لما كان للحكم الإسلامي قواعد أهمها أن يقوم المجتمع على العدل والمساواة، ومحاربة الظلم والطبقية بكلأشكالها وأسبابها، فقد عاش الفاروق عمر رضي الله عنه إماما عادلا لم يعرف الزمان من بعده له مثيل، ولما مات رضي الله عنه لم يعثر الناس في أمتعته على وثيقة مخطوطة ولا أوراق مكتوبة تبين معالم المنهج العمري في العدل، ولم يبح أولاده من بعده بسر خفي على الناس في منهجية العدل العمرية، اللهم إلا بعض فقرات مدونة في خطاباته إلى الولاة والعمال الذي استعملهم على الدول والممالك في زمانه.
لقد كان العدل الذي مارسه الفاروق رضي الله عنه هو التطبيق العملي للقرآن الذي انفتح قلبه لآيات منه فأسلم لما تلاها (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)، وللسُنة التي أحسن اتباعها طاعة لله ولرسوله الله (ﷺ)، واستنباطا عمليا من حياة واقعية عاشها مع رسول الله (ﷺ)، ولم يكن منةً منه ولا تفضلا ولا تنفلا، بل عَلِم رضي الله عنه بأنه محض فرض من الله عليه فأتقن فيه أداءه.
اقتباسات عُمرية
"أيها الناس إنما تكون شدتي على أهل الظلم والتعدي، ولست أدع أحدا يَظلِم أحدا أو يَتعدَى عليه حتى أضع خده على الأرض وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يُذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك أضع خدي لأهل العفاف وأهل الكفاف"
"لكم علي أيها الناس ألا أجتبي شيئا من خراجكم ولا مما أفاء الله به عليكم إلا في وجهه، وإذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم علي أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى، وأسد ثغوركم، ولا أُلقِيكم في المهالك، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا، فاتقوا الله وأعينوني"
"ألا وأشبعوا الناس في بيوتهم، وأطعموا عيالهم، فإن تجفيتكم الناس لا يحسن أخلاقهم، ولا يشبع جائعهم"
على من تقع مسئولية العدل؟
في زماننا باتت مسئولية بناء الأوطان، وتشييد النهضة، وإعلاء الراية، منصباً على الشعوب المقهورة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وبات دور الحاكم أن يُنعم في قصره، ويُسبح بحمده، ويُتغنى بجمال ملامحه، ورقة طبعه، وجمال ملابسه، وحتى فشل الحاكم وسوء إداراته وظلمه تتحمل أسبابه وتبعاته الشعوب، فإن فشل فبسبب الزيادة السكانية والجهل المتوارث من قبل مجيئه، وإن ظلم فبذنوبهم وسوء حالهم مع الله، ولو كانوا على خير لكان الحاكم خيرا مما يريدون، وكل ذلك محض ظلم وكذب.
أما في القانون العُمري فمسئولية العدل، وتوفير الحياة الطيبة للناس مهمة الحاكم، من أجلها جاء يحكم، و أمام الرعية عليها يُحاسب، وعند الله عنها يُسأل، ولقد كان يؤكد على عماله وولاته في خطاباته إليهم فيكتب لهم "إن الناس لم يزالوا مستقيمين ما استقامت لهم أئمتهم، والرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى إلى الله فإذا رتع الإمام رتعوا".
وسائل تطبيق منهجية عمر
المتعمق في قراءة فترة الخلافة العمرية يلمح لتطبيق منهجية العدل العُمرية مجموعة من الوسائل التي تم تطبيقها ومنها:-
- أن يعيش الحاكم حياة العامة
"كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما مسهم" كان هذا هو شعاره ، فلم يكن عمر جاهلا بأثمن اللباس ولا بأطايب الطعام وإنما كان يخاف أن يلبسها أو يأكلها في الوقت الذي ربما يُحرم منها مسلم من رعية عمر، فقد رُوي أنه جلس يأكل وفي حضرته حفص بن العاص فقال عمر ما يمنعك أن تأكل من طعامنا؟ فقال يا أمير المؤمنين إنه لجشب غليظ، وإني راجع إلى طعام لين شهي قد صنع لي فأصيب منه، فقال الفاروق أتراني عاجزا أن آمر بشاة تذبح ويلقى عنها شعرها، وبدقيق ينخل فيخبز رقاقا، وآمر بصاع من زبيب في سعن فيُصب عليه الماء فيصبح كدم الغزال، فتعجب منه حفص، وقال: أراك عالما بطيب الطعام، فقال: أجل، والذي نفسي بيده لولا أن تنتقض حسناتي لشاركتكم في لين العيش.
ولقد كان من فرط عدله لا يعيش هذا الحال وحده، وإنما أجبر عليه أهله، وتوعد بمضاعفة العذاب لمن خالف ما أمر به منهم "إني قد نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هِبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجلٍ منكم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العذاب لمكانه مني، فمن شاء منكم فليتقدَّم، ومن شاء فليتأخَّر".
وخرج رضى الله عنه ذاتَ مَرَّة إلى السوق، فرأى إبلاً سمنًا تميزت عن الإبل، فسأل: إبل مَن هذه؟ فقالوا: إبل لعبدالله بن عمر، فغضب، وأرسل في طلبه، وسأله عن الإبل، فقال عبدالله (رضي الله عنهما): إنها إبل هزيلة اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى الحِمى لأرعاها، فقال له عمر: ويقول الناس حين يرونها: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين واسقوها، وهكذا تسمن إبلك، ويربو ربْحك يا ابن أمير المؤمنين، يا عبدالله، خذ رأس مالك الذي دفعته في هذه الإبل، واجعل الربحَ في بيت مال المسلمين.
ولما ضربت المجاعة البلاد لشهور في زمانه كانت مقولته الشهيرة يوم سمع صوت أمعاءه الخاوية من الجوع (قرقر أيها البطن، أو لا تقرقر، فو الله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين)
- توزيع المال على الناس
كان توزيع المال على المسلمين من وسائل منهجية العدل التي طبقها عمر، فهو يؤمن ويعتقد بأن المال لله والبلاد بلاد الله والخلق خلقه، ومن أخذ حقوق خلقه بغير حق فقد حاربه وأغضبه، فكان يوزع بين الناس المال والثروة عن طيب نفس وشعور بالمسئولية، ليس بدافع الإحسان والتفضل، وإنما بدافع الإيمان بالله وإقامة ما افترضه الله عليه من العدل في الناس، ولقد كان رضي الله عنه يقول "والذي نفس عمر بيده ما من أحد إلا له في هذا المال حق، وما من أحد أحق به من أحد، إنما هو مالهم وفيؤهم الذي أفاء الله به عليهم، وليس لعمر ولا لأحد من آل عمر"
وعلى هذا قرر عمر أن يضمن للناس في زمانه الحد الأدنى الذي يوفر لهم حياة كريمة تطيب بها نفوسهم، ثم يزيد هذا الحد حسب قرابتهم من النبي وقدمهم في الإسلام وبلاءهم فيه، وحسب غناءهم وحاجتهم، ثم شرع رضي الله عنه قسمة للمواليد كانت تبدأ عند الفطام، ثم ما لبث أن جعلها تبدأ يوم ميلاد الطفل بقيمة مائة درهم تزيد لمائتين عندما يصبح فتى، فإن كبر زادت قسمته من مال المسلمين الذي أفاء الله به عليهم، ولم يقتصر هذا على الطفل الشرعي الذي له أبوان يرعيانه، وإنما امتد ليشمل حتى اللقيط الذي لا يعرف الناس له أبا ولا أما، ويُصرف نصيبه لمن تولى رعايته وتربيته.
ولقد اقترح أحد الناس يوما على عمر أن يمنع عطاء الطفل حتى يأكل فليس للطفل في وقت الرضاع حاجة للمال، فرفض رضي الله عنه خاصة لما علم أن الناس يسرعون في فطام أولادهم ابتغاء أخذ نفقاتهم من بيت مال المسلمين، فحزن مما فعله الناس دون علمه، ورد عليهم النفقة من يوم الميلاد، وقال للذي اقترح عليه ذلك: لم يكن هذا المال مال آل الخطاب حتى أمنعه عنهم، إنه والله مالهم، وإني لأسعد بعطائه لهم أكثر مما أسعد بأخذه منهم، ثم إنه زائد عن النفقات، وإني لأخشى أن يبتليكم الله من بعدي بحاكم لا يرى المال عطاء وحقا من حقوق الناس، فيشتري الناس اليوم من هذا ما يكون لورثتهم من بعدهم يتكئون عليه حينها.
- العسس
هذا النظام استحدثه عمر رضي الله عنه في فترة خلافته، ليحقق به الأمن الداخلي للدولة، حتى لا يشغله متابعة أخبار الجيوش والفتوحات في الخارج عن حفظ أمن الدولة من الداخل، ولم يقتصر العسس على الجهاز الذي أنشأه عمر، وإنما كانت تلك مهمة عمر في الليل ليطمئن على رعيته التي سيحاسب عنها أمام الله، وكم من الحكايات سردت في ذلك فمن امرأة سمعها تشكوا غياب زوجها، لإمرأة تغش اللبن بالماء، وغيرها من القصص ، أما التي تعنينا هنا فهي ما جاء عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب حتى إذا كنا بصرار إذا نار، فقال، يا اسلم إني لأرى ها هنا ركبا قصر بهم الليل والبرد، انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم فإذا بامرأة معها صبيان صغار وقدر منصوبة على نار، وصبيتها يبكون، فقال عمر: السلام عليكم، فقالت: وعليك السلام فقال: أدنو؟، فقالت: ادنو بخير أو دع، فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟، قالت: الجوع، قال: فأي شيء في هذه القدر؟، قالت: ما أسكتهم به حتى يناموا والله بيننا وبين عمر، فقال: أي رحمك الله وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا، قال: فأقبل علي فقال انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق فأخرج عدلا من دقيق وكبة من شحم فقال احمله علي، فقلت أنا أحمله عنك، قال أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك؟!! فحملته عليه فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئا فجعل يقول لها ذري علي وأنا احرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر ثم أنزلها، فقال: أبغيني شيئا فأتته بصحفة فأفرغها فيها، ثم جعل يقول لها أطعميهم وأنا أسطح لهم، فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك، وقام وقمت معه، فجعلت تقول جزاك الله خيرا كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول قولي خيرا إذا جئت أمير المؤمنين وحدثيني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها ثم استقبلها فربض مربضا لا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدأوا، فقال يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت.
- زيارة الأقاليم
لم يكن عمر بهذا الإيمان العميق ليكتف من أمر رعيته بسماع أخبار أقاليم الدولة مما يرسله إليه عماله وولاته عليها فقط، فلقد شرع رضي الله في أن يتابع الوضع ميدانيا، ويرى الحقيقة بعينه، فقرر أن يزور أقاليم دولة الإسلام الستة ليطمئن بنفسه على أحوال أهلها، وأحوال الولاة معهم ليتعرف على الواقع من خلال متابعة مباشرة مفاجئة لتلك الأقاليم، ولربما هذا الأسلوب الإداري من أنجح الأساليب في متابعة الدول ورفع واقعها والتعرف على أحوالها ومشكلاتها وسبل مواجهتها، ولم يكن عمر يرى في هذا الجهد الذي سيستغرق منه عاما كاملا تعبا ولا غربة بل كان يَعُده خير أعوام عمره، فقد أورد الطبري عن تاريخه عن الحسن عن عمر الفاروق رضي الله عنه قال: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا، فإني أعلم أن للناس حوائج تُقطع دوني، أما عمالهم فلا يرفعونها إلي، وأما هم فلا يصلون إلي، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى مصر فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، والله لنعم الحول هذا.
- يوم المحاسبة
موسم الحج هو الموسم الرباني الذي يجتمع فيه المسلمون كل عام يؤدون فريضة ربهم، ليجددوا إيمان قلوبهم، وقد اغتنم عمر رضي الله فرصة اجتماع الناس، وجعل من موسم الحج موسم محاسبة للولاة والمسئولين عن المسلمين في الأقاليم المختلفة للدولة الإسلامية، وفتح مجال الاتصال المباشر بينه وبين الرعية في حضور الولاة، وأمام هذا الحشد الهائل من المسلمين وقف الفاروق رضي الله عنه ينادي في الناس قائلاً: "أيها الناس أما والله إني لا أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، وإني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، وأن يقسموا فيهم فيئهم، وأن يعدلوا، فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إلي، فمن فُعل به سوى ذلك فليرفعه إلي، ووالذي نفسي بيده لأقصنه منه".
بهذه الكلمات الواضحة المحددة بيَّن عمر مهام الوالي وحق الرعية عليه، وبيَّن للناس مالهم عن الولاة وما يجب أن يساءلونهم عليه وما يشكونهم فيه إن قصروا، وقد كان الفاروق رضي الله عنه لا يجيز لأحدٍ من ولاته ولا عماله أن يمارس عملا أو تجارة وقت ولايته، وكان يحصي عليهم ما يملكون قبل أن يوليهم ويحاسبهم على كل ما زاد عليه بعدما يعفيهم من الولاية، فإن كانت الزيادة عن الحد المعقول أخذ منهم ما زاد ووضعه في بيت المال وترك لهم ما كانوا يملكون.
الكلام كثير عن محور العدل في حياة الفاروق رضي الله عنه، فالرجل قد قدم للدنيا مثلا قلما جاد الزمان بمثله، فلقد كان يملك قلبا ألين من الزبد على عامة المسلمين وكل فقير مسكين مستضعف، وكان نفس القلب أقسى من الحجر على كل ظالم مستكبر، ولقد أقام الحجة على من بعده ممن تولوا أمور المسلمين ثم أدوا أو قصروا، وعلم الدنيا منهجية للعدل يصلح بها العباد، وتنهض بها البلاد، ويستطيع المريد أن يطبقها إن شاء
رحم الله الفاروق عمر، وأخلف الله المسلمين خيرا، وجمعنا به في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر
المراجع
- مناقب امير المؤمنين عمر بن الخطاب - ابن الجوزي
- سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – د علي الصلابي
- مسلمون ثوار – د محمد عمارة
تعليقات