سَنَنُ التغيير
******
أظن - والله أعلم - أن سُنة الله تعالى في تغيير الواقع الذي لا يُرضيه، ليست بالتغيير القمِّيّ ولا القاعديّ، أي لا السُلطويّ ولا الشَعبويّ وإنما هو التغيير النُخبوي !!
** وبمعنى أوضح لا يكون التغييرُ المنشودُ -حسب السُنن - عن طريق اعتلاءِ السلطةِ ابتداءً كما يتبادر للكثيرين، حيث سهولةُ التغيير حينئذٍ ويُسرُهُ، فيتسنى للحاكم - فرداً كان أم جماعةً - أن يضعَ ما يشاء من تشريعاتٍ وقوانينَ، فتلتزمُها القاعدة، فيحدثُ بها التغييرُ الذي يَنشدُه الحاكم !!
فما كان سبيلُ صفوةِ البشر من الأنبياء والمرسلين في التغييرِ بطلب الملكٌ وﻻ الرياسة، حيث تُحدثُنا السيرة أن نبيَنا عليه السلام عُرِض عليه الملكُ والسيادةُ مع غيرهما من الأعراضِ، فلم يُعِرْ ذلك العرضَ التفاتةً ولا تكلف رداً، وإنما اكتفى بتلاوة القرآن فقط، مما يوحي أن الملكَ والسيادة واعتلاءَ السلطة ليس سبيلاً للتغيير ابتداءاً، وإن كان هو السبيلَ الأمثل بعد انطلاق التغيير وتَمهُدِ سبيلِه .
وكذا موسى وأخوه هارون - عليهما السلام - لما أتيا فرعونَ حسب الأمر الإلهي، لم يقولا له قم لنجلس مكانك على كرسي الحكم، لنقومَ بواجب الدعوة والتغيير، وإنما كان كل المطلوب من فرعون أن يُخلِّيَ بينهما وبين بني إسرائيل ليدعوانِهمْ إلى الله تعالى، وهذا ما أرْسٌلا به نصاً، وما طلباه فعلا : "فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذِّبْهم" ... "أن أرسل معيَ بني إسرائيل" .
** وكذلك لا يكون التغييرُ المنشود - حسب السنن أيضاً - عن طريق الدهماء والعامة والقاعدة الشعبية، حيث أن هؤلاء مَحِلُّ التغيير ومناطُه لا آلتُه وأداتُه، وإنما القاعدة الشعبية في حقيقتها ركوبةٌ ومطيةٌ، تُقادُ ولا تَقودُ، وتُركبُ ولا تُستشارُ، فمن ركبها قادها - طاغيةً كان أم عدلاً، رضيتْ هي أم أبتْ - كما يقال : "الناس على دين ملوكهم"، ويقال في الثقافة الشعبية : "من تزوج أُمَّنا قلنا له يا عمَّنا"، ويقال : "إن كان لك عند الكلب حاجة فقل له : يا سيدي"، ويقال : "إن فاتك الميري فتَمرَّغْ في ترابه"، ويقال : "عليك بالميري ولُذْ بالبابِ - ومَرِّغِ الأصْداغَ في الأعتابِ"، ..... ومثل هذا كثير من ثقافة الإستكانة، والخنوع والخضوع والرضا بالمذلة عن طواعية !!
وإنما مثلُ القاعدة الشعبية كمثلِ القطيع، يحتاج لمن يعتني به ويرعاه، ويطأ به مواطن الكلأ وموارد الماء والظل، ويحنو على المرضي والعِشارِ والصغار، فهو عاجزٌ عن أن يعتني بنفسه فضلاً عن أن يرعى غيرَه، ولئِنْ كان القطيع عاجزاً عن العناية والرعاية المادية هذِه لنفسه، فهو عن المعنوية التي هي الهداية للصراط المستقيم والمنهاج القويم لنفسه - والتي تَعظمُ الحاجة إليها عند البشر عن الطعام والماء والهواء ألفَ مرةٍ - أشدُّ عجزاً وأعظم جهلاً، ولئن عجز عنها لنفسه، فهو لغيره أعظم عجزاً وأشد فقداً !!
ولذا كانت عنايةُ الله وقدرُه، أنه "ما من نبيٍ إلا رعى الغنم"، ليتعلموا رعاية الأمم من مدرسة رعْيِ الغنم !!
ولذلك فالذين يُضيِّعون جهودهم وأوقاتهم، ويسرفون في استدعاء الشعوب لتقوم هي بالتغيير، كمن يطلبون من الثَّوْرِ الحليب، ولئن انتظروا من الشعوب التغيير فسوف ينتظرون طويلاً جداً، كانتظار من يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه !!
ولا يعترضنَّ متعجلٌ عاطفيٌ فيقول مثلاً : قد غَيَّرت القاعدةُ وتحرك الشعبُ في ثورة يناير !!
والجواب :
أولاً _ أين هو هذا التغيير ؟!!
إلا أن يكون المقصود هو التغيير للأسوأ، والتعمق في الأسفل ألف مرة !!
ثانياً _ حقيقة التغيير الذي حصل في يناير - لو اعتبرناه تغييراً - إنما كان نُخبوياً، بدأه نُخبةٌ من الشباب، ثم تعاطفت معها قاعدةٌ من الشعب بعدما مرَّت محنةُ الشباب، وتَأكدَت القاعدة الشعبية المتعاطفة من ظَفَرِهم !!
ثالثاً _ لو سلمنا - جدلاً - أنه كان تغييراً قاعدياً، فهذه هي الحالة الشاذة التي تثبت القاعدة وتؤكدها وﻻ تنفيها !!
** مما سبق يتبين أن التغيير - في ظننا - ﻻ هو قِميٌّ وﻻ قاعديٌّ، فما سبيله إذاً ؟!!
سبيله - فيما نظن والعلم عند الله - في منهج الأنبياء والمرسلين، يتلخص في الدعوة والتغيير، وهو التغيير النخبوي، عن طريق الطائفة المؤمنة التي استجابت لدعوة الرسل، وتربت على تفاصيل معاني الإيمان قوﻻً وعملاً واعتقاداً، وهذا غالباً ﻻ يتسنى للقاعدة أصلاً، التي يكون إيمانها مجملاً في الغالب وﻻ تُكلف بما فوقه، فضلاً عن تصور لزومه منها ليحصلَ التغيير المنشود !!
فالأنبياء والمرسلون يُبعثون في أسوأ واقعٍ يُتصوَّر، في كفرٍ عامٍ يجسده حالة نبينا عليه السلام : "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم"، فيبدأ النبي يدعو إلى الله فرداً فرداً ممن يصطفي، ويظن أنه يصيخ له ويستمع، حتى تصير معه طائفة قليلة غالبهم من الفقراء والمساكين وشُذَّاذُ الآفاق ونُزَّاعُ القبائل، يعلمهم ويربيهم على عينه، فبهم تظهر الملة وينتصر الدين ويتم التغيير المنشود !!
ويكفيك ليتأكد لك هذا أن تعلم أن من هاجروا مع النبي عليه السلام من مكة للمدينة، وهم جملة المؤمنين يومئذٍ - حسب أهل السير - نحو مائتي رجلٍ وامرأةٍ من المؤمنين، من بعد ثلاث عشرة سنة من الدعوة والتربية منذ بعثته عليه السلام، وأن الذين حجوا معه فقط عليه السلام بعد تسع سنين من هجرته، أكثر من مائةٍ وعشرين ألف حاج، ويقال جملة المؤمنين يومئذٍ نحو مائتي ألف، مما يعني أن في مقابل الواحد من النخبة المرباة على يد النبي - عليه السلام - نحو ألف من لم ينالوا ذلك، لنعلم قدر النخبة المرباة على معاني الإيمان تفصيلاً !!
ويكفي أن نعلم أن مصعب بن عمير رضي الله عنه وحده مكث في المدينة سنةً واحدةً يقرأ القرآن ويُعلِّمه، فما من بيتِ في المدينة إﻻ دخل منه في الإسلام رجالٌ ونساءٌ أرسالا، فهدى الله على يديه في سنة واحدة أضعاف ما هدى على يد النبي عليه السلام في عشر سنين، لنعلم قدر النخبة المرباة !!
وأخيراً ... فتوصيتي - حسب ظني - ألا نحسِب النصر بالعدد وﻻ بجموع الشعب وﻻ بتملق الخاسرين، إنما بالطائفة المؤمنة الصابرة الثابتة على الحق ومعاني الإيمان، ونبذل في ذلك جهدنا ونستفرغ وسعنا، ثم نتوكل على الله ربِّنا ﻻ سواه في تحصيل المطلوب ودفع المرهوب، مع تمام التحقق بأﻻ نطع من أغفل الله قلبه عن ذكره، واتبع هواه وكان أمره فرطا،ً وإن تعاملنا معهم بما يجب، وقلنا لهم حُسناً، وجادلناهم بالتي هي أحسنُ، حتى يحيا من حييَ عن بينةٍ ويهلِك من هلك أيضاً عن بينة، والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس ﻻ يعلمون .
#فرحات_رمضان