إن نفرا من المتسرعين يطرحون كلاما مفاده أن الأستاذ سيد قطب مدرسة ، والأستاذ البنا مدرسة أخرى ، بل أنهما مدرستان متعارضتان متناقضتان .
فالأستاذ سيد رحمه الله منهجا فى التغيير يُغاير منهج الاستاذ البنا رحمه الله .. وسنوضح بحول الله وقوته مجانبة هذه الدعاوى للحقيقة من خلال درس ما كتب الرجلين وأوضحوه .
ولكن هناك مقدمة ضرورية لابد منها ننقلها من كتاب ( السياسة الشرعية فى ضوء الكتاب والسنة ) ص 18 - 19 للدكتور يوسف القرضاوى .. يقول جزاه الله خيرا :
الحاكمية الإلهية جزء من عقيدة التوحيد الإسلامى : بعض الناس يظن أن مسألة الحاكمية الإلهية لله تعالى من ابتداع العلامة أبى الأعلى المودودى ، ثم الشهيد سيد قطب ، لأنهما اللذان أبدءا وأعادا فى هذه القضية وكررا الحديث عنها فى كتبهما في العصر الحديث .
ولكن الذى ينظر فى كتب أصول ( الفقه ) يجد أن من مباحث هذا العلم ومقدماته المعروفة حول الحكم الشرعى مبحث ( الحاكم ) من هو ؟
وكلهم قرر أن الحاكم هو: الله تبارك وتعالى ( إن الحكم إلا لله ) كما قرر القرآن فى أكثر من سورة مثل: ( الأنعام 57 ) و ( يوسف 40 ) .
وانظر على سبيل المثال ما كتبه الإمام الغزالى فى كتابه ( المستسفى ) وما كتبه شارح ( مسلم الثبوت ) فى أصول الفقه ، الذى يبين أن أعتبار الحاكم هو الله ، أمر متفق عليه بين أهل السنة والمعتزلة .
ويحسن بنا أن نذكر ما قاله الغزالى هنا .. قال : أما استحقاق نفوذ الحكم إلا لمن له الخلق والأمر ، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه ، ولا مالك إلا الخالق ، فلا حكم ولا أمر إلا له .
أما النبى والسلطان والسيد والأب والزوج ، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شئ بإيجابعم ، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم ، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا ، كان للموجب عليه أن يطلب عليه الإيجاب ، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر .. فإذن الواجب طاعة الله ، وطاعة من أوجب الله طاعته ( المستصفى ج 1 / 275 – 276).
بل هذا ما قرره القرآن بجلاء وصراحة فى بيان حقيقة التوحيد فى سورة الأنعام التى هى سورة التوحيد ، فقد ذكرت العناصر الأساسية الثلاثة للتوحيد وهى :
1 - ألا تبغى غير الله ربا ، كما قال تعالى ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ) الأنعام 64
2 - ألا تتخذ غير الله وليا ، كما قال تعالى ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )الأنعام 14
3 - ألا تبتغى غير الله حكما ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ۚ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ )الأنعام 114
والعلمانيون والمتفربون لا يرضون بالله تعالى حكما ، ولا بكتابه مرجعا ، ويأخذون من شرعه ويدعون حسبما يحلو لهم ، وقد قال تعالى ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا )الأحزاب 36
منهج التغيير عند الشهيدين ( بإذن الله ) حسن البنا و سيد قطب
أولا : فى موضوع الحكم على الأنظمة المعاصرة :
يرى الاستاذ سيد أن هذه الأنظمة من مخلفات الغزو الصليبى لديار المسلمين فى القرن التاسع عشر ، وما أرساه من ثقافات وأفكار بعيدة عن منهج الاسلام ..
وهذه الأنظمة التى ورثت عن أتاتورك وغيره استبعاد الاسلام عن واقع الحياة ، وأن هذه الأنظمة فى مجملها جاهلية لأنها لا تقر لله بالحاكمية فى واقع الحياة والناس وإنما تعتدى على سلطان الله ، وتدعى لنفسها الحاكمية ، فما تحله لنفسها فهو الحلال ، وما تحرمه فهو الحرام .
والجاهلية المعاصرة تجتمع فيها جميع صور الجاهلية التى تحدث عنها القرآن الكريم:
= جاهلية الحكم ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ )
50 المائدة
= جاهلية الظن ( يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ) 154 آل عمران
وفى هذا يقول الاستاذ سيد رحمه الله :
إن العالم اليوم يعيش فى جاهلية من ناحية الأصل الذى تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها ، هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله فى الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية وهى ( الحاكمية ) ..
إنها تسند الحاكمية إلى البشر ، فتجعل بعضهم لبعض أربابا لا فى الصورة البدائية الساذجة التى عرفتها الجاهلية الأولى ، ولكن فى صورة أدعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة وفيما لم يأذن به الله ... نقلا عن معالم فى الطريق
*ولو عدنا إلى رسائل الشيخ حسن البنا نجد نفس الفكر لأنهما يأخذان من مشكاة واحدة يقول البنا فى مجموعة الرسائل ( تحت راية القرآن ) : أين نحن من تعاليم الاسلام .. كونوا صرحاء فى الجواب وسترون الحقيقة واضحة أمامكم .. كل النظم التى تسيرون عليها فى شئونكم الحيوية نظم تقليدية بحتة لا تتصل بالاسلام ، ولا تستمد منه ، ولا تعتمد عليه : نظم الحكم الداخلى ، ونظم العلاقة الدولية ، ونظام القضاء .. الروح العام الذى يهيمن على الحاكمين والمحكومين ويشكل مظاهر الحياة على أختلافها ، كل ذلك بعيد عن الاسلام وتعاليم الاسلام .
ثانيا : الموقف من الأنظمة الجاهلية والحكومات الجاهلية :
يقول البنا فى مجموعة الرسائل ص 419 رسالة إلى الشباب .
بعد أن عدد خروج الأنظمة والحكومات على الشرع حيث تغاضت عن الزنا فلم تجرمه وأباحت الربا ..... ألخ يقول :
ونحن لهذا لا نعترف بأى نظام حكومى ، ولا بهذه الاشكال التقليدية التى أرغمنا أهل الكفر وأعداء الاسلام على الحكم بها والعمل عليها .
وأما عن الحكام فيقول فيهم :
وأنى لحطامنا هذا وهم جميعا قد تربوا فى أحضان الأجانب ودانوا بفكرتهم ، على آثارهم يهرعون ، وفى مرضاتهم يتنافسون ، ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا : إن الفكرة الاستقلالية فى تصريف الشئون والاعمال لم تخطر ببالهم ، فضلا عن أن تكون منهاج عملهم ، إن قوما فقدوا الاسلام فى أنفسهم وفى بيوتهم وشئونهم الخاصة والعامة لأعجز عن أن يفيضوه على غيرهم ، ويتقدموا بدعوة سواهم إليه ، وفاقد الشئ لا يعطيه ...... مجموعة الرسائل ص 218 - 219 تحت راية القرآن
وأما الاستاذ سيد رحمه الله فلا يخرج عما نقلناه من كلام البنا فقد أوضح سيد فى الظلال والمعالم وغيره أن الأنظمة التى تستبعد شرع الله أنظمة جاهلية لا تَعايش معها ولا لقاء ، ولا تنازل عن شئ من أمور الدين والعقيدة ولا مداهنتها ، بل يجب العداء معها واعتزالها شعوريا ، أى كرهها والبراءة منها .
ثالثا: استراتيجية العمل والحركة هى تغيير هذه الأنظمة لا ترقيعها
أتفق الإمامين الشهيدين-نحسبهما كذلك- على استراتيجية وتكتيك .. أما الاستراتيجية: فهي العمل الدائب لتغيير هذه الأنظمة الجاهلية واستبدالها بأنظمة تقوم على تحكيم الإسلام .
وأما التكتيك: فهو محاربة المنكرات الجزئية والعادات غير الاسلامية ، وربط تلك المنكرات من قوانين جاهلية وقيم جاهلية وعادات جاهلية بغياب شرع الله عن الحكم .
فالاثنان كانت استراتيجيتهما التغيير الجذرى للأنظمة بعد توعية الأمة بالاسلام وتكوين قاعدة شعبية تقبله وتحافظ على مكتسباته ودولته .
والشيخان يتعاونا مع غيرهما فى إقرار الاصلاحات الجزئية شريطة ألا تتحول إلى استراتيجية ينشغل العمل الاسلامى بها عن استراتيجية التغيير ، فتصبح الوسيلة غاية .
قال البنا فى رسالة المؤتمر الخامس ص 246 :
وهكذا اتصل الاخوان بكتاب الله ، واستلهموه واسترشدوه فأيقنوا أن الاسلام هو هذا المعنى الكلى الشامل ، وأنه يجب أن يهيمن على كل شئون الحياة ، وأن تصطبغ جميعها به ، وأن تنزل على حكمه وتعاليمه وتستمد منها ، ما دامت الأمة تريد أن تكون مسلمة إسلاما صحيحا ، أما إذا اسلمت فى عبادنها وقلدت غير المسلمين فى بقية شئونها ، فهى أمة ناقصة الاسلام تضاهى الذين قال الله فيهم ( {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} (البقرة:85).
أقول أنا المدون :
( من المعلوم أن الدين كلُّ، لا يقبل أن يتجزأ من جهة القبول به والإذعان له، وأن من رفض حكمًا من أحكام الله - سبحانه وتعالى -، وكفر به واعتقد أنه لا يصلح لهذا الزمان، وأن تطبيقه يجب أن يُعرضَ على العقل، أو على التصويت، فإن وافق ذلك أحكام الله - سبحانه وتعالى - كان بها ونعمت، وإن لم يوافق أحكام الله - سبحانه وتعالى - تركنا ما أنزل الله - سبحانه وتعالى - وراء ظهورنا، واتبعنا عقولنا ونتيجة التصويت، من زعم ذلك فهو كافر مشرك بالله تعالى.
وتطبيق شرع الله واجب بإجماع المسلمين، وهو امتثال أمره في كتابه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} المائدة:49 ) أ.هـ
أما الاستاذ سيد رحمه الله فيحدد بوضوح الموقف من هذه الأنظمة الجاهلية ويرى تغييرها جذريا ، وأن الاكتفاء بترقيعها والأنشغال عن الأصل -- وهو التغيير -- لا يصلح مطلقا ، بل هو انحراف عن المنهج الاسلامى الذى يرفض التعايش مع الجاهلية والالتقاء معها فى منتصف الطريق ,,فيقول رحمه الله فى المعالم ص 163 : ( ليست وظيفة الاسلام إذن أن يصطلح مع التصورات الجاهلية السائدة فى الارض ، ولا مع الاوضاع الجاهلية القائمة فى كل مكان .. لم تكن هذه وظيفته يوم جاء ، ولن تكون هذه وظيفته اليوم ، ولا فى المستقبل ، فالجاهلية هى الجاهلية ، الجاهلية هى الانحراف عن العبودية لله وحده ، وعن المنهج الألهى فى الحياة ، والإسلام وظيفته هى نقل الناس من الجاهلية إلى الإسلام )
هكذا بوضوح لا يقبل التداخل أو التأويل الخطاب الدعوي والخطاب السياسى .. ومنهج التغييرعند الإمامين البنا وسيد قطب