بسم الله الرحمن الرحيم
------
أوجِّه ها هنا دعوة لحضرات المتابعين والمطَّلعين - بأي شكل - لنتفق على أصل الاتفاق وركيزة الإجتماع، وهو الاتفاق على مصدرية ومنهجية التلقي، وهو اعتبار أن قاعدة العلم الشرعي السديدة، وأساس الفهم والتطبيق الصحيح للإسلام، والمنهجية السلفية المنضبطة بلا هوى ولا انحراف، هي المذاهب الفقهية الأربعة المشتهرة والمتبوعة لأكثر من اثنيْ عشر قرناً من الزمان، بأئمتها ومجتهديها ودواوينها وعامة تراثها !!
فيَسَعُنا - في الجملة - ما وسِع أئمتها ومجتهديها، فما اتفقوا فيه نتفق معهم ولا نَشِذُّ عنهم، وما ساغ خلافهم فيه يبقى سائغاً الخلاف فيه فيما بيننا، بلا أدنى تثريب على المخالف، فضلاً عن التبديع والتفسيق، فضلاً عن التكفير !!
وينبغي - والحال هذا - ألا تكون هنا عبرة عند عموم المقلدين، سواءً كانوا عموم الأمة على مرِّ القرون، أو كانوا شيوخاً وطلبة علم من فاقدي أهلية الإجتهاد بشروطه وضوابطه، أقول ينبغي ألا تكون عبرة عند هؤلاء المقلدين جميعاً - على اختلاف درجاتهم - بقول من شذَّ عن إجماع أئمة المذاهب ومجتهديها، أو خالف أقوالهم، أو أحدث قولاً مخالفاً لما ثبت في تلك المذاهب السُّنِّيَّة السَّنيَّة، أو استحدث منهجية لم تكن فيها، كائناً هو من كان !!
ولا يعني ذلك الإزراء بالأفاضل من الشيوخ والدعاة وطلبة العلم - من عموم المعاصرين خصوصاً - ممن انتسبوا للعلم وطلبه، أو جحد فضلهم أو إنكار جهدهم وعلمهم، فهذا لايفعله عدلٌ منصف، وإنما المقصود عدم الإعتبار مطلقاً لآرائهم - جميعاً - وفتاواهم الصادرة عن ذواتهم، بمعزل عن التمذهب بضوابطه وأدبياته، وبمعزل عن الإجتهاد الشرعي بمعناه الإصطلاحي وشروطه وأدواته المعلومة من الأصول بالضرورة تحققاً وإجازة، بحجة الأخذ مباشرةً عن الكتاب والسنة - زعموا - فهؤلاء مهما أصابوا فقد أخطأوا إما لعدم الأهلية والتحقق بشروط الاجتهاد وأدواته، وإما لتعطل آلية الإجازة بكونهم مجتهدين، وهؤلاء مهما استقوا لنا فماؤهم كدر، وقبيحٌ بالعاقل أن يشرب على الكدِر والقذى وهو يمتلك جداولاً وأنهاراً من العذبُ الزَّلال من مناهج الأئمة رضوان الله عليهم !!
فلا يَسَعُنا الأخذ من المعاصرين من الشيوخ وطلبة العلم ولا الإلتفات لهم، مهما اتسعت شهرتهم وذاع صيتهم، ومهما رُسِمت حولهم هالات التعظيم غالباً والتقديس أحياناً، ومهما نَسَجت لهم أقاصيص السدنة والمنتفعين لَبوسَ العباقرة وزخرفات الفاتحين، أقول لا يسعنا الأخذ عنهم إلا في حالين فيما أظن :
* الأول - أن يكون الشيخ أو الطالب منتسباً إلى مذهبٍ من مذاهب الأئمة، ينقل عنه ويعزو إلى مجتهديه ويفتي على أصوله وأقوال أئمته لا ينحرف ولا يزيغ، وهذا غير موجودٍ في الأغلب الأعم إذ دمرته السلفية المتوهبنة والمتسعودة، إلا أن شعاعه بدا يبْرُقُ في الأفق، يبشِّرُ بإضاءة الآفاق من حوله، وإن لم يَبْدُ بعد قُرْصُه !!
* الثاني - حال الضرورة، كمستجدٍ أو نازلةٍ لم يتناولها الأقدمون، أو لم يتيسر - في الحال - البناء على أصولهم !!
فقد أصبحنا نختلف كثيراً - معاشر الإسلاميين – في واقعنا بما يستجلب التقاطعَ والتدابرَ ونقضَ الأخوة والوحدة الإسلامية أو إضعافَهما بسبب اختلافنا على مصدر ومنهج التلقى للعلم الذي هو أساس العمل والانطلاق، ولاشك أن فساد النهايات أفدح وأشنع ألف مرة من فساد البدايات، إن كان ثمَّ فسادٌ في البدايات، إذ إنَّ معظم ما نختلف فيه ليست خلافات حقيقية، وإنما أوتينا من قبل الجهل والهوى والتشبع بما لم نُعْطَ، ومن قبل وهمنا الواسع أننا رجالٌ وهم رجالٌ، وأنه يسعنا أن نجتهد كما اجتهدوا، دون أن نُحصِّل عشر معشار أدوات الاجتهاد وعلومه التي بلغوا الغاية منها، كما قيل قديماً في الأصول :
وليس كلُّ خلافٍ جاء معتبراً *** إلا خلافٌ له حظٌّ من النَّظرِ !!
ومعلومٌ من الفقه بالضرورة، أن الإنكار لو استجلب منكراً أفدح من المنكر القائم لم يجُزْ الإنكار، ولذا اتفق الفقهاء على منع الإنكار إلا في فعل الحرام المجمع عليه، وترك الواجب المجمع عليه، لا في المندوبات والمكروهات وما يسوغ فيه الخلاف ونحو ذلك !!
فكيف نحسم الخلافات بيننا ؟!!
وكيف نتلافى المشاحنات والعداوات والبغضاء في مسائل أغلبها لا يستلزم ذلك ولا يقتضيه ؟!! مما يُحْكِمُ السَّكْرةَ ويُطيحُ بالفكرة ويُفَرِّقُ الجمعَ ويَشُقُّ الصف !!
إن من محكمات القواعد الإدارية "توحيد الجهة الآمرة"، بمعنى أن يكون الآمرُ المديرُ واحداً فقط حتى لا تغرق المركب، وتلافياً لوقوع التفرُّق والتضارب بين العاملين المأمورين !!
والمقصود هنا هو توحيد الجهة العلمية السُّنِّيَّة السلفية المجتهدة في النصوص الشرعية، المتأهلة لذلك بلا خلاف، والتي نصدُرُ جميعاً عنها، وننطلق جميعاً منها، ونرجع إليها جميعاً عند اختلافنا، ونأخذ منها ولا نختلفُ عليها، فيَسَعُنا ما وسعها - مما اتفقت عليه، أو اختلفت فيه اختلاف تنوُّعٍ واستساغة، بما لا يفسدُ وُدَّها ولا يؤثر على جمعيتها ووحدتها - ولا يسَعُنا ما لم يسعها !!
وليس هناك أحقُّ بحقيقة هذه الجهة وصفاتها وأهليتها من مذاهب الأئمة الأربعة المتبوعة والمتلقاة من عموم الأمة بالقبول والإتباع لأكثر من اثنيْ عشر قرناً وإلى يومنا هذا، كما قال الزركشي رحمه الله [745-794 هـ] :
(والحق أن العصر قد خلا من المجتهد المطلق لا عن مجتهد فى مذهب أحد الأئمه الأربعه، وقد وقع الاتفاق بين المسلمين على أن الحق منحصر فى هذه الأربعه، فحينئذٍ لا يجوز العمل بغيرها، ولا أن يقع الاجتهاد الا فيها)[البحر المحيط: 209/7] .
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الكبرى [4/ 325- 326، ط. المكتبة الإسلامية] : (الذي تحرر: أن تقليد غير الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم لا يجوز في الإفتاء ولا في القضاء) اهـ.
وقال الإمام المرداوي : (فإن مدار الإسلام واعتماد أهله قد بقي على هؤلاء الأئمة وأتباعهم وقد ضبطت مذاهبهم وأقوالهم وأفعالهم وحررت ونقلت من غير شك في ذلك بخلاف مذهب غيرهم) أهـ .
وقال ابن مفلح : (إن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة ، وأنّ الحق لا يخرج عنهم (أ هـ .
وجزم ابن تيمية بأن الحق لا يخرج عن الأئمة الأربعة، حيث قال : (وقول القائل : لا أتقيد بأحد من هؤلاء الأئمة الأربعة، إن أراد أنه لا يتقيد بواحدٍ بعينه دون الباقين فقد أحسن، بل هو الصواب من القولين، وإن أراد أني لا أتقيد بها كلها بل أخالفها فهو مخطيء في الغالب قطعاً، إذ الحق لا يخرج عن هذه الأربعة في عامة الشريعة) أ هـ .
وليس من القول السديد هنا أن يقول قائل : ألا يكفي أن نقول أن المصدرية والمرجعية في الكتاب والسنة دون غيرهما، والخلل أنه يتوهم فارقاً بين الكتاب والسنة كمصادر للتشريع وبين المذاهب الفقهية كآلية معتبرة دونما سواها لفهم الكتاب والسنة، واستنباط الأحكام منهما، والبناء على أصولها وثوابتها في استنباط أحكام النوازل والوقائع المتجددة !!
فليس ثمت فارق جوهري بين المبدأ وبين آلية تحقيقه، وإلا نسبنا الأئمة رضوان الله عليهم إلى القول على الله بغير علم وبمحض الهوى، وإلى الحكم بغير ما أنزل الله، ومن ثم إلى الزندقة والعياذ بالله، حاشا الأئمة الكرام من ذلك !!