أوضحنا فى الحلقة السابقة أن باب الثقة والترقى فى التنظيمات السلمية من الحركات الإسلامية هو إظهار التعصب الفكري الأعمى وشدة الولاء التنظيمى ونفس الأمر موجود فى التنظيمات المسلحة ويسهل على من تخلق بهاتين الصفتين (التعصب والولاء الحزبي) صدقا أو زورا أن يدخل من أوسع أبواب الحركة إلى أعلى المناصب فيها بل و أكثرها حساسية.
ومن هنا يظهر أن الاعتماد على هاتين الصفتين فقط لتقييم الأعضاء من أجل ترقيتهم تنظيميا هو أكبر باب خراب على هذه الحركات الإسلامية، إذ منه يدخل الجواسيس ومنه يدخل المنافقون (وصوليون وفاسدون) العاملون لحساب أنفسهم والذين لا يتأخرون عن بيع أنفسهم لاحقا لكل من يدفع لهم وأكدنا أن هذه ظاهرة شائعة وليست أمرا نادرا.
ونواصل هنا لبيان الحل ونؤكد أن أصل كل هذا الخراب من مخالفة تعاليم القرآن وهدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي اعتمد معايير إيمانية "عقدية وسلوكية" لتقييم حالة المسلم فقال تعالى:
-"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" سورة المائدة، آيات 54-56.
-وقال تعالى: "لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" سورة المجادلة، آية 22.
وهذه الآيات فى سورة المائدة وسورة المجادلة هما الموضعان الوحيدان فى القرآن الكريم اللذان ذكر فيهما كلمة "حزب الله"، والآيات تصف حزب الله وتؤكد أن أهله هم الغالبون و المفلحون فلنتدبرها جيدا.
ثم نجد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الكثير من صفات المؤمنين الأساسية بأحاديث صحيحة مهمة، وإنما قلنا الأساسية لأن الإيمان كما ورد بالحديث النبوي المشهور بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة وجمعها العلماء تفصيلا فى كتب وبحوث عدة لكن ما يهمنا هنا فى هذا السياق هو الصفات الأساسية التي تميز المؤمن ذا الحد الأدنى من الموثوقية عن غيره من المؤمنين الذين قعد بهم تقصيرهم عن بلوغ هذه الدرجة وإن لم يسلبهم أصل الإيمان وبعضا من أجزاء كماله، و بشأن هذه السمات الإيمانية الأساسية نجد الأحاديث النبوية الصحيحة التالية:
-قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بهن طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ الله وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ الله مِنْهُ كما يكره أن يلقى في النار" رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
-قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" رواه البخارى ومسلم وغيرهما.
-قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" رواه البخارى ومسلم وغيرهما.
-قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السارق حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" قال: وكان أبو هريرة (رواي الحديث عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم) يلحق: "ولا ينتهب نهبة ذات شرف وهو مؤمن" رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
-قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ" رواه أبوداود وحسنه الألبانى فى الصحيحة برقم 380.
-قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" رواه البخارى ومسلم، وفى رواية لغيرهما زيادة: "وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ" رواه الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم فى المستدرك.
-قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "سبابُ المؤمن فسوق، وقتاله كفرٌ" رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
-قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً، كما أمركم، المسلم أخو المسلم، ولا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا، التقوى ههنا، التقوى ههنا، ويشير إلى صدره، بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرامٌ، دمه وعرضه وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم" رواه البخاري ومسلم
-قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" رواه البخاري ومسلم.
-قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبةٍ من كبرٍ، فقال رجلٌ: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، قال: إن الله جميلٌ يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناسِ" رواه مسلم وغيره.
إن تدبر آيات سورتي المائدة والمجادلة بشأن صفات حزب الله وكذا هذه الأحاديث النبوية التي ذكرناها آنفا يحدد لنا المعايير الدقيقة التى ينبغى قياس استقامة الناس عليها فى الحركات أو الأحزاب أو الدول الإسلامية وبمقدار التزام المرء بها يتحدد مقدار صدقه وإخلاصه ومن ثم مقدار "الثقة به" لتولي أي منصب ، ولننتهي عن قياس وتقييم الناس بناء على مقدار مدى تعصبهم و تحزبهم للحركة أو للحزب أو للدولة لأن المطلوب هو الولاء للحق الذي هو الله ورسوله و الإيمان والمؤمنين عامة وليس التعصب والولاء لأعضاء الحركة أو الجماعة او الحزب أو الدولة فقط كما هو واضح من الآيات والأحاديث التي ذكرناها آنفا.
إن صفات حزب الله المذكورة فى سورتي المائدة والمجادلة وصفات المؤمنين وكذا أصحاب الكبائر والنفاق العملي المذكورة فى الأحاديث النبوية التي أوردناهها آنفا تمثل منظومة متكاملة للأمن الوقائي الساعي لتحديد موثوقية الفرد المسلم لتولي المناصب المؤثرة أو المهمة في الدولة المسلمة أو الحزب أو الحركة، وكذا فإن صفات المنافقين المذكورة في آيات كثيرة من القرآن الكريم وخاصة في سورة التوبة (المسماة بالفاضحة) تمثل منظومة متكاملة للأمن الوقائي الإسلامي لكشف درجة إنحراف "مسلم ما" إلى مهاوي الفتن والنفاق، فعن ابن جبير: قلتُ لابنِ عباسٍ سورة التوبةِ، قالَ: "بل هي الفاضحةُ، ما زالت تقولُ: ومنهُم ومنهم، حتى ظنوا أن لا يبقى أحدٌ إلا ذُكرَ فيها" رواه البخارى ومسلم، (انظر جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد، حديث رقم 6986 ، جـ 3 ص 136، ط مكتبة ابن كثير، الكويت 1998)، ويقصد فضحها صفات وأعمال المنافقين.
وهكذا لدينا منظومة إسلامية متكاملة للأمن الوقائي ترتكز على شقين:
-شق سمات الموثوقية ودرجتها و تحدد بحسب اكتمالها أو نقصها، وهي أشبه بمفهوم "العدالة" المعروف فى علم الجرح والتعديل بعلوم الحديث ومفهوم "العدالة" نفسه موصوف ومعتمد فى الفقه والقضاء الإسلامي.
-شق سمات الانحراف لمهاوي الفتن والنفاق وهذه أغلبها فى سورة التوبة.
فنسأله تعالى العصمة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.