كل عصر له شهوده الذين عاينوا ما وقع فيه ، ورأوا الأحداث واطلعوا عليها ، وستجد صراعًا بين أطراف عدة فى كل عصر ومِصر يسعى كل منهم أن يستدل بما يخدم حقه التاريخى حتى أن كثيرين منهم يدلسون ويكذبون ويكتبون تاريخًا لم يحدث لأنهم يملكون كل وسائل الإعلام ويتحكمون فى المؤرخين ويشترونهم أو يهددونهم
والقاعدة معروفة المنتصر هو كاتب التاريخ
لكن هذا مُؤَقَّتٌ ويزول مع الزمن وشيئًا فشيئًا يتبين الحقُّ من الزَيْفِ وتنجلى الحقائق ويُكشف النقاب عن الأسرار
وفى هذه المقالة نستعرضُ شهادةَ واحد من أهل عصر الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله وقد عاين الأحداث بنفسه، وهو مؤرخٌ مصري شَهِدَ له القاصي والداني بالإنصاف والصدق والأمانة، بل هو شيخ المؤرخين المصريين الشيخ "عبد الرحمن الجبرتي".
مصرىٌ فى جبهة مَنْ حاربوا الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله يشهد ، ويُؤرِّخ لما حدث ويُدَوِنه للتاريخ ، ومن هنا تأتى قوة كلامه ووزن شهادته وقيمتها
حيث عرض في تاريخه المسمى بـ"عجائب الآثار" لبعض الأمور والأخبار التي تخص دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب، وما كان عليه خصومه، لهذا سيقتصر دورى على نقل بعض النصوص التي وردت في تاريخ الجبرتي، والتي تعرض فيها لدعوة الشيخ ابن عبد الوهاب، والمجال متروك بعدها للقارئ الكريم ليحكم على الأمر بنفسه.
دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب في تاريخ الجبرتي:
* ففي ذكره لأحداث سنة 1232هـ، يقول الجبرتي: "منها انقطاع الحج الشامي والمصري؛ معتلين بمنع الوهابي الناس عن الحج؛ والحال ليس كذلك، فإنه لم يمنع أحدًا يأتي الحج على الطريقة المشروعة، وإنما يمنع من يأتي بخلاف ذلك من البدع، التي لا يجيزها الشرع؛ مثل المحمل، والطبل والزمر، وحمل الأسلحة، وقد وصل طائفة من حجاج المغاربة، وحجُّوا، ورجعوا في هذا العام، وما قبله، ولم يتعرض لهم أحدٌ بشيء".
وقال في موضع آخر: "ورد الخبر بأن رَكْبَ الحَاجِّ الشامي رجع من منزلة هدية، ولم يحج في هذا العام، وذلك أنه لما وصل إلى المنزلة المذكورة أرسل الوهابي إلى عبد الله باشا أمير الحَاجِّ يقول له: لا تأتِ إلا على الشرط الذي شرطناه عليك في العام الماضي، وهو أن يأتي بدون المحمل، وما يصحبهم من الطبل، والزمر، والأسلحة، وكل ما كان مخالفًا للشرع، فلما سمعوا ذلك رجعوا من غير حج ولم يتركوا مناكيرهم"
فقد أشاعوا عن الشيخ ابن عبد الوهاب أنه يمنع الناس عن حج بيت الله الحرام، لكن إنصاف الجبرتي كشف كذبهم، وأبان حقيقة الأمر، فأقر الجبرتي ما قام به الشيخ ابن عبد الوهاب، معللًا ذلك بأن طريقة الحجاج آنذاك كانت طريقة بدعية، لهذا منعوا، أو منعوا أنفسهم حتى لا يقلعوا عن بدعهم.
* وعن الطريقة التي تعاملت بها دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب في إبطال البدع، يقول في أحداث سنة 1218هـ: "وفي يوم الأحد، حضر الشريف عبد الله بن سرور، وصحبته بعض أقاربه من شرفاء مكة، وأتباعهم نحو ستين نفراً، وأخبروا أنهم خرجوا من مكة مع الحجاج، وأن عبد العزيز بن مسعود الوهابي دخل إلى مكة من غير حرب، وولى الشريف عبد المعين أميراً على مكة، والشيخ عقلياً قاضياً، وأنه هدم قبة زمزم والقباب التي حول الكعبة، والأبنية التي أعلى من الكعبة، وذلك بعد أن عقد مجلساً بالحرم، وباحثهم على ما الناس عليهم من البدع والمحرمات المخالفة للكتاب والسنة".
* وقد ادَّعَى الخصوم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أتى بمنكرات كثيرة وكبائر ومنها استيلائه على أموال كانت مدخرة بالحجرة الشريفة، وفي هذا يقول الجبرتي: "ويذكرون أن الوهابي استولى على ما كان بالحجرة الشريفة من الذخائر والجواهر، ونقلها وأخذها، فيرون أن أخذه لذلك من الكبائر العظام، وهذه الأشياء أرسلها ووضعها خساف العقول من الأغنياء، والملوك، والسلاطين الأعاجم، وغيرهم؛ إما حرصاً على الدنيا، وكراهة أن يأخذها من يأتي بعدهم، أو لنوائب الزمان، فتكون مدخرة ومحفوظة لوقت الاحتياج إليها، فيُستعان بها على الجهاد، ودفع الأعداء، فلما تقادمت عليها الأزمنة، وتوالت عليها السنين والأعوام الكثيرة، وهي في الزيادة، فارتدت معنى لا حقيقة، وارتسم في الأذهان حرمة تناولها، وأنها صارت مالاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أخذها، ولا إنفاقها، والنبي عليه الصلاة والسلام مُنَزَّهٌ عن ذلك، ولم يدخر شيئاً من عَرَضِ الدنيا في حياته، وقد أعطاه الله الشرف الأعلى، وهو الدعوة إلى الله تعالى والنبوة والكتاب، واختار أن يكون عبداً، ولم يختر أن يكون نبياً ملكاً".
واستطرد الجبرتي في كلامه ردًا على من يدعي أن هذا المال من مدخرات النبي صلى الله عليه وسلم وأن إنفاقه كبيرة من الكبائر، وفي كلام الجبرتي تبرئةٌ لدعوة الشيخ ابن عبد الوهاب، وإقرار له على ما قام به.
وهذه النقول تدل على أن دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب كانت دعوة تصحيحية، لكنها ظُلِمَت بما أُشيعَ عليها من أخبار مكذوبة وادعاءات باطلة.
ولما قرأ الجبرتي بعض المنشورات الوهابية التي أحضرها الحُجَّاج من البلاد الحجازية، أثبت المنشور بطوله في كتابه، وفيه دعوة خالصة إلى التوحيد والسنة، ونبذ الشرك والبدعة مدعمة بأدلة الكتاب والسنة، وعلق الجبرتي ـ رحمه الله تعالى ـ قائلًا: "أقول: إن كان الحال كذلك، فهذا ما ندين الله به نحن أيضًا، وهو خُلاصة لُباب التوحيد، وما علينا من المارقين والمتعصبين، وقد بسط الكلام في ذلك ابن القيم في كتابه (إغاثـة اللهـفان)، والحافـظ المقـريـزي فـي (تجريد التوحيد)، والإمام اليوسي في (شرح الكبرى)، و(شرح الحِكَم) لابن عباد، وكتاب (جمع الفضائل وقمع الرذائل)، وكتاب (مصايد الشيطان)، وغير ذلك" أ.هـ.
وكلفت هذه الكتابات الجبرتى ثمنًا غاليًا
وكانت هذه الشهادة تساوى حياة ولده ثم حياته
يقول الأستاذ محمد جلال كشك: "أستطيع أن أجزم بأن كتابات الجبرتي عن القضية الوهابية هي السبب الأساسي لما نزل به من تنكيل الباشا (محمد على) إلى حد اغتيال ابنه، وتوقفه عن الكتابة، ثم نهايته الغامضة " [1]
. وقال الشيخ أحمد بن عبد العزيز الحصيِّن: "وبلغ حقدهم الدفين على هذه الدعوة المباركة حتى وصل الأمر إلى قتل ابن المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي وهو ممن يتحمسون لهذه الدعوة، بإيعاز من محمد علي حاكم مصر الذي حارب هو وأبناؤه الدعوة انتقامًا من أبيه لتعاطفه مع الوهابيين" [2]
وقال الزركلي في ترجمة الجبرتي: "وقُتل له ولد، فبكاه كثيرًا حتى ذهب بصره، ولم يَطُلْ عماه، فقد عاجلته وفاته مخنوقًا" [3]
ف رَحِمَ الله فخرَ المؤرخين المصريين وغفر له وتجاوز عن سيئاته وجزاه خير الجزاء على هذه الشهادة وجعلها فى ميزان حسناته يومَ لا ينفع مال ولا بنون إلا مَنْ أتى الله بقلب سليم
---------------------------
[1] (السعوديون والحل الإسلامي) ص (176).
[2] انظر: (الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبـد الوهاب) ج 2 للدكتور عبد الرحمن عميرة (أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب) ص (6).
[3] (الأعلام) ص (3/304).
تعليقات