اخلع نعليك فإنك في وادي القمع ومستنقع القهر، فادخله ذليلًا بالأمر، واترك آدميتك على أبوابه، فعليه جنود غلاظ شداد على الشعب، جبناء أذلاء على كل محتل ولكل حكم مختل.
تلك بدايات الدخول، أما نهايات الخروج: فتابع ذليل، أو كسير معاق، أو مفقود مختفٍ، أو مخلوق جديد مشوه النفس، منكسر الخاطر، مقتول الآدمية.
تلك قصة مكررة يوميًا في ظلال ضبابية، وفي بقاع شتى، ولغات عدة، لا يجمعها إلا نظم ديكتاتورية وسياسات بربرية لم تعرفها إلا عهود ظلامية.
لا يردعها دين، ولا فلسفة، ولا قيم، ولا مبادئ؛ كيف وهي ظلال للباطل وغياهب للاستبداد، ورباطها الوحيد شيطان السلطة المطلقة.
كما قال الله تعالى: "وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ" (البقرة: 205)، مما يعبر عن فساد الطغاة الذين يفسدون في الأرض، ولا يكتفون بإهلاك الحرث والنسل، بل يسعون لتدمير القيم والإنسانية.
من محاكم التفتيش الكنسية إلى جبروت الإلحاد الشيوعي، لا تفرقها مسافة عن قصص الحجاج الدموية.
وربما كانت تلك القصص نسمات حرية مقارنة بسجون عبد الناصر أو الأسد أو طائفيات العراق أو سياسات بعض الممالك شرقًا وغربًا.
ورغم توثيق هذه المآسي في كتب مثل "البوابة السوداء"، التي تسرد وقائع التعذيب الوحشي في سجون عبد الناصر، و"حممات الدم في سجن تدمر"التي تصف الجرائم المروعة في أحد أكثر السجون رعبًا و "القوقعة" الذي يكشف عن تفاصيل التعذيب البشع بسبب الانتماء الطائفي، و"خمس دقائق وحسب، الموثق لتسع سنوات من المعاناة في السجون السورية، هناك حيث تتحول الكرامة الإنسانية إلى ذكرى بعيدة.
ويصدح جورج أورويل 1984 في روايته بعبارة كالمنارة : (القهر ليس فقط في السيطرة على الأجساد، بل أيضًا في السيطرة على العقول، ليصبح الإنسان مجرد أداة في يد الطغاة) .
وما زالت ذكرياتي كسجين سابق لا تساوي شيئًا مما تشاهده وتسمعه وتقرأه من قصص التعذيب والاحتجاز والاختفاء القسري.
ويطرأ في الذهن السؤال: لماذا؟ ومن أجل ماذا؟ أريد أن أفهم فلسفة التعذيب.
هذه الفلسفة ذات الأعمدة السبعة التي تقوم عليها، وسأسردها لعل الزمان يخلدها، فنفهم الباطل لننقضه.
أولها: سعار السلطة الغاشمة
ذلك السعار الذي يعميه الهوى وتصمه الشهوة، فلا مؤهلات له في الإدارة سوى القهر وفن تسييس الظلم. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنمٍ بأفسد لها من حرص الرجل على المال والشرف لدينه" صحيح رواه الترمذي.
يوضح النبي صلى الله عليه وسلم فلسفة الطغاة، الذين تدفعهم شهوة السلطة والكرسي والشرف إلى تشويه كل من حولهم وسحقهم بغير حق، ليصبحوا وحوشًا مفترسة تفتك بمن تحت أيديهم. وكما قال المفكر الأوروبي ألكسيس دو توكفيل: "الشهوة إلى السلطة بلا رادع تحوّل الحاكم إلى طاغية، والشعوب إلى قطيع يقبل الظلم خوفًا من القهر."
فتأمل حرصهم على المال المقرون بالسلطة، لترى كيف يسرقون الأوطان ويغتصبون الحقوق.
فالشعوب بالنسبة لهم قطيع غنمٍ مسالم لا حول لهم ولا قوة، وأولئك الحكام الطغاة لا يرقبون فيهم عهدًا ولا ذمة.
والطغاة يعكسون قوانين الحكم نتيجة هذا السعار الذي يفقد العقل كا قال: ابن خلدون في مقدمته: "الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح الرعية." فيبدلون العدل بالقهر، والرحمة بالفساد، حتى يصبح المجتمع فريسة للفوضى والدمار.
وما أهلكوهم جوعًا، ولكنهم أهلكوهم فسادً ولو كان الأمر مجرد جوع، لأشبعتهم غنمة واحدة من القطيع.
ولكن الطغاة جعلوا الفساد والإفساد منهجهم، كما قال الله تعالى: "وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ" البقرة: 205.
ثاني هذه الأعمدة: خسة المنبع ودناءة المقصد
فالناس معادن، كمعادن الذهب والفضة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" رواه البخاري.
ولهذا تجد أن الاستعمار وأعوانه يحرصون دائمًا على تولية أصحاب الدناءة وتمكينهم من رقاب الناس، ومنحهم السلطة على رقاب العباد. هذه الخسة ليست عشوائية، بل هي سياسة متعمدة لضمان استمرار الظلم والقهر. ويؤكد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" (رواه البخاري). وكأن الأمر يشير إلى نهاية الخير في الدنيا إذا تولى الأمر من لا يستحقه.
وما يجمع كل من قاموا على قهر الناس غير الخسة والدناءة، تلك التي تجعلهم فاقدين لكل معاني الإنسانية البسيطة والرحمة الفطرية.
بل تجدهم يتلذذون بالسادية وتعذيب الآخرين، كأنهم يقتاتون على آلام الشعوب وأوجاعهم.
ويصف ذلك جان جاك روسو في كتابه "العقد الاجتماعي":يقول "الحاكم الذي لا يرى شعبه إلا وسيلة لتحقيق مآربه الخاصة، هو أسوأ أنواع الطغاة، لأنه يحطم إنسانيتهم قبل أن يسلب حريتهم."
أما أمثال هؤلاء، فليس لهم من الدين إلا الظاهر المنافق، ولا من المبادئ إلا ما تلوكه ألسنتهم بلا أثر في أفعالهم. وواقعهم مرير، يملؤه الجور والظلم، وحقيقتهم لا تخفى على ذي بصيرة.
وكما قال ابن خلدون: "الظلم مؤذن بخراب العمران"، فإن فساد هؤلاء ليس فسادًا عابرًا، بل هو دمار شامل لكل قيم المجتمع وأخلاقه، حيث تصبح الدناءة عنوانًا لسلطتهم.
ثالث هذه الأعمدة: تشوهات نفسية
كل من قام على تعذيب وقهر الآخر، ولو كان حيوانًا، هو شخص مشوه النفس ومريض الروح. هذا المرض هو نتيجة طبيعية لحرصهم على الإمارة والسيادة بغير حق. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم سَتَحْرِصُونَ على الإِمَارَةِ، وستكون نَدَامَةً يوم القيامة، فَنِعْمَ المُرْضِعَةُ وَبِئْسَتِ الفَاطِمَةُ" (رواه البخاري، حديث رقم: 7148).
هذا الحديث يشير إلى الخلل النفسي العميق الذي يصيب من يسعى إلى الإمارة والسلطة دون استحقاق. وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يصور الأمر كخلل "فطام مبكر" ينتج عنه نقص التكوين النفسي وانعدام الاتزان. كلمة "بئست" في الحديث تدل على عمق التشوه الحاصل في النفس نتيجة حرص غير مشروع على السلطة، وتحول هذا الحرص إلى مرض نفسي يدمر صاحبه ويؤذي من حوله.
ولا تجد حاكمًا يستمتع بتعذيب شعبه وسجنه وقهره إلا وهو يعاني من تشوه داخلي عميق.
والرابع: الهزيمة النفسية للمصلحين
ولعلَّ هذا الأمر ليرجع بالناس عن طريق الإصلاح خوفًا وهربًا من تبعاته، ويرغبون في الفساد وأهله طلبًا للسلامة الظاهرة.
هذا في المعتاد عبر التاريخ، لكن لو تحوَّل الإصلاحُ إلى دينٍ وعقيدةٍ يصبح الأمر أكثر تعقيدًا، لدرجة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يصفُهُ بأن يُمشَطَ الرجلُ بأمشاطٍ من حديدٍ بين لحمه وعظمه حتى يرجع عن هذا الأمر (الإصلاح) الذي هو من صميم الإسلام؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه خباب بن الأرت رضي الله عنه:
"قد كان الرجلُ فيمن قبلكم يُحفَرُ له في الأرض، فيُجعلُ فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضعُ على رأسه فيُجعلُ نصفين، ويُمشَّطُ بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه."صحيح البخاري
فتجد الجبابرة وعتاة التعذيب أعداء الإصلاح والمصلحين، وهم أحرصُ ما يكونون على أن تكون فلسفة التعذيب عائقًا للتطور، والتخلُّف والرجعية هي بيئة هذه الفئة المفسدة
فيكون الواحد منهم كما وصفه الكواكبي في طبائع الاستبداد بأنه حريص على أن يكون :هو من يتحكَّم في شؤون النّاس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنَّه الغاصب المتعدِّي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من النَّاس يسدُّها عن النّطق بالحقّ والتّداعي لمطالبته… إنّه عدوّ الحقّ، عدوّ الحّريّة وقاتلهما، وهو مستعدٌّ بالطّبع للشّر، والمستبدّ: يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً."
وهذا المعنى أكده روبرت كونكويست في "الإرهاب العظيم" في عهد ستالين، "The Great Terror"، وبين كيف استخدم النظام السوفييتي القمع والإعدامات الجماعية لإخضاع المجتمع :فلم يكتفِ التطهير العظيم بالقضاء على الأفراد أو المجموعات المحتملة للمعارضة، بل أوجد جوًّا عامًا من الخوف الشامل يشلّ المجتمع، ويمنع حتى أدنى همسة انتقاد أو رغبة في الإصلاح."
الخامس: قيادة الجماهير
إنّ من أعمدة فلسفة التعذيب سعي الأنظمة القمعية إلى قيادة الجماهير المستكينة، تلك الجماهير التي أصابها الذعر من أثر صدمة التعذيب والقهر.
فهذه الأنظمة تحرص على إحداث مذابح جماعية بلا مبرر واضح، حتى يدبّ الرعب في كل صاحب مطلبٍ أو صوتٍ إصلاحي، فينسى الفرد غايته الإصلاحية ويحرص على سلامته البدنية فحسب. ويعرف التاريخ وقائع متعددة، خصوصًا في مصر، بدءًا من "مذبحة القلعه" و"مذبحة سجن طرة"، ومذابح الإخوان في سجون النظام، وحوادث العنف في "استاد بورسعيد"، وقمع المتظاهرين في "ميدان رابعة" و"النهضة". ويناظرها في سوريا مذابح "حماة" و"تدمر"، وغيرها من المذابح التي لم يشهد التاريخ مثلها في إبادة المدن وسحقها.
وهذا ما أكدته تيموثي سنايدر (Timothy Snyder): "فمن خلال ترهيب مجموعات سكانية بأكملها، ضمنت النظم(المستبده) أن مجرد التفكير في المعارضة بقي عديم الجدوى، إذ طغت وحشية القتل الجماعي على قدرة المجتمعات في التحرك."
(Timothy Snyder, Bloodlands: Europe Between Hitler and Stalin, Basic Books, 2010, p.387)
نفس الطرح يؤيده كاليفاس (Stathis N. Kalyvas):فيقول: "في حين أن العنف الانتقائي يهدف إلى فرض الامتثال بإظهار القدرة على معاقبة المنشقين بفاعلية، فإن العنف العشوائي يستهدف ردع العمل الجماعي عبر صدم مجتمعات بأكملها وإرغامها على الخضوع السلبي." (Stathis N. Kalyvas, The Logic of Violence in Civil War, Cambridge University Press, 2006, p.146)
السادس: فرض إرادة القاهر على المقهور
إنَّ طبيعة هذه الشخصيات والسياسات المريضة تقوم على ممارسة القهر دون مبرِّر، فلا يشترط وجود معارضة سياسية أو حركة إصلاحية ليبطشوا بالناس.
وهكذا تجد أشخاصًا لا شأن لهم في السياسة أو الإصلاح، ولكن يقع عليهم القهر لصناعة أجيال مقهورة، لا غاية لها إلا الانصياع لإرادة المستبد. عندئذ يتبنّى الناس شعارات مهينة لكرامتهم، كأنهم يقولون: "نموت نموت ويحيا المستبد"، ويقبلون بالجوع والفقر ليشبع ويغتني هو.
بهذا تُقهر إرادتهم حتى تفرغ العقول والصدور، فيتحوَّل أصحاب الدرجات العلمية والمكانة الاجتماعية إلى عاجزين عن فهم أبسط الحقائق، لأن إرادة الظلم والقهر سيطرت على عقولهم فلم يعودوا يجرؤون على التفكير الحر أو إبداء الرأي.
وهنا تنهدت هانا آرندت (Hannah Arendt)لتوضح أثر فرض القهر فتقول: "إن النموذج المثالي للتابع في ظل الحكم التوتاليتاري(الشمولية المستبده) ليس هو النازي المقتنع أو الشيوعي المقتنع، بل أولئك الذين لم يعد لديهم أي تمييز بين الحقيقة والخيال (أي واقع التجربة)، ولا بين الصواب والخطأ (أي المعايير العقلية للتفكير).
Hannah Arendt, The Origins of Totalitarianism, Harcourt Brace, 1973, p.474."
السابع: إفساد تربة الإصلاح
فبالتعذيب تنتهك الآدمية، ولا تصل حتى إلى درجة الحيوانية، وتفسد النفوس، ويصبح المجتمع غير مؤهّل أصلًا لإنبات الإصلاح.
فتفسد تربته، وتبور زرعته، ولا يبقى منها إلا زرع الشيطان، وتفسد الطباع والأخلاق، وتعلو الفئات الهامشية وتسود قيم التفاهة، وغاية فلسفة التعذيب هدم الإنسان بقيمه وقيمته وحضارته ، وكما عبر بن خلدون بمظاهر هذا القهر: "فإذا كثرت الجبايات، وانتشر الظلم، واشتدّ القهر، انقبض الرعايا عن السعي في العمارة، واختلّ نظام الوجود."
تلك السبعة أعمدة لفلسفة التعذيب القائمة عليها عتاة الدكتاتورية، أصحاب الأمراض النفسية والأنفس المشوّهة والذمم الفاسدة والقيم الدنيّة والأخلاق الرّديّة، ليتمكنوا من رقاب العباد والبلاد وينشروا الكفر والفساد والفتن.
ولهذا فإن فتنهم فاقت ثمن الثورات؛ فالفتنة أكبر وأشد من القتل، وهذه الفتنة، وهي الكفر وقرائنه، أشد من تبعات الإصلاح وتوابعه.
وما كانت أعمدة فلسفة التعذيب إلا أعمدة للظلم والبغي والعدوان والكفر والفسوق بغير الحق، فكانت عاقبتهم السوء حتى لو نجوا من عقاب الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا.رواه مسلم.
خالد القاضي
صحفي إنساني
تعليقات