By خالد القاضي on Tuesday, 18 December 2018
Category: مدونات عربية

لحوم العلماء مسمومة... متى؟ وكيف ؟

ما إن تشرع في بيان مسألة ما مستدلا أو متسائلا أو مستنكرا على أحد المنتسبين للعلم الشرعي، إلا وتجد متصدرا لقفل كل الأبواب على الفهم والاستفسار، موجهة لك عبارة قاصمة: (لحوم العلماء مسمومة).

وعلى الجانب الآخر تجد صنف إذا ذكرت أمامهم أحد أهل العلم والمنتسبين له يفتح عليك باب من القدح والطعن مستفتحا: هذا ليس بعالم هذا كذا وكذا....

وتزداد الحيرة كلما رأيت بعض من ينتسبون للمنهج السلفي وغيرهم وهم يشكلون هذه العبارة حسب هواهم: فهذا محدث الزمان، وهذا حامل لواء الجرح والتعديل، وهذا فريد عصره، وهذا جهمي محترق، واخوانج خارجي، وتتوالى الأوصاف بغير تحقيق أو إنصاف.

فما هي حدود ومحددات هذه العبارة؟ وما هي صفة العالم الحق؟ ومن هو العالم المذموم المستباح القدح؟

تنسب هذه العبارة للحافظ (ابن عَسَاكِر) رحمه الله (499هـ- 571 هـ): ( واعْلَمْ يَا أخِي – وَفَّقَنَا اللهُ وَإيَّاكَ لِمَرْضاتِهِ ، وَجَعَلَنَا مِمَّنْ يَخْشاهُ ويَتَّقيه حَقَّ تُقَاتِهِ – أَنَّ لُحُومَ العُلَماءِ مَسْمُومَةٌ ، وَعَادةُ اللهِ في هَتْكِ أسْتَارِ مُنْتَقِصِيهِمْ مَعْلُومَةٌ ، لأنَّ الوَقِيعَةَ فِيهِمْ بِمَا هُمْ مِنْهُ بَرَاءٌ أمْرُهُ عَظِيم ، والتَّناوُلُ لأعْراضِهِم بالزُّورِ والافْتِراءِ مَرْتَعٌ وَخيمٌ ، والاختِلاقُ عَلَى من اخْتارهُ اللهُ مِنْهُم لِنَعْشِ العِلْمِ خُلُقٌ ذَمِيمٌ ).

وتعتبر من اجل تقريرات السلف التي كانت خلاصة لعدة احكام وآداب منها: (حرمة اعراض المسلمين وخاصتهم من اهل العلم – معرفة ما هو العلم ومن هم اهله وما قدرهم ؟- البعد كل البعد عن الغيبة والنميمة - سنن الله في أهل الاعتداء على اعراض المسلمين والمفترين على خاصتهم من اهل العلم-التذكير بالله وخشيته ومخافته في اعراض المسلمين) .

لكن يأبى البعض ويستخدمها في الباطل ؛ فأصبحت سيفا مسلطا على اهل الحق كما هي سيفا في وجه أهل الباطل وغدا استخدامها في ثلاثة مسالك:

الاول: من فهم هذه العبارة وعرف قدرها وانها لا تتنافى مع النقد البناء والنصيحة الخالصة وتبيان الباطل ممن لا عصمة له في باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأن خيرية هذه الامة ليس فيها مجاملة ممن تعدى ضرر منكراتهم إلى اتباعهم بغير هدى ولا بصيرة.

الثاني: من سلط لسانه دون قيد او شرط او حتى أدب في بعض الأحيان دون مراعاة لفضل أو عدل في تقرير الأحكام النهائية حتى أصبحوا مرضى بالجرح والتجريح لأهل العلم وخاصته فلم يسلم منهم كبير أو صغير حتى هم انفسهم غدوا يجرحون حتى مشايخهم التي علمتهم هذا المنهج الغير منضبط بقيد أو شرط الغير مهتد بهدى السلف

الثالث: من لم يفهم هذه العبارة أصلا ولم يعتد بها بقليل أو كثير فتخبط بأحكام متساهلة هي نوع من المغالاة في حق أشباه العلماء من الدعاة والمشايخ ، فحادوا بذلك عن أهل السنة في معرفة من هم أهل للإمامة ومن هم أهل للمذمة.

قال أبو حامد الغزالي : فمن نظر بعين الإيمان فالّذي أخبره بفضيلة العلم هو الّذي أخبره بذمّ علماء السوء ، و أنّ حالهم أشدّ من حال الجهال .

صفات العالم الرباني

وحتى لا نقع في سوء الفهم لابد من تحديد الصفات الازمة للعالم والتي من أهمها:

1-العالمون بشرع الله، والمتفقهون فيه، والعاملون بعلمهم على هدى وبصيرة، على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلف الأمة بالحكمة التي وهبهم الله إياها: وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ، والحكمة: العلم والفقه.

2-أهل الحل والعقد في الأمة، وهم أولو الأمر الذين تجب طاعتهم، كما قال غير واحد من السلف في تفسير قوله تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ. قال مجاهد: هم أولو العلم والفقه.

3-العلماء هم أهل الشورى الذين ترجع إليهم الأمة في جميع شؤونها ومصالحها .

4- أئمة الدين اصحاب الشرف والمنزلة الرفيعة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ. والإمامة في الدين تقتضي بالضرورة الإمامة في الدعوة. وما الدين إلا بالدعوة، وما الدعوة إلا بالدين.

5- أهل الذكر، والذكر بالعلم والدعوة، كما قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، أصحاب العلم صحيح، المستمد من الكتاب والسنة الصحيحة، الذين لهم عموم اطلاع على أقوال أهل العلم المعتبرين، الذين يعايشون مشكلات المجتمع ويفتون في المواقف التي تنزل بالمسلمين، ولا يكونوا بمعزل عن الحياة ، ولذا حاول الاستخراب عندما دخل بلاد المسلمين ومن بعده الأنظمة العميلة، عزل العلماء عن الأمة؛ لأنهم شعروا بخطورتهم، واليوم تلعب أجهزة الإعلام نفس الدور .

7- الموقرون للشريعة قال الشيخ العثيمين: لأن بتوقير العلماء توقر الشريعة ؛ لأنهم حاملوها ، وبإهانة العلماء تهان الشريعة ؛ لأن العلماء إذا ذلوا وسقطوا أمام أعين الناس ذلت الشريعة التي يحملونها ، ولم يبق لها قيمة عند الناس ، وصار كل إنسان يحتقرهم ويزدريهم ؛ فتضيع الشريعة .

أصناف العلماء

قال العثيمين: ( العلماء ثلاثة أقسام: عالم ملة، وعالم دولة، وعالم أمة.

أما عالم الملة : فهو الذي ينشر دين الإسلام، ويفتي بدين الإسلام عن علم، ولا يبالي بما دل عليه الشرع أوافق أهواء الناس أم لم يوافق.

وأما عالم الدولة : فهو الذي ينظر ماذا تريد الدولة فيفتي بما تريد الدولة، ولو كان في ذلك تحريف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

وأما عالم الأمة : فهو الذي ينظر ماذا يرضي الناس، إذا رأى الناس على شيء أفتى بما يرضيهم، ثم يحاول أن يحرف نصوص الكتاب والسنة من أجل موافقة أهواء الناس - الذي يحصل من بعض السفهاء ) .

مسؤولية العلماء

لكن المتأمل لما سبق يجد أن العلم له مسؤولية كبرى مستلزمة إحياء الأمة والقيام بالامتثال والا فوعيد شديد، كما ورد عن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم قال: ( القضاة ثلاثةٌ: واحدٌ في الجنّة، واثنان في النار، فأمّا الّذي في الجنّة فرجلٌ عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجلٌ قضى للناس على جهلٍ فهو في النار).

و هذا نص بين في أنّ العلماء الذين يقضون بين الناس أقسام، واحد منها في الجنّة و اثنان في النّار ، و الّذين هم في النّار لا يُقال عن لحومهم أنّها مسمومة .

فعن رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أنه قال : ( إنّما أخاف على أمّتي الأئمّة المضلّين )، قال العلامة عبد الرحمن آل الشيخ : أتى بإنّما الّتي قد تأتي للحصر بيانا لشدّة خوفه على أمّته من أئمّة الضلال .

و روى مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال" : يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، و لا يستنون بسنتي ، و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ".

فهم السلف لصفة العلماء

ولهذا جاء عن السلف عبارات توضح مدى فهمهم الواضح لمن هو العالم الذي (لحمه مسموم) ومن هو الواجب التحذير منه وخصوا علماء السلاطين الأفاكين في زمن علت فيه الشريعة فما بالك في ظل الأنظمة العلمانية.

فقد روى الآجري عن إبن مسعود رضي الله عنه أنّه قال : لو أنّ أهل العلم صانوا العلم و وضعوه عند أهله سادوا به أهل زمانهم ، و لكنّهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا من دنياهم فهانوا على أهلها .

و قيل للأعمش : يا أبا محمد ، قد أحييت العلم بكثرة من يأخذه عنك . فقال : لا تعجبوا فإنّ ثلثا منهم يموتون قبل أن يدركوا، و ثلثا يلزمون السلطان فهم شرّ من الموتى، و من الثلث الثالث قليل من يفلح .

وعن عطاء الخراساني أنّه قال: كان العلماء قبلنا استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى دنياهم فكان أهل الدنيا يبذلون لهم دنياهم رغبةً في علمهم، فأصبح أهل العلم منّا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في دنياهم فأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لمّا رأوا من سوء موضعه عندهم، فإيّاك وأبواب السلاطين فإنّ عند أبوابهم فتنا كمبارك الإبل لا تصيب من دنياهم شيئا إلاّ أصابوا من دينك مثله.