ليس غريباً أن يعيد التاريخ نفسه فالسنن الربانية ثابتة لا تتبدل، لكن الغريب أن نتعامل مع الوقائع المكررة بنفس الخطأ، ولا نستحضر في كل مرة أسباب المشكلة.
فى يوم السبت 16 ربيع الأول 1440هـ الموافق 24 نوفمبر 2018م صَدَّقَ مجلس الوزراء فى تونس خلال اجتماعه برئاسة الباجى قايد السبسى على مسودة قانون الأحوال الشخصية الذي يتضمن أحكاما بالمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة ، وغيرها من الأمور التى تضاد شريعة رب العالمين ، وتخالفه.
والمحور الذي يدور حوله هو حقوق المرأة وحريتها، يذكرنا نفس الموقف بحرب عبد الناصر على الشريعة الإسلامية وكانت حجته أن الإخوان يريدون أن يحدوا من حرية المرأة (ويلبسوهم طرح).
ولكن السبسي أكثر صراحة من عبد الناصر فقد قال في تصريحات متلفزة: إن "تونس دولة مدنية تقوم على ثلاث ركائز أساسية وهي المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون "، ومؤكدا أن تونس دولة عالمانية ليس له علاقة بالقرآن.
ودارت رحى المعركة حول تبديل ما تبقى من الشريعة، ليتم الإجهاز عليها تماما، لكن الفارق هذه المرة بينه وبين عبد الناصر أن جماعة الإخوان لا حول لها ولا قوة ومَنْ تمسَّح بها منهجاً كالغنوشي لا يمانع أن يكون للشواذ حقوق ولا يسمع له صوت في انكار تنحية الشريعة من قانون المواريث.
أما الفارق الثاني والذي يحضر على الساحة بقوة هو سيد قطب رحمة الله عليه.
والذي كان مِنْ أوائل مَنْ عرف هذه القوانين وأدرك خطورتها على الإسلام وحذر منها ونشر حكمها .
وبيَّن حكم القوانين الوضعية وحكم هذه الأنظمة المعادية لشريعة رب العالمين بل وأفرد تحكيم الشريعة بتوحيد الحاكمية.
قطب والحاكمية
يقول سيد قطب رحمة الله عليه: فى كتابه (نحو مجتمع إسلامى) : "إن الحاكمية في هذا النظام الرباني الفريد لله وحده، فلا حاكمية لأمير ولا رعية، فالله وحده هو المشرع ابتداء، وعمل البشر هو تطبيق التشريع الإلهي، وتنفيذه - وهم حتى فيما يجمعون عليه مما لم يرد فيه نص، يظلون مطبقين للمبادئ الإسلامية، لا مبدعين ولا مضيفين مبدأ جديد لا أصل له في الشريعة - وهم في الأحكام التطبيقية والتنفيذية محكومون بالمبادئ الأساسية التي جاءت بها الشريعة، غير مخيرين في العدول عنها، أي اختيار بعضها دون بعض، أو في تعديلها وتحويرها: { وأن أحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } [المائدة: 9] { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [المائدة:44] { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً، أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } [الأحزاب: 36] أ.هـ.
ويقول في ظلال القرآن ... هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي؛ والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها .
فعن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة . فلا يكون إنسان عبداً إلا لله ، ولا يتجه بالعبادة إلا لله ، ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله ، وما يأمره الله به من الطاعات . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة : الحاكمية لله وحده . فيكون الله وحده هو المشرع للعباد؛ ويجيء تشريع البشر مستمداً من شريعة الله ) البقرة/253
(...
إن وجود هذا الدين هو وجود حاكمية الله . فإذا انتفى هذا الأصل انتفى وجود هذا الدين . . وإن مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم ، لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية الله ، وتغتصب سلطانه ، وتجعل لأنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد . . وهي هي المشكلة التي كان يواجهها القرآن الكريم بهذا الحشد من المؤثرات والمقررات والبيانات ، ويربطها بقضية الألوهية والعبودية ، ويجعلها مناط الإيمان أو الكفر ، وميزان الجاهلية أو الإسلام .
إن المعركة الحقيقية التي خاضها الإسلام ليقرر « وجوده » لم تكن هي المعركة مع الإلحاد ، حتى يكون مجرد « التدين » هو ما يسعى إليه المتحمسون لهذا الدين! ولم تكن هي المعركة مع الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي - فهذه معارك تالية لمعركة « وجود » هذا الدين! . . لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإٍسلام ليقرر « وجوده » هي معركة « الحاكمية » وتقرير لمن تكون . . لذلك خاضها وهو في مكة . خاضها وهو ينشئ العقيدة ، ولا يتعرض للنظام والشريعة . خاضها ليثبت في الضمير أن الحاكمية لله وحده؛ لا يدعيها لنفسه مسلم؛ ولا يقر مدعيها على دعواه مسلم . . فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس العصبة المسلمة في مكة ، يسر الله لهم مزاولتها الواقعية في المدينة . . . فلينظر المتحمسون لهذا الدين ما هم فيه وما يجب أن يكون . بعد أن يدركوا المفهوم الحقيقي لهذا الدين!) الأنعام/136.أ.هـ
حقيقة تشويه سيد قطب
فبان للعيان السبب الحقيقى وراء حملات التشويه المتعمدة لسيد قطب، والتى قادتها المداخلة في كل بقاع العالم وهو تقريرات سيد قطب في وجوب تحكيم الشريعة.
لكن هل كان سيد قطب متفرداً في تقريراته عن معاصريه؟، وهل كلامه كان بِدَعاً من القول؟
والجواب : أبداً ؛ فقد قال بكلامه الكثير من المعاصرين وسأنقل لكم قولين لعالمين من علماء المسلمين أحدهما من مصر والآخر من الحجاز.
فأما الأول المصرى فهو الشيخ أحمد محمد شاكر الملقب بشمس الأئمة أبو الأشبال، إمام مصري من أئمة الحديث في العصر الحديث، والذي درس العلوم الإسلامية وبرع في كثير منها، فهو الفقيه والمحقق والأديب والناقد.
لكنه رحمة الله عليه برز في علم الحديث حتى انتهت إليه رئاسة أهل الحديث في عصره، كما اشتغل بالقضاء الشرعي حتى نال عضوية محكمته.
وأما الثانى فهو سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن المصلح المجدد والمجاهد في اللَّه حق جهاده الشيخ الجليل محمد بن عبد الوهاب رحم الله الجميع ، وكان الشيخ محمد بن إبراهيم يشغل رئيس الإفتاء فى عصره .
أحمد شاكر والحاكمية
وقد قال العلامة أحمد شاكر في " عمدة التفسير " (1/695 – 697) مقررا نفس تقريرات سيد قطب: " إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس ، هي كفر بواح ، لا خفاء فيه ولا مداورة ، ولا عذر لأحد ممن ينتسبون للإسلام ـ كائناً من كان ـ في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها ، فليحذر امرؤ لنفسه . وكل امرئ حسيب نفسه .
ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين ، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه ، غير موانين ولا مقصرين .
سيقول عني عبيد هذا " الياسق العصري " وناصروه ، أني جامد ، وأني رجعي ، وما إلى ذلك من الأقاويل . ألا فليقولوا ما شاؤوا ، فما عبأت يوماً ما بما يقال عني ، ولكني قلت ما يجب أن أقول " انتهى كلامه .
إذا كانت هذه واحدة من تقريرات العلامة أحمد شاكر فلماذا لم يتم تشويهه كسيد قطب، بل على النقيض فالكثير من المداخلة إن لم يكن الجميع يُعظمونه وينقلون عنه .
محمد بن إبراهيم والحاكمية
أما الشيخ محمد بن إبراهيم (رحمه الله) فله رسالة شهيرة تخص مسألة الحاكمية اسمها "تحكيم القوانين" وهي موجودة في فتاويه ، وأفردت بالطباعة سنة 1380هـ ، وهي في الدرر السنية (16/206-218 ).
وكان مما قال فى تلك الرسالة : ((" الخامس " وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه ومشاقة لله ولرسوله ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعداداً وإمداداً وارصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً ومراجع مستمدات ، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلهذه المحاكم مراجع : هي القانون الملفق من شرائع شتى وقوانين كثيرة في القانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني وغيرها من القوانين ومن مذاهب بعض المدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك .
فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة مفتوحة الأبواب والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف السنة والكتاب ، من أحكام ذلك القانون ، وتلزمهم به ، وتقرهم عليه ، وتحتمه عليهم .
فأي كفر فوق هذا الكفر ، وأي مناقضة لشهادة أن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة))؟!!.
فهو هنا لا يشترط الاعتقاد ، وإنما يكفر بسن القوانين الوضعية ، ونصب المحاكم التي تحكم بها ، لأن ذلك استحلال عملى لاريب فيه.
والسؤال يتكرر لماذا لم يتم تشويه الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله حتى أن كثيراً من المداخلة إن لم يكن الجميع يعظمونه وينقلون عنه.
وإذا كان سيد قطب لم يبتدع قولاً جديداً من عند نفسه بل قوله موافق لمشايخ كثيرين معظمين من قبل المداخلة المعادين لسيد قطب
لماذا يُشَوَّه سيد قطب
يبقى السؤال : لماذا يتم تشويهه (وحده) خاصة من المداخلة ؟!
والجواب ببساطة لأنه فعل ولم يفعلوا
هم تكلموا وشرحوا وفنَّدوا الشُبهات فى كتبهم وكلامهم وجزاهم الله خيراً على ذلك ، ولكن هو واجه الطاغوت بنفسه وتصدى له ، وتم إعدامه بسبب ذلك الإعتقاد( إن الحكم إلا لله ).
ومعلوم أن فعل رجل فى الحق خير من كلام ألف رجل
ومن غباء جمال عبد الناصر أنه أعدمه رغم توسط كثير من زعماء الدول حتى لا ينفذ الحكم بإعدام قطب، منهم العاهل السعودي الملك فيصل بن عبد العريز، ورئيس العراق عبد السلام عارف ورئيس الجزائر هوارى بومدين وآخرين ،ولكن عبد الناصر رفض .
لذلك فإن سيد قطب صار رمزاً للوقوف في وجوه الطغاة ولم يعد شخصاً عادياً لذلك هو حَىٌّ بيننا وسيظل كذلك إلى أن يشاء ربى شيئاً .
ثبات قطب أمام الطاغية
و كانت له مواقف ثبات أثناء محاكمته وكلمات خالدة تبين كيف كان يواجه هذا الطاغوت عبد الناصر وأعوانه ولا يتهرب بحجة المصلحة والمقاصد وغيرها من التبريرات السمجة.
فقد أتاه أحد الضبّاط أثناء المحاكمة وسأله عن معنى كلمة "شهيد" ، فقال : "شهيد : يعني أنّه شَهِدُ أن شريعة الله أغلى عليه من حياته" ..
وسأله أحد إخوانه : لماذا كنتَ صريحاً كل الصراحة في المحكمة التي تملك رقبتك ؟! قال الشيخ سيّد : "لأن التورية لا تجوز في العقيدة ، وليس للقائد أن يأخذ بالرّخص" ..
ولمّا سمع حكم الإعدام عليه قال : "الحمد لله ، لقد عملتُ خمسة عشر عاماً لنيل الشهادة" ..
وعندما طُلب منه الإعتذار مقابل إطلاق سراحه ، قال : "لن أعتذر عن العمل مع الله" ..
وعندما طُلب منه كتابة كلمات يسترحم عبد الناصر ، قال : "إن أصبع السّبّابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ، ليرفض أن يكتب حرفاً يُقرّ فيه حكم طاغية" ..
وقال : "لماذا أسترحم : إن سُجنت بحق فأنا أقبل حكم الحق ، وإن سُجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل" ..
وأتاه أحد الضباط قبل أن يُشنق بقليل ليكتب الشيخ سيّد بضعة كلمات فيُفرج عنه ، وكانت تلك الكلمات "كنتُ مُخطئاً وإني أعتذر" ، فابتسم الشيخ سيّد رحمه الله وقال له بهدوء عجيب "أبداً ، لن أشتري الحياة الزائلة بكذبة لن تزول" ، فقال له الضابط "ولكنه الموت يا سيّد" ، فقال الشيخ سيّد رحمه الله "يا مرحباً بالموت في سبيل الله"
قال الأستاذ أحمد رائف : قابلت سيد قطب في السجن بعد محاكمته والحكم عليه بالإعدام ، فقلت ، له : ماذا تنتظر يا أستاذ سيد ؟ فقال "انتظر القدوم علي ربي" !!
وختَم الشيخ سيّد حياته وهو في طريقه إلى حبل المشنقة بابتسامة التقطتها آلات المصوّرين لتنشرها في الجرائد والمجلات والكتب والدراسات .
وقفة مع التاريخ
ألا يعيد الغنوشي ورفاقه قراءة التاريخ، ألا يستوعبون الدرس ويدركون أن السبسي وعبد الناصر في مزبلة التاريخ أما سيد قطب ورفاقه ففي سجل الخالدين.
ألا يعلم المداخلة أن (أولى الخمر) لم يعد يصلح معهم ترقيع ولا تنفعهم طلاءات التجميل المزيفة، فهم صرحاء يريدونها علمانية لا علاقة لها بالقرآن حتى ورقة التوت الأخيرة(قوانين المواريث) سقطت وسقطت معها تبريراتكم الفاسدة.
واليوم هل عرفتم لماذا يشوهون صورة قطب لأنه فضحهم حيا وميتا وأقام عليهم الحجة العملية قبل النظرية فلله در من قال:
يـا شهيداً رفـعَ الله بـه ... جَبْهة الحقّ على طول المدى
سوف تبقى في الحنايا عَلَماً ... حادياً للرّكب رمزاً للفِدى
ما نسِينا ، أنت قد علّمتنا ... بَسْمة المؤمن في وجهِ الرَّدى
رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته.
تعليقات