By خالد القاضي on Wednesday, 08 September 2021
Category: مدونات عربية

مشاهد ومساخر من مسرحية عجل 30 يونيو

كم تحمل خشبة المسرح السياسي من مساخر تتوالى كخيال الظل في مشاهد ضبابية سريعة ومتلاحقة، ومع كل فصل من فصولها تضحك حتى تنقلب على قفاك من شدة القهقهة.

وأجمل هذه المسرحيات السياسية مسرحية "30 يونيو/حزيران الانقلابية"، التي جاءت في ختام الموسم الثقافي لثورة 25 يناير/كانون الثاني بعد عرضها الأخير للمسرحية المأساوية "انتخابات الرئاسة المبكرة" وعودة الفلول.

وتظل هذه المشاهد المسرحية لجبهة الخراب وأخواتها تحفر في أعماقنا نتوءاً، فتستعرضها فرادى وجماعات بين الحين والآخر وتستدعي معها تاريخاً من المشاهد العبثية.

أول هذه المشاهد: داخل المحكمة وسط ضجيج الحضور وقاضٍ منتفخ الأوداج يتوسط وجهه شارب شديد السواد مصفر الوسط من أثر السيجار، يتلو أحكام (العجل) التي تتراوح بين 7 إلى 14 سنة، والباقي يتم توزيعه لينال حظه من فترات اعتقال متباينة في سجون مصر الشامخة.

ومما يثير الضحك عندما يسأل سجين سياسي زميله المعتقل "ما الذي أتى بك إلى هنا؟"، فيرد بكل فخر "العجل"، ولو لم تكن عندك خلفية عن العجل، فأطلق لخيالك العنان لتتصور: إنه زعيم كبير لأحد التنظيمات المفتئتة على السلطة أو أحد ضحايا العنف والإرهاب من قيادات الحكومة، أو خصومة مع أحد عظماء السوق حول صفقة ما.. ختمت بهمسة في أذن رجل أمن مع ظرف "إكرامية" كانت نتيجتها ضياع الخصم.. أو.. أو..

المشهد الثاني: جموع من الناس في أوج الفتوة يتقدمهم عدة شباب يلبسون ملابس بيضاء ولحاهم كثة، وهم يكبرون تكبيرات عيد الأضحى، وخلفهم المئات من الأطفال، وقد أمسكوا بزمام "عجل" ضخم معد للأضحية، ساهم به أهل الخير في أسيوط والقرى الكبيرة، إنها طقوس جديدة مجربة، تضفي الفرح على الكبار والصغار، وتزيد ثقة المحسنين في أن ما أسهموا به سيعود بالفعل على الفقراء، مع دعاية ممزوجة بالمواعظ والملح من شباب الجماعات الإسلامية.

المشهد الثالث: سلخانات مباحث فزع الخلق التي تحركت من دوافع (الوطنية) ضد هؤلاء المخالفين للقانون، وتتوالى الدفعات من المروجين "للعجل"، بدءاً بمن ذبحه ومن موّله ومن وزعه، هؤلاء الإرهابيون الذين يهددون الأمن الوطني ويزعزعون السلام الاجتماعي.

هذه المشاهد كلها من أعماق الذاكرة في حقبة التسعينات، وفي وسط صخب لأغان وهتافات ثورية نستكمل المسرحية.

المشهد الرابع: للعجل السياسي الذي يلتف حول صورته الآلاف من الثوريين والعلمانيين الليبراليين واليساريين والإسلاميين سلفيين وغير سلفيين، وقد تلطخت أيديهم بدماء الحرس الجمهوري ورابعة والنهضة، يقدسونه ويمجدونه ويمتدحون إلماعتيه اللوذعية.

وخوارته وكلماته السمجة في كل مناسبة تملأ الآذان وجرائمه الاقتصادية والسياسية تسد الآفاق، وهم في منتهى الإعجاب حتى أشربوا في قلوبهم حب العجل.

يقول الحاكي: الغريب أنهم يتمادون ويتماهون وهم على يقين أن عجل بني إسرائيل كان ضرره معنوياً؛ لأنه يخور ولا يتكلم، ولا يملك لهم ضراً حقيقياً واقعياً ولا نفعاً حتى للسامري صانعه، قال تعالى: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً) .

ويصرخ منبهاً لهم وكأنهم سكارى: احتاج بنو إسرائيل أربعين يوماً ليعودوا لرشدهم وأربعين سنة ليخرجوا من تيههم، وكان مصير العجل الذي عبدوه من دون الله التحريق والنسف، قال تعالى: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً).

وأما من عبدوه فقد غضب الله عليهم وأذلهم (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)، اطردوا العجل وصانعه، انبذوه كما نبذ السامري، يخلو لكم وجه الثورة المشرقة.

ويتأسف باكياً: لكن مع عجل قومي المشؤوم لا مشاهدة ولا عظة، فزادت الذلة فوق الذلة علة، وعجزت أطباء السياسة والحكمة عن شعوذيات طبيب الفلاسفة.

المشهد الخامس: الحادي يحدو.. والحاكي ينادي.. والدوقة على خشبة المسرح السياسي تهرول ذهاباً وإيابا ً في محاولة للإصلاح، وأبناء الثورة السابقة في ركن المسرح يتبرأون من أبناء خدعة 30 يونيو/حزيران.

ويخرج شيخ واعظ: يذكرهم بما فعله سيدنا موسى عليه السلام الغاضب لربه لمّا آل إليه أمر قومه عند إلقائه الألواح المملوءة بالحكمة، وهو يعاتب أخاه عتاباً شديداً، ويتلو قوله تعالى: (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

والكل يفكر ويتأمل للسرد الرباني وكيف أن هارون دافع عن نفسه بالحجة والبرهان، وموسى عليه السلام تفهم موقف أخيه وقبل حجته ودعا له.

والشيخ الحاكي يوجه نظراته ويشيح بيده للجمهور: يذكرهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود أنه قال: "أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتاً وهدياً، تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟".

ويردد الشيخ: عبدوه يا رسول الله (ويبكي) عبدوه يا رسول الله، عبدوه رغم أنه شتت جمعهم، عبدوه بعد أن قتل صفوتهم وسجن فلذات أكبادهم وأفلس بلادهم وجفف نيلهم، وفرط في أرضهم فغليت أسعارهم وازداد فقرهم.

ورغم هذا ألقوا سمعهم لخوار إعلامه وسفاهة أحلامه، عبدوه وسنوات التيه والدين المتراكم ستلتصق بأجيالهم قرناً وزيادة.

المشهد السادس: قضاء "العجل" يتلو الأحكام بالإعدام على كل من عارض "عجل 30 يونيو" ويستصدر أمراً بقتل كل من ينتمي لـ"25 يناير" مع فحص ومتابعة لكل من تنشق نسيم حريتها والحضور يهتفون: عاش العجل وعاش قضاء العجل.

المشهد السابع: آلاف البنائين من الدوقة التي تلبس ثوب العسكر يشيدون حصوناً على شكل القبلة البنتاجونية في وسط الصحراء والعجل يخور بأنها "العاصمة الجديدة"، ويسارعون ببناء السجن السادس والعشرين، والكل يخور "أنه مستقبل الشباب".

وفي الخلفية امرأة تهتف وتصرخ يا ولداه.. والحاكي يقول: مسكينة ابنها ضحية الإرهاب فيرد قائل: قاتل أم مقتول، فيجيبه شحاذ يمشي هنيهة: الكل قاتل والكل مقتول.

المشهد الأخير: علم دولة صهيون يملأ الخلفية وتحته أربعة أقفاص يحيط بها سور كبير على شكل خارطة القطر المصري، وفي كل قفص علم يحمله مجموعة من الهمج، ويقف الشيخ الحاكي يقول: قسمها العجل أربع دول، ألم أحذركم من عبادته ألم أدعوكم لتكفروا به؟!

فيرد عليه واحد من القفص الأول: "العجل بريء" والكل غريق، ويتهكم عليه أحدهم في القفص الثاني: يا شيخ أنت من خربتها أنت من الإخوان.. وتطل من القفص الثالث امرأة تصيح: ابني في القفص الأول ولا أستطيع أن أراه، ويقف على القفص الرابع رجل في زي راهب يقول: خلصنا الرب من الغزاة العرب، لكن ما زالت الخطيئة حتى بعد موت "العجل".

كانت هذه المسرحية من وحي خيال واقع أليم بعد ربيع عربي تنفسنا فيه صعداء الحرية، ورسمنا فيه آمال العدل، فجثمت على صدورنا نخبة خائنة وثلة سياسية فاسدة أطاحت بأحلامنا وأفسدت أوطاننا.

وسيظل القلم يحاكي مساخر انقلاب "3 يوليو" ومسرحية "30 يونيو الانقلابية" ويبقى شعبي يتألم إثر الخيانة التي لن يصلحها الدهر أبد الآبدين "إن الله لا يصلح عمل المفسدين".