دائما ما يلفت القرآن العظيم أنظار متدبريه إلى كيفية تكوين الشخصية "المسلمة" التي تستطيع العيش محتفظة بثوابتها الإيمانية في كل عصر ومصر.
بمعنى أدق شخصية تتكيف مع الواقع دون التنازل عن دينها وعقائدها.
ومؤمن آل فرعون يمثل هذا النموذج الواضح الظاهر لمثل هذه الشخصية المراد تكوينها.
وبعيدا عن "جنسيته" وهل كان من قوم فرعون أو يحمل جنسية أخرى، فهو نموذج قرآني فريد جدير بالتدبر ومعرفة مقومات شخصيته لأنها بالفعل سبيل من سبل النجاة في هذا الواقع الذي نعيشه.
دعونا في البداية نترك القرآن ليحدثنا عنه:
"وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُومُسْرِفٌ كَذَّابٌ""1″
الملفت للنظر عند قراءة الآيات أولا هو أن الله عز وجل شهد له بالإيمان وهي شهادة ما أعظمها لأنها من رب الأرض والسماوات:
" وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ" وفي هذا تشويق وتنبيه للقارئ أن ما قاله وما فعله هذا الرجل هو سبب رئيسي لإطلاق لفظ الإيمان عليه وهو المكون الأساسي الذي قام عليه إيمان هذا الرجل.
- 1-تشهد هذه الآية ومثيلاتها في القرآن لصحة معتقد أهل السنة والجماعة بأن الإيمان"قول وعمل" لأن هذا الرجل كما قال ابن كثير رحمه الله:
" وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل""2″
هذا الإيمان "الحقيقي" كان سببا عظيما من أسباب نجاة هذا الرجل ويشهد لذلك الأمر ما قصه الله سبحانه وتعالى علينا في نهاية هذا المشهد حين قال:
" فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ""3"
- 2-هذا الدافع "الإيماني" جعل هذا الرجل "إيجابي" بالمعنى المعاصر فرفض الفساد بكل صوره وأشكاله، لكن هذا الرفض كان ب"بعقلانية" وبحكمة بالغة حتى يستطيع أن يجني ثمار هذا الرفض فلا يكون مجرد "زوبعة" فارغة يقضي عليها فرعون وحاشيته في لمح البصر.
- 3-انتقل الرجل بعد ذلك إلى مرحلة "الحوار العقلاني" وهو أدب قرآني رفيع علمه الله سبحانه وتعالى أنبياءه ومرسليه حينما قال لموسى وهارون :
"فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ""4"
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى:
"وقال رجل مؤمن بالله من آل فرعون, يكتم إيمانه منكرا على قومه: كيف تستحلون قتل رجل لا جرم له عندكم إلا أن يقول ربي الله, وقد جاءكم بالبراهين القاطعة من ربكم على صدق ما يقول؟ فإن يك موسى كاذبا فإن وبال كذبه عائد عليه وحده, وإن يك صادقا لحقكم بعض الذي يتوعدكم به, إن الله لا يوفق للحق من هو متجاوز للحد, بترك الحق, والإقبال على الباطل, كذاب بنسبته ما أسرف فيه إلى الله.""5"
حجة عقلية لا يستطيع فرعون ومن معه أن يشوشوا عليها وإلا كان سفها منهم ودليلا على ضعف عقولهم وأدلتهم في القتل.
- 4-هذا المؤمن يرسل لنا رسالة بليغة وهو في وسط "المعركة" وسلاحه الوحيد هو الإيمان بالله والتحرك بمعطياته و دوافعه.
ويترجم صديق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه وعن الصحبة أجمعين هذه المفاهيم الإيمانية القرآنية ترجمة عملية واقعية لنتعلم أن هذه المفاهيم وهذا التحرك "بالقرآن" ليست مفاهيم نظرية جامدة بل هي مواقف عملية يستحضرها المؤمن عند اللزوم.
روى البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال قلت لعبد الله بن عمروبن العاص رضي الله عنهما أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبوبكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ""6″
- 5-يكمل هذا "المؤمن" عظته البليغة مؤكدا على أهمية الإيجابية في حياة المسلم وأن السلبية صفة مذمومة لا ينبغي أن تكون من صفات "المسلم" وضمن مكونات شخصيته فيقول كما قص علينا القرآن:
"يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد""7″
- 6-يؤكد المؤمن هنا على أن عدم إنكار المنكر سبب لنزول العذاب .
قال ابن كثير: (قال المؤمن محذرا قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم: {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ}، أي: قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله، {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا}، أي: لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء""8"
- 7-يختم هذا الرجل المؤمن هذه الوصية الجامعة بالتذكير بمقام عظيم من مقامات الإيمان وهو ينبغي أن يكون ملازما للمسلم طوال حياته ألا وهو مقام "التوكل" فنجده يذكرنا بقوله:
" فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد""9″
فلما قام هذا المؤمن بواجبه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بضوابطه وبشروطه أيقن أنه مع قيامه بهذا الواجب فهو مفتقر إلى الله عز وجل الذي أجرى الحق على لسانه وجعله ينطق به دون خوف أو خشية من فرعون وزبانيته لذلك فوض الأمر كلية لله فهو المتصرف في هذا الكون وما يجري فيه وهو المدبر لمجريات الأمور في هذا الكون.
ما أعظمها من خاتمة جليلة لوصية عظيمة.
وكما يقال"الجزاء من جنس العمل" كان جزاء المؤمن من جنس عمله فقال الله تعالى:
" فَوَقَاهُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ""10″
دلت الأية على أن فرعون وجنوده أرادوا بالمؤمن شرا ولكن الله سبحانه قد كفاه وحفظه بحفظه.
ختاما أقول إن هذا النموذج يمثل الرجولة الحقة في عالم الذكورة والإيمان الحقيقي في عالم الأوهام وتزيين الباطل.
والله من وراء القصد.
________________________________________________
الهوامش:
1-} [غافر: 28]،
2-تفسير ابن كثير
3- [غافر:45-46].
4-طه "44"
5-تفسير السعدي
6-رواه البخاري
7-"غافر-29″
8-تفسير ابن كثير
9-غافر 44"
10-"غافر"