تحذيرات أطلقتها العديد من الدول من احتمال قيام روسيا بغزو أوكرانيا في أي لحظة، بعدها صار الأمر حقيقة، لكن ما الذي مهد لقبولها، من بدأها نفسيا قبل أن تلمس أرض الواقع، كيف قصفت العقول بالدعاية قبل دوي انفجارات القنابل؟!
نتيجة للفعل الدعائي صدرت تصريحات كثيرة لمسئولين فى دول كبيرة فى العالم مثل وزير الخارجية الأمريكي بلينكن قبل الحرب: أكد أن احتمال قيام روسيا بعمل عسكرى ضد أوكرانيا بات وشيكا، ولقى ذلك تفاعلا واسعا عبر مواقع التواصل الاجتماعي في المنطقة العربية.
ولك أن تلاحظ سخونة الأحداث، والإثارة الموجودة فيها من خلال الإعلام، بين تصريحات الجانب الروسى، ونظيره الاوكرانى وأطراف أخرى لها مصالح فيما يحدث، كل هذا الجدل يدعونا إلى الحديث عن (الدعاية الحرب) ودورها فى الحروب .
فالدعاية الحربية قديمة منذ أن بدا الصراع بين بنى آدم يشتد وتتكون الجيوش المنظمة وتتطور الأسلحة من السيف إلى القنبلة النووية.
وفى زماننا احتلت الدعاية الحربية مكانة مرموقة نتيجة التطور التقنى المذهل وسهولة الوصول إلى الجماهير عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة سريعة الانتشار بين الشعوب .
وصار جزء كبير من الشعوب يشارك فى الدعاية مؤثرا ومتأثرا، بشكل يغير مجرى الأمور من النصر للهزيمة أحيانا.
مخاطبة العقول
قد يظن البعض أن موضوعات «الدعاية للحرب» هى الـدعـوة للجندية وتخويف الأعداء من بطش صاحب الدعاية وقوته وإعـلاء شـأن أسـلـحـة بـعـيـنـهـا والتهوين من شأن أسلحة أخرى فقط.
لكنهم لا يعلمون أن أساسيات الدعاية أيضا الدعوة إلى «قضية» بعينها و إعلاء شأنها والتهوين من شأن «قضية» أخرى والحط منها.
ذلك أن الدعاية تخاطب عقلان : عقل تابع لصاحب الدعاية متمثل فى جنوده وجماهير بلاده، وعقل الأعداء الذين يواجهونه وهم قادة وجنود وجماهير.
فهى إذن حرب نفسية فى المقام الأول تحتاج إلى كلمات ليست كالكلمات، ولذلك تختار بعناية وتصاغ بدقة بالغة تستهدف تشكيـك شـعـب دولة العدو وجنوده في قضيتهم وهدم ثقتهم في قياداتهم، وفي قدرتهم على تحقيق النصر.
وأيضاً فى الوقت نفسه يسعى صاحب الدعاية جاهدا إلى تأكيد عدالـة قضيته الخاصة والمحافظة على إيمان شعبه وجنوده بقضيته وثقتهم في قياداتهم وفي قدرتهم على تحقيق النصر،
فإنه بذلك يعمل فى اتجاهين متناقضين:
دعاية موجهة إلى «الأعداء» بما يسمى «غسيل أدمغة» شعـوبـهـم عـن طريق حملات دعائية دائمة كاسحة متكررة العناصر وثابتة الاتجاه هدفها التشكيك فى قضيتهم والنيل منها.
ودعاية موجهة إلى شعبه هدفها تقوية الروح المعنوية ورفع حالات الإستعداد القصوى.
معنى الدعاية وخطورتها
والدعاية هى: فن الإقناع، وهذا الفن له أصول وقواعد تتلخص فى عناصر ثلاثة هي : كسب مظهر الصدق لنيل ثقة الجمهور المتلقي المراد إقناعه،
ثم: البساطة والتكرار للوصول إلى أذهان ومشاعر الناس بسرعة والنفاذ إلى ذاكرتهم،
ثم: استخدام الرموز وضرب الأمثلة التى تثبت فى ذاكرة الناس .
ولعل أخطر ما فى الدعاية هو قضية العلاقة بين أجهزة «الإعـلام» الـوطـنـيـة التـي تتولى عمليا مسؤولية «الدعاية» لأهداف ومصالح الدولة وشعبها في مراحل الإعداد للحرب أو في أثناء الحرب نفسها.
والعلاقة بين هـذه الأجهزة (من صحافة وإذاعة وتليفزيـون وإصـدارات ثـقـافـيـة... إلـخ) وبـين أجهزة الرقابة المسؤولة عن حماية كل من أسرار الدولة (وقواتها المسلحة) ومصالحها القومية العليا.
وفي الدول الديمقراطية تتمتع هذه العلاقة بحساسية خاصة بسـبـب التناقض الأصولي بين مبدأ «حرية الرأي والتعبير» ومفهوم «الرقابة» ذاته.
وما يحل هذا التناقض مـبـدأ الـتـزام الإعلام الوطني ــ بوعي وصرامة ــ مصالح الدولة وقواتهـا المـسـلـحـة عـلـى أسـاس عدم القيام بنشر أي معلومات أو آراء تضر بالأمن القومي للدولة وللمجتمع، وعلى أساس ألا تمنع الأجهزة الرقابية الإعلام الوطني من حقوق المتابـعـة ونقل الحقائق إلى الرأي العام الذي يتحمل فى النهاية أعـبـاء وتـبـعـات الحرب ويتمتع بمكاسبها المادية أو المعنوية.
وهنا سؤال
هل الدعاية قادرة على تغيير مسار التاريخ أو دفعه إلى مسار خاص ما كان ليتخذه لولا قوة تلك الدعاية؟
وللجواب نضرب مثالا للدعاية الحربية ومدى تأثيرها لنعرف أهميتها الكبيرة فى المعارك، وهذا المثال هو الدعاية للحرب الأمريكية على العراق فى عام 2003م
بدأت الدعاية بتوضيح سبب الاحتلال المقنع للعالم وذلك عن طرق وزير الخارجية الأمريكية وقتها (كولن باول) في خطابه أمام مجلس الأمن الدولي في 5 /فبراير عام 2003م.
إذ شغل (باول) قبل ستة أسابيع على بدء الحرب آنذاك، الرأي العالم لمدة 76 دقيقة من خلال خطاب ألقاه عن ضرورة شن حرب على العراق. وارتكز محتوى خطابه بالأساس على امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل وكيميائي، وكذلك دعم نظامه الإرهاب الدولي وسعيه إلى صنع أسلحة نووية.
وتبين فيما بعد أن كل هذه الادعاءات كاذبة، ووصف (باول) بنفسه هذا الخطاب في عام 2005م بأنه يعد وصمة عار في حياته المهنية.
ثم لما وقعت الحرب واشتدت المعركة وقد بدأت فى 19 مارس 2003م (جوا) و20 مارس 2003م (برا) واستمرت أكثر من شهر بقليل، بما في ذلك 26 يوما من العمليات القتالية الكبرى، التي غزت فيها قوة مشتركة من القوات الأمريكية والمملكة المتحدة وأستراليا وبولندا العراق. وانتهت هذه المرحلة المبكرة من الحرب رسميا في 1 مايو 2003م عندما أعلن الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش "نهاية العمليات القتالية الكبرى"،
نموذج عملي
ومن تركيزنا على مدة الحرب حوالى شهر ونصف كانت وسائل الإعلام الأمريكية تمارس فيها دعاية قوية تستهدف العراقيين لهدم الروح المعنوية وبث الرعب فيهم ومن ذلك قصة القوة التى أرسلتها لاغتيال صدام حسين ولكن سوء الأحوال الجوية كان مانعا لذلك، وغيرها من القصص التى يتأكد العراقيون منها أن أمريكا تعرف الكثير عنهم بل ودقائق الأمور، وكذلك استخدمت أمريكا أسلوب المناورة بحيث تنشر سيناريوهات الحرب ومحاور الهجوم علنا لينخدع العراقيون عن الأهداف العسكرية الحقيقية ،
واستخدمت أمريكا أيضا الدعاية المباشرة للجنود العراقيين بالمنشورات المكتوبة باللغة العربية عن طريق خبراء متخصصين والتى كانت تلقيها عليهم بالطائرات تدعوهم للاستسلام .
وفى الجانب الآخر كانت الدعاية العراقية غير مؤثرة ولم تنجح فى الوصول إلى القوات الأمريكية المعادية ولم يكن لهم منفذ للعالم سوى موجة إذاعية ناطقة باللغة الإنجليزية اسمها (صوت السلام).
وفى الوقت الذى سعت فيه أمريكا للوصول إلى الجنود العراقيين واستهدفتهم بمنشوراتها ركزت القوات الأمريكية على عدم وصول الدعاية العراقية لجنودها حتى لا يوجد أى تأثير ذهنى أو فكرى على قواتهم .
وسعوا إلى تلبية كافة احتياجات الجنود الشخصية سواء تلك التى تربطهم بأسرهم أو تلك التى ترفه عنهم وتقوى عقيدتهم،
حيث تم توفير خدمات البريد والهواتف التى تمكنهم من التواصل مع ذويهم ومتابعة أخبارهم وكذلك إقامة مئات الحفلات الترفيهية وزيارات لنجوم الفن والغناء الامريكيين إضافة إلى التركيز على التوجه الدينى لهذه الحرب من خلال عدد كبير من المتخصصين .
أخطاء قاتلة
وقد يخطئ القائم بالدعاية في تقدير من يوجه لهم دعايته، فيحصل على نتائج مضادة لما يهدف إليه، ومن الأمثلة على ذلك: في بداية الحرب العالمية الثانية حين عسكرت الجيوشُ الفرنسية أمام خط سيجفريد، أذاع الألمان في مكبرات الصوت للجنود الفرنسيين أن الإنجليز قد نزلوا بشمال فرنسا، وأخذوا في هتك عرض النساء الفرنسيات تاركين أزواجهن في الميدان، فقوبلت القصة بسخرية وفكاهة؛ لأن الألمان كانوا يجهلون التعصب الإقليمي للفرنسيين، وكان معظم الجنود من أهل الجنوب.
ومن الأخطاء التي تؤثر على فاعلية الدعاية: طولُ الوقت، ومن الأمثلة على ذلك أن الألمان ظلوا مدة طويلة يقومون بالدعاية ضد الروس على أنهم أعدى أعدائهم، فلما تمت معاهدة عدم الاعتداء بين الألمان والروس عام 1939م غيّر الألمان من دعايتهم. فلما عادوا وهاجموا روسيا بعد ذلك كان من الصعب عليهم إقناعُ الشعب ثانية بأن الروس أشرار.
وخلاصة الأمر أن الدعاية لا تستطيع كسب الحروب ولا إخفاء الهزيمة
ولكن اتباع وسائلها الصحيحة تساهم فى تمهيد الطريق نحو النصر.