بسم الله الرحمن الرحيم
الدعوة السلفية وخيانة الفكر الإسلامي !! (3) .
(شيوخ الفضائيات)
____________
بعدما استعرضنا فيما سبق التحول المفاجيء من النقيض إلى النقيض الذي وقع للسلفية الجماعية، أي التي تتبنى العمل الجماعي بصورةٍ أو بأخرى، وأعني بها ما كان يُعرف بـ "سلفية الأسكندرية" ومن اتبعها من بعض محافظات مصر، كمطروح والبحيرة وكفر الشيخ وغيرها، فالآن دعونا نستعرض هذا التحول الكبير في السلفية الفردية، أو ما كان يعرف بـ "سلفية الشيوخ وتلاميذهم" في مصر كنموذج لغيرها .
ورواد هذه المدرسة في مصر كانوا في معظمهم شباباً متسنناً في نحو الثلاثين من أعمارهم من خريجي الجامعات، وقد سافر - غالبهم - إلى السعودية واليمن والأردن وغيرها، بدافع العمل وكسب العيش غالباً، ثم واتتهم الفرصة في الغربة بشكلٍ أو بآخر ليكونوا من طلاب العلم، إما بالتتلمذ النسبي على بعض الشيوخ في تلك البلدان، أو بالإطلاع الشخصي والقراءة الفردية، وعلى رأس هؤلاء كان الحويني ومحمد حسان ومحمد يعقوب ومصطفى العدوي وعبد العظيم بدوي وغيرهم !!
ثم فجأة من الزمن - ولعله لم يكن صدفة - عاد كل أولئك من غربتهم، لسبب أو لآخر واجتمعوا في مصر، في خلال سنتين من 1990 : 1992م تقريباً، وحملوا مشعل الدعوة إلى الله تعالى على منهج السلف - بزعمهم - لأكثر من عقدين من الزمان، حتى طبقت شُهرتُهم الآفاق، وفاقت بمراحل شهرة الشيوخ الكبار يومئذٍ كابن باز والألباني والعثيمين رحمهم الله تعالى !!
فقام هؤلاء فوعظوا ودعوا وعلَّموا، وأنتجوا في جنبات الواقع وساحات الدعوة خيراً كثيرا - لا شك في ذلك - إلا أنهم في الجملة ومنذ بداياتهم فرَّقوا في قضايا الدين والدعوة، فلم يعرضوها كلها كما أنزلها الله تعالى، وكما هو منهج الرسل وأتباعهم، وإنما جزَّأوا فيها وقسَّموا، وأخروا وقدَّموا، وعرضوا بعضها وسكتوا عن معظمها، بحسب الهوى وبحسب حسابات منهج السلامة لا سلامة المنهج .
وإذا اعتبرت نفسي من شهود تلك الحقبة بكاملها، فضلاً عن تفاعلي وحضوري فيها لنيفٍ وثلاثين سنة، أي قبل ظهورهم الطاغي بنحو خمس سنين أو يزيدون، هذا مع قربي واحتكاكي المباشر بمعظم هؤلاء إن لم يكن كلهم، وقرانتهم ورفقتهم في غالب تلك السنين، إلا أنني بفضل الله ومنته لم يكن لي ذرة من شهرتهم وذيوع صيتهم، فضلاً عن أن يعتبرني غيري من شهود تلك الحقبة !!
فأقول : وقد كان أول ما يلفت النظر لأول وهلة هو إتفاقهم - برغم عدم تعارفهم قبل ذلك ولا التقائهم - على أولويات دعوية في مسائل مما يسوغ في غالبها الخلاف ويسع المسلمين التنوُّع فيها، ويدور حكمها في معتمدات المذاهب الأربعة المتبوعة بين الوجوب والاستحباب والإباحة، دون أدنى إفسادٍ للود أو تفريقٍ للصف، مثل أولوية الهدي الظاهر من اللحية المعفاة دون أي تهذيب أو تزيين، ومن الثوب الأبيض القصير إلى منتصف الساق وما دونه، ومن تغطية الرأس بالغترة السعودية والخليجية الحمراء أو البيضاء، أو القلنسوة (الطاقية) على أقل الأحوال، والأشد من مجرد الإلتزام بهذه المظاهر كأنها أصول الدين، هوإقامة الولاء والبراء عليها حقيقةً وواقعاً إن لم يكن تنظيراً واستعلاناً !!
وكذلك مما يلفت النظر لأول وهلة أيضاً هو اتفاقهم على إنكار العمل الجماعي التنظيمي في الدعوة إلى الله تعالى وتبديعه، إلا شيئاً يسيراً مما يلزم بالضرورة بين الشيخ وتلاميذه في مسجدهم ودروسهم، فاختزل الإسلام العظيم في نظر الأجيال المعاصرة هذه الصورة الشوهاء، التي لا تحتفي بإقامة جهاد لأعداء الله وهم ملء الأرض يتربصون بأهل الإسلام الدوائر ويجثمون على صدورهم في أراضيهم وينهبونهم، ولا يحتفون بإعداد عدته إذ عجزوا عن إقامته، ولا يحتفون بإقامة الخلافة بعد سقوطها بنحو مائة عام، ولا يعملون لتحكيم الشريعة ولو بالدعوة والبيان، حتى أصبح كل شيخ وتلاميذه بما لديهم فرحون !!
وكذلك أيضاً مما يلفت النظر عند ظهور أولئك الدعاة هو اتفاقهم في حصر الموضوع الدعوي المعروض على الناس في المواعظ والرقائق، وما لا يخالف الأجهزة الحاكمة ولا يثير حفيظتها !!
فحيث أنهم صالوا وجالوا في المواعظ والرقائق - في الدعوة العامة - حتى صارت أربح تجارتهم، وجلَّ دعوتهم، بل وأكبر همهم ومبلغ علمهم، فإنهم سكتوا تماما - بكامل القصد والعمدٍ وسبق الإصرارٍ - عن قضايا الدين الكبرى وأصوله العظمى، التي تشتبك مع الواقع المعاصر اشتباكاً شديدا، مما يجعل حاجة عموم المسلمين لتبيُّنها وتعلُّمها مسألةً مسألة، جد ماسَّة وبالغةً حد الضرورة، لا سيما مع عظم الجهل بها والغفلة عنها، بل ومع مكر الليل والنهار في التجهيل بها والتغفيل عنها الذي يُمارس على عموم المسلمين فيها من قبل الطواغيت وأذنابهم.
مثل: قضايا الولاء والبراء، ومسائل الحكم بغير ما أنزل الله، ومسائل الإيمان والكفر والأسماء والأحكام، وقضايا الصحابة والخلافة والإمامة، والتصدي لشبهات النصارى واليهود وضلالاتهم، والتصدي لتعديات الشيعة وجهالاتهم، وقضية فلسطين والمسجد الأقصى خصوصاً، وكل أراضي المسلمين المحتلة والملتهبة عموماً، وقضايا الفكر الإسلامي والغزو الفكري، ونقد مسالك رواد التغريب والإنحلال، ونقض النِّحل الضالة كالعلمانية والليبرالية وغيرها، والتصدي للإحتلال الفعلي لبلاد المسلمين من قبل الصهيونية العالمية وأذنابها في أوروبا وأمريكا من خلال السيطرة الكاملة على القرار بكل توجهاته فيها، والتصدي لقضايا السياسة والقوانين المخالفة لأحكام الشريعة وإلزام المسلمين بها، مما يعد في الشريعة من المُلزِم والملتزم بها خروجاً بواحاً من الدائرة، ونحو ذلك من القضايا الأصلية وتطبيقاتها العملية .
فسكتوا تماماً عن كل هذه القضايا وأمثالها في الدعوة العامة، اللهم إلا عناوين ومصطلحات تجري على الألسنة فقط، من قبيل التفيهق والثرثرة بلا مضامين ولا تفاصيل، وإنما مجرد شعارات ومقالات فضفاضة لا تسمن ولا تغني من جوع، ذرَّاً للرماد في العيون، ولو فُرِض جدلاً أنهم تناولوا النذر اليسير من تلك القضايا - إن تناولوها - فبسطحية مفرطة، وإجمالٍ مقتضب لايروي غليلا ولا يشفي عليلا، لأنهم لم يريدوا أن يتقنوها ويتعمقوا فيها ابتداءً، بل لم يعيروها اهتماما أصلاً هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى لم يكونوا ليتناولوها ذلك التناول السطحي الهزيل إلا بعد التيقن بشكلٍ أو بآخر، من أن هذا التناول مسموح به وألا تثريب عليهم فيه مطلقاً من قبل الطواغيت، سواءً كان هذا التيقن بالإستقراء والنظر أو بغير ذلك، فأعينهم على الطواغيت أصلاً، وليست على ما أمر الله به أن يوصل من إبلاغ الحق إلى الخلق .
أما الدعوة الخاصة من حيث إيجاد طلبة العلم وتكوين النخبة من الدعاة والعاملين، فلا يختلف الحال عن الدعوة العامة من ناحية التفريق في قضايا الدين والدعوة، فلم يعرضوها أيضاً كلها كما هو منهج الرسل وأتباعهم، وإنما جزَّأوا فيها وقسَّموا وأخروا وقدَّموا بحسب الهوى، وحسابات منهج السلامة لا سلامة المنهج .
وربما اختلفوا في النمط فقط، فحيث كان نمطهم في الدعوة العامة المواعظ والرقائق في الجملة، فها هنا نمطهم في الجملة أيضا في تعليم فقه العبادات وبعض علوم الآلة الخادمة التي تَخصَّص فيها أحدهم نوعاً ما، كعلم التجويد، ومصطلح الحديث، وأصول الفقه ونحو ذلك، دون أن يُوْلوا علوم الوحي المخدومة - كعلم التفسير، وشروح الحديث، وعلم العقيدة، وعلم الفقه على مذاهب الأئمة الأربعة المتبوعة، وعلم التوارخ والسير ونحوها – دون أن يولوها حقها وما تستأهله من الخدمة والبذل، فإذا فرض - جدلاً - أن أحدهم اهتم بتدريس علم العقيدة والتوحيد مثلاً، فلا يجاوز أبواب الربوبية، والأسماء والصفات، واليوم الآخر ونحوها، دون أبواب الولاء والبراء، والحكم بما أنزل الله، والأسماء والأحكام ونحوها، مما قد يغضب السادة الذين لا يقوم لردِّ غضبهم شيء !!
وإذا اهتم أحدهم بتدريس علم الفقه فلا يجاوز أبواب الطهارة، والعبادات، والزواج ونحوها، دون أبواب الجهاد، والحدود، والديات ونحوها، بل إن بلاءهم في العلوم التي تخصصوا فيها قليلٌ، ونفعَهم فيها ضئيلٌ .
فعلى سبيل المثال يُنعت - أحدُ مشاهيرهم إن لم يكن أشهرهم المسمَّى حويني -بالعلامة، والمحدِّث، ويشار إليه بالبنان في علم الحديث، في حين أنني لا أعلمه شرح كتاباً واحداً من كتب الحديث الستة أو التسعة أو غيرها شرحاً كاملاً في ربع قرنٍ من الزمان، هو تقريباً عُمُر عمله بالدعوة !!
بل لم يتعد كتاب الإيمان في شرح مسلم ولا كتاب العلم في شرح البخاري، وكم قد تصدَّى لشرحهما في هذا وذاك، ثم ما يلبث أن ينقطع بلا مبررٍ مقنع، برغم إجادته في تلك الشروح بما لا يتوفر من غيره، وبرغم حاجة الناس إليه في ذلك، وبرغم كل ذلك لم يفعل، فعلامَ يكون علاَّمةً ومحدثاً إذاً !!
بل لا أعلمه - وهذا أنكى وأبكى - شرح كتاباً كاملاً في مصطلح الحديث في ربع قرن، وهو العلامة المحدث بزعم أتباعه وعلمه بهذا الزعم، فيعلن يوماًعن شرح "تدريب الراوي"، فلا يبلغ صفحة أوصفحتين حتى ينقطع، ثم يعلن عن شرح "الباعث الحثيث"، فما إلا صفحات معدودة ثم ينقطع، وهكذا دواليك فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وكأنها حِيَلٌ تمارس على طلبة العلم حتى لا يتجاوزون مرحلة الزَّبَد إلى ماينفع الناس ويمكث في الأرض، ويبقون أبد الدهر صبياناً لا يرتقون أبداً لرتبة "المعلم" !!
بل - وهو أشد نكاية - لا أعلمه خلَّف طالب علم واحداً، يضاهيه في تخصصه في ربع قرنٍ، فضلاً عن أن يسبقه الطالب ويتفوق عليه، ولإن فعل فهذه علامة جلية ولا شك على نجاح الداعي والمُربِّي في تبليغ دعوته وأداء رسالته !! .
مع أن هذا الرجل الذي ضربته مثالاً كان من أمثل القوم، إن لم يكن أمثلهم في العلم والعمل والدعوة والخلق، فكيف بغيره ممن دونه ؟! وعلام الغلو فيهم إذاً - وهو كثير - ولا حول ولا قوة إلا بالله ؟!! .
ولا شك أن هذا الذي يطرحه القوم من المواعظ والرقائق في الدعوة العامة - كما سلف - ومن أبواب العلم المختلفة في الدعوة الخاصة، لهي علومٌ عظيمة وحقائق جليلة، فضلاً عما تحمله من دلائل الوحي من آيات الله والحكمة، فكلها في القلب وعلى العين والرأس ومعاذ الله أن يظن ظانٌّ أن في كلامي إنكارٌ لها، أو جحدٌ لفضلها، أو تقليلٌ من شأنها، وإنما الإنكار على المتعاملين معها بتقديمها مع حجب الأوجب والأولى منها، أحوج ما تكون الأمة إليه، إنما الإنكار على التجزيء والتقسيم، والحجب والتقديم بحسب الهوى وحسابات السلامة لا سلامة المنهج .
فإن هذا ليس في شيءٍ من منهج الأنبياء والمرسلين في الدعوة إلى الله تعالى : "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ" [الأحزاب:39] .
فهم أولى الناس بتدبر قوله تعالى :"يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ " [المائدة:67] .
فما أمر تعالى رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم إلا بالبلاغ المبين الواجب عليه، والذي هو فحوى مهمته وموجب رسالته ودعوته، حتى بين له إجمالا ما هو هذا البلاغ ؟ .. وهو الوحي المنزل كلُّه، فقال :" بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ"، ومعلوم أن "ما" من صيغ العموم، فكأنه قال له : بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، فقهَهُ، وتأويلَه، وعقائده، وقصصه، وتوارخه، ونحوذلك حسب وقائعه وحاجة الناس إليه، فإن تصرفت فيه بمحض نظرك وهواك وحساب مصالحك وسلامتك بالتجزيء والتقسيم، والتأخير والتقديم، وحجب بعضه ونشر البعض فما بلغت رسالة الله، وإنما بلغت ماتهواه أنت وما يقتضيه نظرك القاصر فيما تظنه مصلحَتك، وإن خفت الناس وأنت يبلغ الحق كله فالله يعصمك منهم إن شاء، وينصرك عليهم كما هي سنته الماضية فيهم .
وهم أولى الناس بالعمل بقوله تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" [البقرة: 208] . أي : خذوا الإسلام كله وادخلوا في الإسلام بكليتكم، ومن ذلك تبليغه كله .
وهم أولى الناس بالفرار من قوله تعالى :"إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ" [البقرة:159]
وأولى بالفرار من قوله تعالى :"إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُولَٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّار" [البقرة:174-175] .
وأولى بالفرار من قوله تعالى : "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ" [البقرة:85] .
ومن قوله تعالى :"وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ"[آلعمران:187] .
وكذا أولى بالفرار من قوله عليه السلام :"من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار"[رواه أحمد وأبو داود والحاكم وقال : هذا إسناد صحيح من حديث المصريين على شرط الشيخين] .
ومن مشاهداتي وشهادتي على الحويني بهذا الإنفصام النكد في الدعوة، باعتماده المواعظ والرقائق فقط دون أصول الدين، واعتماده العلوم الخادمة دون علوم الوحي المخدومة، أن دعوْته يوماً - عام 1992م - لمحاضرةٍ في الحاكمية (الحكم بالشريعة وما أنزل الله) بمسجدنا، وذلك قبل شهر من موعدها، وذلك ضمن أسبوع إسلامي بعنوان (عقيدة أهل السنة) فلم يمانع، وكنت ألقاه غباً كالعادة خلال الشهر فلم يُبْدِ تغييراً ولا ملاحظة، حتى إذا جاء الموعد وجلسنا معاً نحو ساعتين قبل المحاضرة في بعض البيوت، ثم قمت بين يديه أقدم للمحاضرة وقد قطعت شوطاً في ذلك، إذ فاجأني أحدهم يهمس في أذني وأنا في التقدمة يقول لي : الشيخ يبلغك ألا تعلن عنوان المحاضرة !، ولم يكن من ذلك بدٌّ لأن جدران المسجد تذخر من الداخل والخارج بعنوان المحاضرة والمحاضر لأكثر من أسبوع مضى، ثم تكلم ساعتين عن اللحية وأحكامها وكأنه يخرج لي لسانه مباكتاً : أليست هذه حاكمية ؟!! .
ولما افتتح مسجده العملاق المسمى مسجد شيخ الإسلام بعاصمة محافظته، جعل برنامج الدعوة العلمية فيه على هيئة عجيبة، تختزل علوم الشريعة في أحد فروعها ولا تعبأ بالواقع ولا بتحدياته، فجعل دروس المسجد ستة دروس أسبوعياً من السبت إلى الخميس وكلها في شرح الكتب الستة (البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وبن ماجة)، يشرحها خمسةٌ من مريديه معه، لكل يوم درسٌ وكتاب جديدين، وهذا مثال صارخ على الإنفصام المذكور، وإن كان يعكس - بداهةً - حجم الأمية والسذاجة والعشوائية المفرطة في إدارة الدعوة ووضع برامج الحلقات العلمية، فإنه كذلك يعكس بجلاء هذا الإنفصام في الإقتصار على فرع واحد من علوم الشريعة وهو شرح الحديث فقط، في برنامج تعليمي في غاية الإزدحام والإرهاق وهو مع ذلك قليل الجدوى أو عديمها، ثم ما لبث إلا بضعة أشهر حتى سقط المشروع فشلاً، وتوقف من تلقاء نفسه بدون أي ضغوط، بل مع كامل الدعم ! ولا عجب إذ إن طائرَهُ معه، وفشلَه في فكرته، وشؤم نهايته من جنون بدايته من أول يوم، والجنون فنون .
ولما عوتب في ذلك .. أين حظ علوم الشريعة ؟! الفقه والعقيدة والتفسير والتاريخ والسير، فأجاب عجباً أن الحديث يتضمن كل ذلك !
فماذا نصنع إذاً بتراث المسلمين العظيم في مصنفات لا تنحصر في كل علمٍ على حدة ؟!! .. ولماذا صنَّف السلف السابقون في العلوم الشرعية المختلفة إذاً ؟!! ولكن الجنون فنون كما قد علمت !!
وفي واقعة "الرصاص المصبوب" على غزة العزة أواخر 2008م، حيث دُمِّرت غزة في نحو شهر تقريباً أو كادت من قبل العدو الصهيوني، وكانت فيها مقتلة عظيمة، لم ينبس هو ولا أمثاله خلالها ببنت شفة، ولما عوتب في ذلك بعد وقف القتال كان العذر أقبح من الذنب كما يقال، حيث قال : كنت مريضاً !!
وهو الذي لو أراد آلاف الأذكياء ليكونوا "سكرتارية" ومساعدين وكَتَبَةٌ بين يديه يسجلون ما يشير به لسارعوا ممنونين ولم يتوانوْا !! ولو أراد كل وسائل الإعلام في القطر مرئية ومقروءة أن تنقل عنه لكانت رهن إشارته !!
#فرحات_رمضان
تعليقات