجْر الطواغيت ولا حول ولا قوة إلا بالله .

وللحقيقة فإن طوائف من جماعات الصحوة قد أنكروا ذلك مثل "جماعة الإخوان" و"الجماعة الإسلامية" و"فصائل الجهاد"، ولكنه كان إنكاراً مكتوماً تهمس به بعض الأصوات هنا وهناك وترتفع به في محاضنها ومنتدياتها الخاصة ثم ما يلبث الأمر أن يمر بسلام، فلم يكن إنكارُهم مواجهةً فاعلة تسهم بقوةٍ وحسم في إيقاف هذا المد الفاشل، الذي يجهد ويجتهد في تبليغ غير دعوة الله تعالى في الحقيقة، وإنما يبلغ دعوتَه هو ورؤيتَه الخاصة التي ألجأه الطواغيتُ إليها وزخرفوها له بالترهيب تارةً وبالترغيب تارات، وزخرفها له شيطانه وركنت إليها نفسه الأمَّارة، فبلغها على أنها دعوة الله من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر، وهذا في الحقيقة مكمن الداء ومدرج الخداع ومَنْبتُ الخيانة !!

وهؤلاء الدعاة من أول من يعلم أن جملة الصفوة من الأنبياء والمرسلين والأولياء المصلحين، كُذِّبوا وأُوذوا وأُخرجوا وقُتلوا، فصبروا على ذلك في تبليغ الحق للخلق، فلم يُجاملوا فيه ولم يُساوموا عليه، حتى أتاهم نصرُ الله ولا مبدِّل لكلمات الله !!

فهذا رجلٌ بمفرده جاء من أقصى المدينة يسعى، وواجه قريتةً بأكملها بما تكره : "قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ" [يسن:20-21]، فقتلوه فدخل الجنة، "قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ"[يسن:26-27] !!

وهؤلاء جماعةٌ ضعيفة مستضعفة آمنوا مع نبيهم - عليه السلام - على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، فصدعوا بالبراءة منهم غيرَ هيَّابين : "فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ" [يونس:85-86] !!

وهذه امرأةٌ تعيش في مملكة الكفر وحدها، فلم يمنعْها ذلك من أن تعلن : "رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" [التحريم:11]، فتبرات من فرعون وهي تعيش تحته ضمنَ سلطانه، وهي من أقربَ الناس إليه وألصقَ الناس به، وتبرأت من عمله مخافة أن يلحقها منه شيء، وتبرأت من كلِّ القوم الظالمين وهي تحت طائلتهم وتعيش بينهم، فلا نامت أعينُ المذعورين ولا الجبناء !!

والقرآن العظيم يذخرُ بأمثال هذا القصص الكريم مما يطول ذكره حتى جاء أمره تعالى يقول لنبيه عليه السلام وهو يلاقي صنوف العذاب من قومه فضلاً عن المؤمنين معه : "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ"[الحجر:94]، ويقول له كذلك : "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ"[هود:112-113] .

فهلَّا قعد هؤلاء الدعاة في بيوت أزواجهم أو أمهاتهم، واشتغلوا بما شاؤوا غير الدعوة إلى الله ؟! ما داموا قد علموا من أنفسهم أنهم يَضِنُّون بدفع ثمنها وهو الصدع بالحق المر مع الصبر على الأذى فيه، وما علموا أنهم لا يحملون أعظم مؤهلاتها بعد الإخلاص وهو "وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ"[لقمان:17]، "وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" [العصر:3]، وإلا فهم متشبعون بما لم يُعْطَوْا، آخذين الوظيفةَ بغير حقها ومُزوِّرين في أوراقها، حائزين لثقة الناس وأموالهم بغير حقها كذلك، حيث قد منحهم الناس إياها لكونهم دعاة الحق وقد تبين كتمانُهم للحق، فزادوا على أخذ أموال الناس بغير حقها أن أنفقوها غالباً في غير حقها بإعطائها فقط لمريديهم وحاشيتهم ومعظميهم دون مستحقيها من غيرهم من سائر المسلمين، حرصاً على الشرف والجاه وكثرة التابع !!

فما فائدةُ ألسنتِهِمُ الزَّلِقة وأحاديثهم المشوِّقة وزئيرهم على المنابر، بالأمر بالجهاد والصدع بكلمة الحق، ونحوذلك من الفضائل إن كانوا يقولون مالا يفعلون، ويَظهرون لنا كالأسود وهم عند الطواغيت كالحريم، من غير بأسٍ يُذكرُ يُحِلُّ لهم ذلك !!

فالخلاصة أنْ هذا الإقتصار في التبليغ على المواعظ دون سائر الدين، مسلكاً بائراً وخللاً منهجياً ظاهراً، لا يُدْرِكُهُ التصحيح ولا تَلْحَقه الإِجازة .

#فرحات_رمضان 

إعلامُ المسلمينَ...بأنّ الزكاة اليوم لنُصرَة الدين...
حقيقة التعديلات الدستورية فى مصر .. العقدة والحل ف...
 

تعليقات

لا تعليق على هذه المشاركة بعد. كن أول من يعلق.