بسم الله العليِّ الأعلى
روى شاهدٌ "مشفش أيِّ حاجة" - عديمُ الأهلية والنظر الأصولي مثل حالي - عن مثله عن مثله إلى منتهاه، مع كل الشذوذات الفكرية والعلل النفسية وموروث الأحقاد التاريخية، ومظاهر التعالم والتشبع بالمفقود، وما ليس له وجود إلا في أحلام اليقظة والمنام، "أن ابن تيمية مُجَسِّمٌ ضالٌّ وأنه أخطأ في كذا وكذا ..."
أولاً – لا يعنيني هنا شخص ابن تيمية من قريب ولا من بعيد، وقد يكون فيه ماذكر لكن الأصل براءتُه منه حتى يثبت باليقين لا بالشك تلبسُه به - مع كونه من علماء المسلمين بلا مرية، ومن مجتهدي المذهب الحنبلي بلا ريب، بلا غلوٍّ فيه ولا إغضاءٍ عن منزلته العالِمية الاجتهادية المعلومة - وإنما الذي يعنيني هو الفساد المنهجي الظاهر والخلل النفسيِّ الواقر، في تقييمه والحكم عليه من قبل أصاغر الطلبة ومبتدئي التفقه المعاصرين، أقول هذا قطعاً (أصاغر ومبتدئين) بالنسبة لابن تيمية وأمثاله وليس بالنسبة إليَّ، فأنا معهم في الصغر والحبو الفقهي بالنسبة لابن تيمية وأمثاله من المجتهدين، بل أظنني من أصغر الأصاغر، حقيقةً وليس تواضعاً كما قد يظنُّ بعض أصحاب الظنون الحسنة الحالمة، فأنا أعلم بنفسي !!
ثانياً - مسألة (الحكم على ابن تيمية) من مسائل الاجتهاد، التي لا يصلح ولا يقبل في التصدي لها إلا المجتهدون في علوم الشريعة، وليس كل من هبَّ ودب ممن لا يوازي في الاجتهاد شراك نعال المجتهدين من ابن تيمية وأمثاله، فلا يُتصور في المحاكمة العادلة أنه يسع عامة "التمرجية" لو اجتمعوا وكان بعضهم لبعضٍ ظهيراً أن يحكموا على خطأ الطبيب الحاذق في دقيق مسائل تخصصه، كما لا يسع بعض الطلبة المعاصرين في القرن الخامس عشر أن يُحاكموا مجتهداً كابن تيمية في القرن السابع بدون أهلية الاجتهاد ! فلا يمكن لهم الحكم وهو فرعٌ، دون امتلاكهم الأصل وهو تصوره، كما لايمكن سُكْنَى الطابق الخامس عشر في قطعة أرض فضاء إلا في مشفى العباسية !!
فإن قيل : إنما نقول بقول العلماء فيه، قلنا : وهذا ما نريده، أن يطلق قول العلماء ثم نَخْنس نحن ولا ننبس، ونلتمس لفهمها وبيان مشكلها تفسيرات قائليها في المواطن المختلفة، وتفسيرات أمثالهم من المجتهدين ممن عُنوا بأقوالهم، لأن الآفة هي من زيادات وإطلاقات وفهم الناقصين والجاهلين أمثالي ممن يفتقدون أهلية الاجتهاد ويفتقرون إلى أدوات الحكم والنظر، فتكون أقوالهم وأحكامهم في الأغلب الأعمِّ ناراً وضِراماً، أما أقوال العلماء فتكون على الحق وعلى أمثالهم برداً وسلاما، مع ضرورة التمييز بين النقد المتفق عليه منهم والمختلف فيه، وبين نقد الجماعة ونقد الفرد، وبين كلام الأقران في بعضهم وكلام من ليس بقرين، وبين القول المبني منهم على الإستنباط والقول المبني على النص، وبين الحكم المبني على لازم القول من المبني على نفس القول، وهكذا !!
ثم إن هذه المسألة ليست من مسائل العقيدة التي يلزم المسلمين معرفتها واعتقادها، والتي يُنتصب لتصديرها ولنشرها ونصرها والدفاع عنها، والموالاة والمعاداة على أساسها، و"حشرها" في كل موضوع وتسريبها في كل نقاش، كما يصنع النابتة من الأصاغر ومبتدأة التفقه، بما لا يفيد المسلمين بل يضرهم بشَغْلِهم بما لا يَشغَل !!
ثم إن هذه المسألة - بداهة - مسألة قضاء لا إفتاء، فيلزم فيها محكمة شرعية بضوابطها ومضابطها، من القاضي الشرعي والمستشارين والمدّعي والمتهم والشهود، وأهم من ذلك كله التهمة والجناية، وكلُّ ذلك مفقود لا حقيقة له إلا المدَّعون، الذين يشغلوننا عن قضايانا ومهمَّات ديننا وواقعنا بما لا ينبغي أن يُشغلَ به المسلمون أصلاً !!
وكان حسبُ الشافعي المذهب منهم أو الحنفي أو المالكي فضلا عن الحنبلي أن ينظر في مذهبه، فإن وجد في معتمده حكماً على ابن تيمية التزمه وعمل بمقتضاه وحكاه علماً لمن يحتاجُه أو سأله عنه، وإن لم يجد فيسعه السكوت وأظن ألا يسعه الخوض، وإلا قلد في نفسه مجتهداً معتبراً في مذهبه له قولٌ في تصويب ابن تيمية أو تخطأته، فيراه ويعمل به بلا تصديع لرؤوس المسلمين بغير داعٍ، ولا إفسادٍ لذات بينِهم، ولا ضجَّةٍ ولا صخب كأنه يريد أن يُرى مكانُه، أما أن يتصدى هو للحكم على ابن تيمية أو إشاعة أقوال المجتهدين فيه دونما اجتهاد أو أهلية النظر والحكم، فهذا فسادٌ ظاهر وشرٌّ مستطير لا ينبغي لمنصفٍ أن يفعله ولا لعاقلٍ أن يعتبر به !!
وكان حسبُ أحدِهم أن يتعرض للمنكر نفسه، فيحمل النكير عليه وحده - لو كان النصح للمسلمين نيته وبيان الحق بغيته - دون التعرض لأعيان المرتكبين للمنكر حيث لا فائدة منه في بيان الحق، فإن كان لابد فاعلاً قال : "ما بال أقوام .."، فكان حسبهم أن يُشدِّدُا النكير على التجسيم والمجسمة بعموم، دون أعيانهم إلا من تيقنوا ضلاله بالعلم الضروري بلا أدنى شبهة، ولكن يبدو أن قصد عين ابن تيمية بالتشنيع والنكير والتضليل هو مقصودهم لحاجةٍ في نفوسهم قضوْها، ولا ضير على ابن تيمية من تشنيعهم ومقتهم - وقد أفضى إلى ربه فهو حسبه وحسيبه - إلا كما ضارَّ الصحابةَ - عليهم الرضوان - من سبَّهم من الرافضة !!
ثمَّ إن الناظر في هذه المسألة سيجد حتماً من المجتهدين المعتبرين مؤيدين لابن تيمية وأنصاراً، وسيجد منهم خصوماً وشانئين، فعلامَ نتبني قول أحدهم على أنه الحق المحكم الصراح الذي لاينبغي أن يخالف ؟! مع أن الخلاف فيها سائغٌ كما هو معلومٌ والمنهجية فيه أن كلىْ قوليِ المختلفين عند نفسه صوابٌ يحتمل الخطأ، وأن قولَ مخالِفِه خطأٌ يحتمل الصواب، وكذا فالمنهجية فيه ألا تثريب على المخالف، فلا يُفسَّق ولا يُبدَّع ولا يضلَّل، بل يسع كليهما أن يعمل بما انتهى إليه علمُه وفهمه، فعلام التلاسنُ والتقاطع والتدابر والمِراء وشقُّ الصف وتفريق الجمع ؟!!
ثالثاً - أعوذ بالله تعالى من أن أكون عموماً، أو بهذا البيان خصوصاً، مخاصماً لسلفيٍ أو أشعريٍ ممن يلتمسون الحق فيتبعونه على هدىً وبصيرة، فضلاً عن أئمة الهدى ممن يُنسبون لهؤلاء أو أولئك، وسواءً أصابوا في اجتهادهم أو أخطأوا، إلا نابتةً من هؤلاء وأولئك كانوا ولا زالوا على طرفيْ نقيضٍ، وكلا طرفيْ قصد الأمور ذميمٌ، رغم ادعاء كلتيهما للقب أهل السنة والإسرار باحتكاره !!
فإحداهما نبتت على ادعاء الانتساب للسلفية رغم نبذهم لمذاهب الأربعة الأعلام، وحقيقتها أنها وهابية سعودية مدخلية، بريطانية في النشاة وأمريكية في طورها الأخير الحالي عياناً بياناً جهاراً نهاراً من غير سرِّ، والأخرى نبتت على الانتساب للإمام الأشعري، وحقيقتها أنها خالفت ما أثبته الأشعري في كتابه "الإبانة" من إثبات الصفات على طريقة الإمام أحمد ومن تسمَّوْا قديماً بأهل السنة أو السلف بزعم نفي نسبة الإبانة للأشعري، فقالوا بتأويلها أو تفويضها كيفاً ومعنىً، بما ينتهي في الحقيقة إلى نفيها بغرض التنزيه زعموا، فكلا النابتتين داخلها الهوى والتعصب لأقوال بعض شيوخهم وتحزبوا عليها، ولا شك أن كلتيْ النابتتين لها وعليها، وأن إحداهما ليست مُحقَّةٌ بالكامل والأخرى مبطلة بالكامل، بل الباطل والإنحراف ظاهرٌ عند كليهما، والأمر يحتاج إلى بحثٍ مستفيض ونظرٍ ثاقب، وقبل ذلك وبعده رغبةٌ صادقة ونيَّةٌ خالصة لنبذ الفرقة والتعصب، والإنابة إلى الحق وحده !!
رابعاً - لا أقصد بهذا الكلام أحداً بعينه، إلا أن تصيبَ قوتُه مبطوحاً، أو يؤذيَ شعاعُه أرمداً، فليس ذنبي ولعلهم يتقون، وأعوذ بالله تعالى أن أجاريَ العلماء ولم أبلغْ ريح أدبارهم، أو أماريَ السفهاء ولم أفعلْه شابَّاً أفأفعله وأنا مُسِنٌّ رجلي والقبر، وإنما ظننت أنني قادرٌ على قولٍ مع القائلين فقلتُه، رجاء أن يهتديَ حائرٌ أو ينجوَ ضالٌّ أو يرعوي مبطلٌ أو متجرِّئٌ !!
والله تعالى من وراء القصد .
Comments