مرت قرون طوال فى الأزمنة الغابرة تَسيَّدت فيها الوثنية وصار الإنسان خلالها مُتعبداً لأى شيءٍ في السموات أو فى الأرض.
فتارةً يقدس العجول والأبقار، وأخرى يعبد الأخشاب والأحجار، وتراه يسجد للشمس ويصلي للقمر.
وحينما تقرأ فى هذه الحقب التاريخية وما قدموه من علوم وآداب وفنون تندهش وتتساءل:
كيف وقعت البشرية حينها فى هذه السقطة الدَنِيَّة؟!
كيف صار الناسُ عبيداً لأشياء لا أقول أنها أقل منهم فى العقل والفكر ولكن هى لا تصلح لاتخاذ قرار أو حتى إبداء رأى أو مشورة؟
والجواب سيكون استنتاجات وتأملات أكثر منها إجابة حاسمة صحيحة، ربما القاطع فيها أن انقطاع الرسالات عنهم وهم يؤمنون بوجود إله.
وتخيلهم أن هذا الإله لابد أن يكون مرئياً محسوساً أمامهم ، في حين أن خالق الكون لابد أن يكون قوياً قادراً فيه صفات العظمة كلها .
فهم عبدوا الشمس لأنها مصدر النور والإشراق ؛وهى عالية كبيرة فى السماء جميلة المنظر ، وعبدوا النهر مصدر الماء وشريان الحياة والقمر لأنه منير مضىء فى ظلمات الليل البهيم
وعبدت بعض الأمم ملوكهم، كمظهر للقوة والسيطرة أمامهم وتصوروا أنهم يتحكمون في حياتهم بالموت ؛أو يهبوهم إياها أو يغدقوا عليهم من خيرات الدولة أو مناصبها، وهكذا...
ربما هذا يفسر لماذا تعددت الآلهة في كثير من الأمم؟! لأن معبودًا واحدًا لن تسمح قدراته أن تشتمل على كل صفات العظمة والكمال بل النقص لابد أن يعتريه والقصور لازم فيه.
الواسطة فى العبادة
أمر آخر يمكن أن يُقَرِّبَ المسألة لدينا أن المشركين لما سألهم النبى صلى الله عليه وسلم عن سر عبادتهم لهذه الأصنام التى لا تنفع ولا تضر أجابوا (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)
وبُناءً عليه فهذه الأصنام وفق تصورهم لا تُعبد لذاتها ولكنها صورة لصالحين جعلوها واسطة بينهم وبين الله عزوجل لأنهم مقصرون مخطئون مذنبون ، ولابد من أصحاب كرامة ومكانة وخصوصية يشفعون لهم عند الله تعالى.
هنا الوثنية تعطى معنى التقديس، وإن كانت لأشياء لا تستحق.
ذلكم التقديس الذى أوقع البشر فى ظلمات الوثنية عبر العصور والأزمان وجعلهم فى حالة مزرية وظلامية.
وفى واقعنا المعاصر فقد عقد فصلاً جديداً من الوثنية المعاصرة، فتقديس الأشخاص صار فى كل مجال: من سياسة إلى علوم ومن رياضة إلى فنون،
غلو تجاوز الحد حتى صنع وثناً بداخل الإنسان نفسه.
نعم .. وثن مقدس.
ربما يكون شخصًا أو هيئةً أو نادياً أو مكاناً أو غير ذلك.
يفرض الشخص على نفسه أقواماً ينصبهم كالآلهة لا يُجوِّز نقدهم ولا المساس بهم وكأنهم منطقة عسكرية محظورة مرفوع عليها: ممنوع الاقتراب أو التصوير.
هذا المرض الذى استشرى حتى وصل إلى الدين.
فنجد بعض المنتسبين للصوفية أو السلفية او الإخوان أو غيرهم من أبناء الحركة الإسلامية أصابتهم لوثة من الوثنية.
لنكتشف أن رسالة الإسلام الحقة لم تصل أو ربما اندرست لكثير من الناس ولم يفهموها على مراد الله عزوجل.
وفي رأيي أن هدم الأصنام لم يتم إلا حين هدموها داخلهم، وأشرقت قلوبهم بنور التوحيد الكامل وفهموا أن الله أراد لهم الحرية من عبادة غيره والخروج من ظلمات الوثنية.
فلو كانوا قديماً يسجدون للصنم ويعبدونه ، فاليوم نشأت عبادة من نوع آخر لا ركوع فيها ولا سجود.
فهذه الصوفية وطرقها الكثيرة وشيوخها الأكثر تقديسًا.
ونضرب مثالاً بالطريقة التيجانية التى تُنسب لأحمد بن محمد بن مختار التيجاني
فمن مزاعمهم فيه أنه خاتم الأولياء فلا ولي بعده، وأنه الغوث الأكبر، وأن أرواح الأولياء منذ آدم إلى وقت ظهوره، لا يأتيها الفتح والعلم الرباني إلا بواسطته، وأنه وأتباعه أول من يدخلون الجنة، وأن الله أعطاه ذكراً يسمى " صلاة الفاتح " وأن هذا الذكر يعدل القرآن ستة ألف مرة وأن أتباعه يدخلون الجنة بلا عذاب ولا حساب.
مهما عملوا من المعاصي!
ويتضح هنا مدى ضلال الكلام ولا يحتاج إلى تكلف في تبيين ضلاله، وهذا كله ناتج عن تقديس التيجانى إلى أن افتروا كل هذه الافتراءات .
ولم يكن الحال عند البعض من جماعة الإخوان المسلمين أفضل منه عند الصوفية
قال كامل شافعي فى حسن البنا مؤسس الجماعة: (( لقد كنت أقبل يديه وأشعر حين تقبيلها أنني أعبد الله))
انظر (حسن البنا بأقلام تلامذته ومعاصريه) ص (156)
وقال محمد شلبي في كتابه (سن البنا إمام وقائد) ص (10): (( ويحضرني في هذا المقام قول إحدى كريماته ساعة تشييع الجنازة: يا أبت إن كانت الحكومة قد حالت دون أن يشترك أحد في تشييع جنازتك، فإني أحس أن الملائكة تشيعك معنا ))
هذا الغلو في التقديس يتخطى الحواجز ويتجاوز القنطرة
ومن الإخوان إلى السلفيين لا اختلاف يُذكر، ففرقة منهم تدعى المدخلية زعيمها: ربيع بن هادي المدخلى.
قال فيه محمد بن هادى المدخلي :
الذي يأتي إلى مكة -و ليس عنده شيء يمنعه ما يحرص على زيارة الشيخ ؟.
مغبون هو الخاسر، الشيخ ربيع ما يضره شيء، لكن هو الخاسر، و الناس كما قلت لكم (أهل السنة و الله) يستغربون منه، لأنه ما ينصرف عنه إلا مغموس، كما قلت لكم بالقيد هذا، إذا لم يكن له عذر، كعائلة لا يجد من يقوم بهم، أسرة معهم لا يجد من يقوم بها، أطفال و نحو ذلك، أو وقته قصير، أو نحو ذلك من الأعذار الصحيحة ، أما مَنْ يُقيم بمكة أسبوع و عشرة أيام و لا يستطيع الذهاب للشيخ ربيع و يقول أنه سلفي! نقول: ما الذي منعه ؟ .
ما يوجد أعذار صحيحة عنده ، ما الذي منعه ؟
إلا شيء في النّفس !.
لا شكّ و لا ريب !.
فنحن نسأل الله العافية .اهـ.
إن هذا التقديس والغلو يؤدى إلى الطاعة العمياء التى قد تخالف القرآن والسنة ، ولا عجب أن الله سمى ذلك عبادة، فعن عدي بن حاتم: ((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب، فقال لي: يا عدي بن حاتم، ألق هذا الوثن من عنقك. وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية "اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّه"ِ (التوبة: 31) قال: قلت: يا رسول الله، إنا لم نتخذهم أربابًا، قال: بلى، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه، ويحرموه عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه؟ فقلت: بلى، قال: تلك عبادتهم)) رواه الترمذي (3095)
ما أكثر الوثنيين وإن لم يمارسوا طقوسها القديمة .
ما أكثرهم وإن لم يطوفوا حول الأصنام ولم يقدموا القرابين.
ولكنهم ينغمسون فى الباطل الذى يلبس لباس الحق ويتزين زوراً بالأدلة الشرعية فينبهرون به ويظنون أنهم على شيءٍ ، وهم قد ضل سعيهم
إن هذا الفصل من الوثنية المعاصرة لابد أن ينتهي، وإن كنا لمسناه في مَنْ له إتجاه إسلامي، فكيف بمن حاد عن طريق التوحيد؟!
Comments