مما لا شك فيه أن المسلمين على مر تاريخهم كانوا على وعي تام بأهمية علم التاريخ و لذاك صنفوا فيه مصنفاتهم الكثيرة التي بلغت الذروة في الإتقان و المنهجية سواء في السيرة النبوية أو تاريخ الأمم قبل الإسلام أو تاريخ المسلمين أو كتب الطبقات المختلفة و قد بدأ هذا الوعي مبكرا من خلال كتاب السيرة كإبن إسحاق و خليفة بن خياط و عروة بن الزبير و ابن هشام و غيرهم أو مؤرخي المسلمين العظام كالطبري و ابن الأثير و ابن خلدون و المقريزي و ابن تغري بردي و ابن الفرات و ابن إياس و كان آخرهم أعظم مؤرخي المسلمين في العصر الحديث و هو الجبرتي مما يظهر لك أن التاريخ كان جزءاً رئيسياَ في التكوين الثقافي العام للمسلمين و مناهجهم العلمية و هذه الورقة تمثل محاولة متواضعة لقراءة معاصرة في أهمية علم التاريخ.
فللتاريخ تأثيره الجذري على طرائق التفكير و المعالجة للواقع و المتغيرات:-
يدربك التاريخ على الخروج من طريقة التفكير الإطلاقية (أبيض / أسود) بحيث يستطيع العقل من خلال القراءة التاريخية الإدراك الموضوعي للأمور و النظرة النسبية للقرارات السياسية و العسكرية، فعند قراءتنا لتاريخ نور الدين زنكي على سبيل المثال، نجد هذا الموقف في معالجة نور الدين زنكي لحملة الإمبراطور البيزنطي مانويل كومنين على الشام سنة 1158 م، حيث تم التحالف ( قبل الحملة ) بين الإمبراطور البيزنطي و بلدوين الثالث ملك مملكة بيت المقدس الصليبية على حرب القوى الإسلامية الناهضة بقيادة نور الدين زنكي و كان هناك محددات لسياسة نور الدين تجاه الإمبراطورية البيزنطية تتمثل في :
o البعد الاقتصادي:- المتمثل في استمرار الصلات التجارية بين البلدين
o البعد السياسي:- المتمثل في تحقيق التوازن في القوة في المنطقة من خلال تحييد الإمبراطور البيزنطي و عدم ارتمائه في تحالف مع الإمارات الصليبية، بمعنى آخر، تحييده في الصراع مع الصليبيين
و قد كانت قوة الإمبراطورية البيزنطية في أوجها و يتبين ذلك من رواية المصادر الإسلامية لحالة الهلع من نزول حملة الإمبراطور البيزنطي في الشام، و لقد تعامل نور الدين زنكي مع الموقف من خلال الاتصالات الدبلوماسية و الحشد العسكري القوي و توصل من خلال المفاوضات إلى الآتي:
o تعهده بمساندة مانويل في حروبه ضد سلاجقة الروم، و ترتبت على هذا الصلح نتائج إيجابيه منها:
§ أنهت التحالف البيزنطي الصليبي، و كان على الصليبيين أن يعتمدوا على أنفسهم أو على مساعدات أوروبا في صراعهم مع الزنكيين
§ حفظت وحدة بلاد الشام
§ أعادت التوازن بين الصليبيين و الزنكيين بخروج البيزنطيين من الساحة و من ثم عاد الصراع بينهما على مصر متوازناً مرةً أخرى
و تمت هذه النتائج بتقديم تنازلات غير عادية، فقد اتخذ نور الدين خطوة يصعب تقييمها إلا بوصفها من قبل القرارات الصعبة المصيرية و التي تُظهر بجلاء التفكير العقلاني الذي يوازن بين المصالح (نسبية النظر للمصالح و المفاسد) فليست المسألة كون البيزنطيين كفاراً كالصليبيين (أبيض/ أسود) و إنما تحديد الموقف حسب المصالح و حسابها بشكل براجماتي و مبدأي في نفس الوقت، فنور الدين قدر أن معركته الحالية ضد الصليبيين و ليست ضد البيزنطيين، فوازن بين الإطاحة بمشروعاته على يد الحملة الصليبية البيزنطية و بين الوقوف ضد سلاجقة الروم (و الذين تم الصلح معهم لاحقاً) فاختار الخيار الثاني أي تفاهم مع الإمبراطور البيزنطي ضد السلاجقة فقبل الإمبراطور و انسحب من الحلف الصليبي فأوقف الحملة و زال الخطر
تنمى القراءة التاريخية الصحيحة التفكير العقلاني و تناقض طريقة التفكير العاطفية، فنجد أن القراءة المعتادة للحروب الصليبيية و رد فعل المسلمين عليها تتلخص في وصف الحروب الصليبية و المذابح التي قام بها الصليبيون ضد المسلمين ثم تقفز قرابة نصف قرن إلى مرحلة الإنتصارات العسكرية الإسلامية على يد نور الدين زنكي و من بعده صلاح الدين الأيوبي، فتنتج هذه القراءة رد فعل عاطفي يتمثل في حرق المراحل و الدخول في مراحل قبل أوانها عند التعامل مع واقعنا المعاصر، و لكن القراءة المتعمقة و المتأنية لهذه المرحلة التاريخية تظهر بجلاء أنه كان هناك مشاريع إصلاحية على يد الغزالي ثم الجيلاني، هي التي أوصلت الحالة الإسلامية عبر مراحل متعددة إلى انتصارات نور الدين و صلاح الدين، و بالتالي فهذه القراءة الأخيرة هي التي تنتج التفكير العقلاني الذي يتفهم طبيعة المراحل و أهداف كل مرحلة و مفاصل القوة المطلوبة لكل مرحلة.
القراءة التاريخية الصحيحة تظهر حقيقةً و مبدأ هام في التغيير و الحركة و العمل و هو (الإمكان التاريخي) و بطلان الجبرية، أو إدعاء البعض أنه لم يكن هناك خيارات أخرى فنجد مثلاً في سرد الإخوان المسلمين في مصر لتجربتهم مع عبد الناصر و أزمة مارس سنة 1954 م ، نجد الإخوان يركزون على المظلومية التاريخية و المؤامرة، و أنه لم يكن في الإمكان شيء آخر، و لا يتوقفون أبداً لنقد فضيلة المرشد المستشار حسن الهضيبي رحمه الله و جماعة الإخوان في تعاملهم مع العسكر و أنه في الحقيقة كان هناك خيارات أخرى لتجنب الصدام و المناورة و يظهر هذا الأمر بجلاء عند المقارنة مع الحركة الإسلامية في السودان التي أدركت مبكراً أن العائق الأساسي أمام المشروع الإسلامي هو العسكر و أن هذه المؤسسة هي أول مؤسسة تم علمنتها في بلاد المسلمين و استغلوا فرصة حاجة النميري للتحالف معهم فقبلوا هذا التحالف و عملوا على التغلغل داخل مؤسسات الدولة بهدوء و تجنب أي معارك جانبية رغم استفزاز النميري لهم أكثر من مرة حيث تغلغلوا داخل مؤسسات هامة و أهمها الجيش لتحقيق القوة النوعية (الاقتصاد – الدعاية – العسكر) اللازمة للتغيير مما مكنهم من عمل إنقلاب عسكري عام 1989 و السيطرة على السلطة في السودان و هذا يبين لك مسألة الإمكان التاريخي و بطلان الجبرية و أنه هناك دائماً خيارات أخرى.
التاريخ هو مخزن الاستراتيجي، حيث أن به كم كبير من الروايات و الأحداث العسكرية، التي هي ذخيرة لأي مفكر استراتيجي، و في الجيوش الغربية يوجد ما يسمى بالمؤرخ الاستراتيجي و هو الذي تتجمع لديه الوثائق الخاصة بالمعارك السابقة في صراع معين ليستخرج منها الصورة الكاملة و الصواب و الخطأ في التجربة و الأسباب التي أدت إلى النتائج السابقة للإستفادة من كل هذا في الحلقة الجديدة من الصراع
التاريخ هو مخزن السياسي، حيث أن التاريخ هو المسرح العملي للسياسة الذي يُستفاد و يُستخرج منه القواعد و تُختبر فيه صدقية النظريات، و هو يعطي السياسي خبرة عميقة في المعالجة السياسية من خلال الكم الهائل من الخبرات الإنسانية في سياسة الأمم، و من الملفت للنظر اننا نجد دولة عظمى كالولايات المتحدة تكرر نفسها استيراتيجيا بإعتماد استراتيجيات سابقة، فعلى سبيل المثال مبدأ "جوام" عام 1969 م و الذي أعلنه "نيكـسون" و تم بمقتضاه فتنمة الحرب في فيتنام، و اكتفاء الولايات المتحدة بالدعم اللوجيستي، و وجود المستشارين العسكريين الأمريكيين و هي نفس الاستراتيجية التي اُعتمدت في أفغانستان و العراق بعد ذلك.
التاريخ يوضح أصول الأفكار و الفلسفات، فلفهم الليبرالية مثلاً لا بد من العودة لأفكار لوك و فولتير و منتسكيو و تطور الأفكار لديهم، و لفهم قضية القوميات في أوروبا في القرن التاسع عشر لا بد من الرجوع للثورة الفرنسية و تاريخها، و لفهم ظهور القومية في بلاد المسلمين لا بد من الرجوع للإحتلال الفرنسي لمصر عام 1798 م و ما تلاه في عصر محمد علي و خلفائه و سياسات العلمنة التي اُتخذت بمصر، و هكذا فالتحليل التاريخي يبحث في جذور الحدث الحاضر و ليس النظر إلى الحدث الحاضر و مسبباته المباشرة كما يفعل التحليل السياسي، فعند النظر إلى مشكلة مياه النيل و سد النهضة لا بد من العودة إلى الجذور التاريخية للمسألة حتى نفهمها بعمق أكثر، و هذا ينقلنا إلى قضية محورية في العلم عامة، و هي أن العلوم لا تعطي الأفضلية بشكل مطلق و إنما الأفضلية نسبية، فمثلا لا نستطيع القول أن التاريخ أفضل العلوم و إنما لكل علم ميزته النسبية و العلوم متكاملة، و قد أشار العلامة جمال حمدان إلى ذلك بقوله ]التاريخ هو الجغرافيا المتحركة و الجغرافيا هي التاريخ الساكن[، فلا نستطيع في مثالنا السابق و هو مشكلة سد النهضة و طريقة الخروج بحلول للأزمة، إلا أن نعمل كلا التحليلين التاريخي و السياسي، و لفهم السلوك العلماني و الأفكار العلمانية لدى الشعوب المسلمة لا بد من تحليل الأمر تاريخياً و إجتماعياً و نفسياً و سياسياً، و هكذا.
القراءة التاريخية لتاريخ المسلمين ينتج فهم النظرية السياسية عند المسلمين، من حيث دور الدولة و وظيفتها و عقيدتها و بالتالي فهو يجعلنا نفهم عمق الخلل في الرؤية العلمانية للدولة عند المسلمين و خطأ تقييمها من خلال أدوات الحداثة في التقييم، أي من خلال النظرية السياسية عند الغربيين و هو خطأ ظاهر حيث تُقيَّم الدولة الإسلامية بمعايير و قيم و اقترابات أجنبية عنها، و هو يفيد أيضا في الوصول إلى تصور واضح تفصيلي للدولة الإسلامية في الواقع المعاصر، و هو يعطي أيضا خبرة عالية في التعامل مع مشاكل الأقليات مثلا في بلاد المسلمين.
القراءة التاريخية تنتج فهم الأهمية القصوى لوجود استراتيجية للخروج من المأزق الحضاري الراهن فعند المقارنة التاريخية بين تجربة مواجهة الحروب الصليبية (مدرسة الغزالي و الجيلاني و حركة نور الدين و صلاح الدين التي سبق الإشارة إليها) توضح أن هناك استيراتيجية طويلة المدى للتعامل مع الخطر الصليبي و استمرت هذه الإستيراتيجية في التطبيق حتى عهد السلطان المملوكي الأشرف خليل الذي قضى على الوجود الصليبي تماما في فلسطين و في البحر المتوسط، قارن ما سبق بعهد السلطان سليمان القانوني و وزير بحريته خير الدين بارباروسا (مع عظيم فضلهما في الجهاد في سبيل الله) و رؤيتهم القاصرة التي لم تتجاوز أهدافها إعادة الأندلس، و التي جهلت تماماً أبعاد التغير الحضاري و الاستراتيجي في أوروبا، حيث سبق ذلك بقليل قيام هنري الملاح – الابن الثالث لملك البرتغال – بوضع استراتيجية متكاملة لتطويق المسلمين من الشرق لضرب الدعامة الإقتصادية للقوة العسكرية الإسلامية و هي البداية الحقيقية للتفوق الغربي على المسلمين و التي مهدت الطريق للإحتلال المباشر بعد ذلك لبلاد المسلمين، فمن خلال التجارب التاريخية السابق ذكرها يتبين حتمية وجود رؤية استراتيجية متكاملة للخروج من المأزق الحضاري الراهن.
التاريخ هو الذي يوضح و يشرح مراحل النهضة و دور النخب المؤهلة لإحداث النهضة فالقراءة التاريخية لنهضة أوروبا تثبت أن الخطوة الأولى لهذه النهضة كانت في إيجاد النخبة التي أنتجت النموذج المعرفي الغربي الذي قامت عليه الحضارة الغربية في العصر الحديث، و الناظر في نهضة الميجي في اليابان 1868 م و ما بعدها و التي قامت على أيدي نخبة من الساموراي و التي أنتجت نهضة و قوة يابانية ناهضة أصبحت القوة الرئيسية الأولى في شرق آسيا في مدى أربعين عاما من بداية العمل النهضوي الياباني
التاريخ أصبح من شروط تكوين المجتهد في الواقع المعاصر ، فمن خلاله يفهم المجتهد السياق الخاص بالنص و البيئة التي نزل فيها و كيف فهمه الصحابة و طبقوه، و لا يستطيع إدراك عمل أهل المدينة كدليل و أصل من الأصول على سبيل المثال إلا من خلال التاريخ، فالتاريخ أصبح من بعد فقدان حركة التواصل العلمي الإسلامي جزء من أدوات الإجتهاد لأننا الآن بصدد إحياء علمي جديد حيث أن فهم النصوص و سياقاتها كان مبثوثا في عملية التعليم الشفهي لدى المسلمين و التي فُقدت الآن بفقدان حركة التواصل العلمي
التاريخ له دور رئيس في تكوين الهوية و غرسها في النفوس، و قد استخدمه الغربيون في غرس الهويات المتخيلة (كما يعبر بندكت آندرسون كتابه "جماعات متخيلة" ) في شعوبهم، فمن خلال قراءة متعسفة للتاريخ ثبتوا الهويات القومية لدى شعوبهم، و هذا ما فعله الرافعي أيضاً عند كتابته لتاريخ مصر حيث أنه من خلال قراءة متعسفة للتاريخ عمل على ترسيخ وجود روح وطنية خامدة على مر العصور في مصر و ظهرت على يد محمد علي، و تجد مظاهر هذه القراءة المتعسفة للتاريخ في اللغة الجذابة التي يكتب بها التاريخ الأوروبي بل و إبراز المراحل المضيئة في هذا التاريخ كالمرحلة اليونانية و الرومانية و في نفس الوقت الإغفاء عن عشرة قرون من الظلام عاشتها أوروبا في العصور الوسطى بل تركز كثير من الكتابات الأوروبية الحديثة الآن أن هذه المرحلة لم تكن كلها ظلاما بل كان فيها إضاءات حضارية، ثم التركيز على المرحلة الحديثة في التاريخ الأوروبي و إبراز التفوق الحضاري و الهيمنة الغربية و كأنها نهاية التاريخ. و في المقابل للتاريخ أهميته القصوى في ترسيخ هوية أصيلة كالهوية الإسلامية في نفوس المسلمين.
للتاريخ دور رئيس في تكوين الوعي الجمعي لدى الشعوب تجاه حالة الصراع مع الأمم الأخرى كالترويج لمركزية أوروبا في التاريخ و الحضارة و هي النظرة التي كانت لها آثار سلبية خطيرة على كل المؤرخين في أنحاء العالم من اعتماد هذه المركزية، و أن بقية الشعوب عالة على هذه الحضارة الأوروبية رغم أن الشواهد التاريخية المتكاثرة تدحض هذه النظرة كما بين ذلك جون هندرسون في كتابه (الجذور الشرقية للحضارة الغربية)، و أيضا ترويج الأوروبي لأفكار معينة عن الشعوب الأخرى كقولهم مثلا ان الأفارقة لم يكن لهم يوما حضارة و أنهم ليسوا مؤهلين لأي إنجاز حضاري مما يبرر ما يسمى (عبء الرجل الأبيض) و دوره في نشر الحضارة بين هذه الشعوب من خلال استعمارها و للأسف في بلاد المسلمين يستخدم التاريخ كإذكاء للعواطف أو الدروس الوعظية و لم يفهم دوره الخطير بعد في تكوين الوعي الجمعي للمسلمين تجاه الصراع مع الغرب و هيمنته الإدراكية و المادية على بلاد المسلمين.
يُظهر التاريخ المظاهر الحضارية للأمم، و بالتالي لا بد من قراءته حضارياً سواء في النواحي السياسية أو الإجتماعية أو الإقتصادية أو العسكرية، بحيث يتكون لدى القاريء الوعي بالحضارة و ضرورتها و مراحلها.
و استكمالاً للفائدة، لا بد من الانتباه لعدة أمور عند القراءة في المراجع التاريخية الحديثة:
لا بد من الحذر من الاستغراق في الماضي و العيش فيه و الإنعزال عن الحاضر و هي حالة نفسية و عقلية قد تصيب المؤرخ أو القاريء للتاريخ و هي تؤدي به إلى الإنعزال عن الواقع و عدم القدرة على التعامل معه، و هي حالة أصابت الإسلاميين عند قراءتهم لسير السلف، فينقل أفعال السلف للواقع حرفيا رغم أن أفعال السلف ليست حجة و لكن الحجة هي فهم السلف
لا بد من الحذر من (خلط الأزمنة) و هو فهم سياقات تاريخية معينة في مرحلة زمنية معينة في إطار ظروف أخرى في مرحلة زمنية أخرى كما يفهم البعض مثلا ظروف مصر في العصر العثماني المملوكي في إطار قيم الحداثة و ظهور القوميات و فهم تاريخ مصر في هذا الإطار حيث هنا ننزل مفاهيم حادثة خاصة بعصر متأخر على عصور أقدم لم تكن فيها هذه المفاهيم حيث كانت الهوية إسلامية و ليست قومية، و لا نستطيع مثلا لفهم طبيعة شعب أقليم معين كمصر أن ننقل كلام المقريزي أو غيره عن الشعب المصري في زمنه و نقيم تعميما على الشعب المصري بناءاً على ذلك حيث أن الشعوب تتغير خصائصها بإختلاف الأزمنة و العصور و الظروف و المؤثرات التي تمر عليها
لا بد من إدراك غياب القيم تماماً (العقدية أو الشرعية أو الأخلاقية) عن التقييم التاريخي للمؤلفات الحديثة، و هذا ناتج عن الفلسفة الحاكمة لمنهج البحث التاريخي الحديث و هي الفلسفة الوضعية لأوجست كونت و التي تنفي أي دور للقيم في التقييم العلمي، أضف إلى ذلك مبدأ النسبية عند الحداثيين و الذي يجعل الأمور كلها من حيث التقييم نسبية و بالتالي فالأخلاق مثلاً نسبية، فلا يصح التقييم بها عندهم.
لا بد من إدراك أن الإشكال في تفسير التاريخ في المراجع الحديثة لا يتوقف عند الفلسفات المعروفة من ليبرالية أو ماركسية أو غيرها و إنما قد يكون المؤرخ لا يتبنى أياً من هذه الفلسفات و يعتمد فقط على الوثائق و ما تنتجه و لكنه لتكوينه الثقافي العلماني بنشوئه في المجتمعات العلمانية الحديثة، أصبح يفهم التاريخ في إطار قيم الحداثة، و المحاولات الجادة التي تخالف هذا النهج – و رغم أنها أنتجت نتائج علمية مبهرة – كدراسة تيموثي ميتشل (إستعمار مصر) أو دراسة خالد فهمي (كل رجال الباشا) و التي خرجت من إطار أدوات الحداثة إلى إطار أدوات ما بعد الحداثة كمفهوم السلطة الإنضباطية و أدواتها عند فوكوه و تفكيكية ديريدا للغة، و حتى دراسات نيللي حنا لتاريخ مصر العثمانية أو دراسة بيتر جران (الجذور الإسلامية للرأسمالية) و التي خرجت بنتائج إيجابية مختلفة عن المعتاد في المدرسة الأكاديمية التاريخية المصرية فيما يتعلق بمصر العثمانية، هي أيضا تتعامل في إطار قيم الحداثة و مشكلتها ليست مع الحداثة و قيمها و إنما أن الحداثة بدأت مبكراً في تاريخ مصر العثمانية، و هذا لا ينفي قيمة هذه المؤلفات و فائدتها.
ما سبق بيانه من محاذير و تنبيهات يبين لك حجم الإشكال الحضاري الذي يواجه المسلمين بالنسبة لعلم التاريخ، فلا يوجد لدينا منهج بحثي تاريخي خاص بنا، و لا يوجد مؤلفات تاريخية تدور في إطار النموذج المعرفي الإسلامي، بل لا يوجد لدينا رؤية متكاملة لفهم التاريخ حتى الآن، و إن كانت هناك محاولات كمحاولة أسامة حميد في مقدمة موجز تاريخ مصر و ما قدمه مالك بن بني في كتاباته عن الحضارة و النهضة و عماد الدين خليل في كتاباته عن القوانين التاريخية.
فالمسلمون يعانون في الحقيقة من نوعين من الهيمنة:
هيمنة إدراكية: سواء من الأفكار العلمانية من ليبرالية و ماركسية و فوضوية و غيرها أو سيطرة النموذج المعرفي الغربي بأدواته البحثية و إقتراباته المنهجية على العلوم و المعارف أو انتشار قيم الحداثة و ثقافة الاستهلاك بين عموم المسلمين
هيمنة مادية: (سياسية إقتصادية عسكرية)
و لذلك يجب على المسلمين إيجاد رؤية إستراتيجية للتعامل مع كلا النوعين من الهيمنة و لن يتحقق ذلك إلا بإيجاد الخطوة الأولى و هي إيجاد نخبة مؤهلة قادرة تدرك هذه التحديات و تستطيع التعامل معها.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين