تحرير خالد القاضي على الأحد، 04 تشرين2/نوفمبر 2018
فئة: مدونات عربية

حكم الزمان من ذكر مصر في القرآن

لا يكاد يمر عليك ذكر مصر في القرآن إلا وتقف عنده تتأمل حكمة هذا الكم البياني، الذي يتراوح بين التصريح بها خمس مرات وخمس وعشرين مرة بالإشارة. ولكن ما العبرة من تكرار ذكرها بهذا الشكل؟ وما الحكمة في هذا التنوع؟ هل هو كما يذهب بعض الظاهرية السذج من أن مصر ممدوحة بذكرها مستعلية بتكرارها؟ ودون النظر للسطحية التي انتقلت لبعض الباحثين واستخدمت كخطاب إعلامي تدجيني سياسي وصل إلى نزعة من التعالي والعنصرية في بعض الأحيان. وأثرت هذه التقريرات-على ما فيها من تحريف في الفهم- فأصبحت من المسلمات عند الجماهير، وزاد الأمر إشكالية بتوارد أحاديث شائعة منسوبة إلى السنة دون بحث في سندها أو الحكمة منها. وأصبحت مسلمة "مصر مذكورة في القرآن" أنها لا تدور عليها الدوائر، ولا يضرها المفسدون. بل أرباب الضلال أنفسهم يروجون لهذه المسلمة (مصر المحروسة)، حتى لا ينكر عليهم منكر ما أصابها على أيديهم.

ولو تأملنا مواضع ذكر مصر في القرآن على سبيل المثال لا الحصر، نجد أن كل موضع وراءه حكمة. الموضع الأول: لا أمان إلا بعد تمكن الإيمان، وهذه لا شك أنها مسلمة، فإذا ضاع الإيمان فلا أمان، فقول الله تعالى "ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ"، جاء بعد أن مكن الله ليوسف عليه السلام قبلها "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" قال الطبري: وهكذا وطَّأنا ليوسف. يتخذ من أرض مصر منـزلا حيث يشاء، بعد الحبس والضيق.. فمكنا له في الأرض بعد العبودة والإسار، فلا يمكن بأي حال وجود الأمان في ظل الخيانة والفساد وتنحية المحسنين والتمكين للمخربين.

 

لذا لما آل الأمر لفرعون ومحاربته للمؤمنين، كانت وصية سيدنا يوسف عليه السلام بخروج جسده من مصر، ولو كانت مصر محمودة بلا حكمه ما أوصى بذلك، ففيصحيح بن حبان: أن موسى لما سار ببني إسرائيل من مصر، ضلوا الطريق، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم نحن نحدثك: إن يوسف لما حضره الموت أخذ علينا موثقا من الله أن لا يخرج من مصر حتى ننقل عظامه معنا، قــال: فمن يعلم موضع قبره؟ قالوا..عجوز من بني إسرائيل، فبعث إليها، فأتته، فانطلقت بهم إلى (مكانه) واستخرجوا عظام يوسف (جثمانه)، فلما أقلوها إلى الأرض، إذ الطريق مثل ضوء النهار.

ومن الحكم في ذكر مصر في القرآن: التنبيه على ضرورة الحفاظ على ثروات البلاد لأنها أمانة في عنق الحكام وليست إرثا مستباحا، حتى إن فرعون على تجبره حافظ على ثرواتها، ولم يهربها للخارج أو يبددها في مشاريع وهمية ولهذا قال تعالى: "كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ، وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ"، والحقيقة أن مصر فيها الخير الكثير وموارد تكفي الأرض فهي فعلا "خزائن الأرض" ولا تعاني من الديون أو الجوع ولاتلوثت أرضها وطعامهما إلا عندما ينحى "القوي الأمين" ويمكن "الضعيف الخائن". 

ومن الحكم القرآنية في ذكر مصر في القرآن، التحذير من ثمانية نماذج للفساد مهلكه للدول: الحاكم المفسد وحاشيته ووزراؤه وقضاته وشعبه المستخف ورأس المال المستبد والإعلام المضلل وقمع المعارضين وسجنهم ظلما.

وأول هذه النماذج فرعون (حاكم مصر) فقد ورد ذكره 67 مرة في 27 سورة من القرآن كلها في مقام الذم، فهو المُفسد المسيطر على مقدرات البلاد المتجبر بجنوده المفرق لجموع الشعب والقاتل المستذل لرجالهم ونسائهم "إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ". فكل من عارضه اتهمه بأنه مخرب متآمر يريد الشر للبلاد، فيعذبه ويقتله "إِنّ هَـَذَا لَمَكْرٌ مّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا"، "فَلاُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ وَلَتَعْلَمُنّ أَيّنَآ أَشَدّ عَذَاباً وَأَبْقَىَ".

وثاني هذه النماذج جنود فرعون مصر، فهم إمعة فرعون وسيفه المسلط على رقاب أهلها، لهذا كانت عاقبتهم أن الله أغرقهم أجمعين "فَلَمّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ، فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لّلاَخِرِينَ"

وثالث هذه النماذج شعب مصر في القرآن الذي طاوع فرعون على غير تعقل فاستخفهم ونشرفيهم الفساد "فَاسْتَخَفّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ"، وفي تفسير قوله تعالى "سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ" قال البغوي: أَرَادَ دَارَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَهِيَ مِصْرُ وقال القرطبي: أراد بها مصر، أي سأريكم ديار القبط ومساكن فرعون خالية عنهم.

ورابع هذه النماذج التي حذرنا منها القرآن "هامان" الوزير المفوض ومن على شاكلته في السلطه فقد ذكر ست مرات كسبب من أسباب تجبر فرعون "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ"

وخامس النماذج المذكورة بمصر على وجه التحذير رأس المال المستبد المتكبر البعيد عن هدى الله "قارون" والذي ذكر في القرآن أربع مرات ، رغم أنه كان من أتباع موسى فبغى عليهم فأهلكه الله "فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ" ليكون عبره لكل رأس مالي مفسد.

وسادس النماذج المذكورة في مصر للتحذير من سبيلها: القضاء الفاسد الذي حكم بالسجن ظلما على نبي الله يوسف عليه السلام استجابة لدياثة عزيز مصر وتآمر الطبقة الحاكمة الفاسدة "ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ".

 

أما نموذج القهر والتعذيب السابع الأوضح في القرآن هو ذكر السجن والتهديد به للمعارضين المصلحين عشر مرات تسع منها في سورة يوسف و موضع في سورة الشعراء عندما قال فرعون لموسي: "قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ" وهذا البيان للتحذير من سجن وظلم المصلحين .

والنموذج الثامن هو الإعلام المضلل المتمثل في سحرة فرعون الذين ذكرت وقائعهم 15 مرة توضح حجم التشويه بالبيان حتى بعد إيمان السحرة أنفسهم، كنموذج للترويج للباطل وتزيينه في أعين الناس واسترهابهم وهو نموذج خطير حذر منه القرآن وأخبر أنه حتما سيبطل وتنكشف الحقائق ولن يفلح سحرة الإعلام الكاذب في أي زمان ومكان.

هذه بعض الحكم من ذكر مصر في القرآن، والتي لو جمعها باحث في العلوم السياسية لوجدها تمثل قوانين وحكم تصلح للاعتبار في كل زمان ومكان، وليست فقط صفة لازمة لبلد اسمها "مصر". وإنك لتعجب إذا قارنت واقع مصر الأليم اليوم بمواضع التنافر بين الوصف التحذيري القرآني للظلم الاجتماعي للنظام في مصر والفعل السياسي الواقعي كأن المخالفة عن عمد.

أما أحرار مصر ومصلحيها فهذا الذكر رسالة تعزية عن ثقل مهامهم وبشارة لهم، فالأمر لا محالة سيؤول للمصلحين كما آل ليوسف بعد سجنه ولموسى من بعد هربه ولقومه من بعد التيه. ونذارة لكل حاكم متفرعن متجبر ومستخف مضلل وقاض ظالم ومال فاسد وجند هالك وإعلام مضلل وشريعة على غير هدي. وتظل كلمة الله هي العليا: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ، إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ".