فى لقائه قديما مع منى الشاذلى صرح أردوغان بأنه مسلم فى حزب علمانى و دولة علمانية دستورها علمانى و أن قصارى جهده هو إحقاق قيم الاسلام فى حكمه و على رأسها العدل و المساواة و محاربة الفساد.
تعجبت منى الشاذلى من تصريحه بأنه حزب غير اسلامى فرد عليها بأريحية مبتسما : الاحزاب الاسلامية عندكم فى مصر؟!!.
لا يخفى على الجميع الظروف التى لجأ فيها أردوغان برضا كامل لإنتهاج العلمانية كأيدولوجية و سياسة لحزبه الجديد العدالة و التنميه .
لكن ارتضاء اردوغان للعلمانية كأيدولوجية يسعى من خلالها للوصول للحكم و تحسين المناخ السياسي و تعديل الوضع الاقتصادى لبلده؛ أمر نقل التفكير الاسلامى بشكل عام الى مربعات لم يدخلها من قبل و بالأخص بعد نجاح الرجل و حزبه فى تحقيق الكثير من أهدافهم وصنع اشكالية جدلية جديدة .
فسمعنا من اسلاميين كثر - بعضهم كان شديد الرديكاليه- يتحدثون عن فرضية النزول من مربعات المثالية الاسلامية الى أرض الواقع و التنازل بعض الشئ من أجل الوصول الى الغايات المنشوده، مثل ما فعل أردوغان.
و هذه الاتجاهات واجهت و بعنف إعتراضات الكثير من الاسلاميين الآخرين و أحدثت حاله من الشق فى صف الاسلاميين، بين من يرى وجوب سلوك هذا المسار و لو على سبيل التجريب و بين من يراه تفريط فى ثوابت و أصول عقديه و شرعيه لن توصل الى خير أبداٍ، إذ كيف توصل العلمانيه - الكفر - إلى الإسلام ...ناهيك عن إمكانية جواز ارتضاء العلمانية في بلادنا بهذا الشكل المتأول ؟؟؟.
جدلية ما بعد الثورات
وبعد إنطلاق ثورات الربيع العربي فى مصر و تونس و تحول بعضها للعمل المسلح فى ليبيا و سوريا و اليمن ذابت كثيرا الفوارق بين المعسكرين ... إلا انه بقى النذر اليسير ممن ثبت على موقفه القديم تجاه تلك الجدلية الشائكه .. التمسك بنقاء المعتقد و استقامة الفكر ، أو التأول برجماتياً لحلحلة الواقع و شق سبل للخروج من الحصار المفروض .
نجدنا بين هؤلاء و أولائك فى موقف من الحيرةلا نحسد عليه....
فمن جهة نتفهم كثيرا الوضع ، و نوع التفكير الذى ذهب اليه المعسكر الأردوغانى ، و من جهة أخرى تُوقِفُنا نصاعة رأى المعسكر الأخر ووجاهته بإعتباره الأصل الذي لابد من مراعاته .
كيف أفهم الموقف الاردوغاني !
تجعلنى بعض القناعات التى أومن بها كثيراً اتفهم الموقف الأردوغانى كثيراً على رأسها :
اولا : استحالة قيام دولة الخلافه الاسلامية الموعوده على دولة قومية قطرية كالتى نعيش بها الأن بشكلها المؤسساتى العالمانى الحالى مثل مصر او سوريا او تركيا او اندونسيا او غيرها منفردة على غرار الفتوحات الاسلامية او قيام الدول قديما فى عالمنا الاسلامى وذلك لسببين :
1- العالم الاسلامى أجمع فى حالة إحتلال و هيمنة حضارية كاملة من الحضارة العلمانية المتمثلة فى المجتمع الدولى بقيادة أمريكا حالياً .... فمحاولة بناء خلافة اسلامية انطلاقاً من تحرير قطر و التوسع بعده فى الاقطار المجاورة قطراً فقطراً أمر يستحيل واقعياً ... و ذلك لأنك ساعتها لا تواجه القطر فقط ، بل تواجه المجتمع الدولى العلمانى كله ،و هذه مواجه صفرية لا وجه فيها للتكافئ .
2- كنتيجة لسياسات الاحتلال الحضارى العلمانى للعالم الاسلامى .... أفرغ العالم الاسلامى من مقومات الانتاج بشكل كامل و ألجأه لاستيراد كافة احتياجاته الاستهلاكيه من أسواقه بعد أن حول ثقافته الاستهلاكية و الشرائية بتأثير الاعلام لمنتجاته ... فى ظل هذا الوضع أصبح منع الغرب توريد سلعة ما– غير السلع الاستراتيجية- تهديد لا يطاق و لا يمكن الصبر عليه من المجتمع كله و لا تقدر أى حكومة على التعامل معه.
** وعليه كان لزاميا – في رأيي الشخصي - توحد جهود و امكانية مجموعة أقطار اسلامية بالشكل الذى يُمكِّنها من الوقوف فى وجه المجتمع الغربى أجمع و يمكنها أيضا من كسر حصاره الإنتاجي عليها بما توفره بعضها لبعض من امكانيات تنقصهم فى حال الحصار .
ثانيا : علينا أن نتفهم كثيرا تطلع الجماهير الاسلامية للخروج من حالة المظلومية التى يعيشون فيها ، و تسنم المناصب التنفيذية من أجل الحصول على الخبرات اللازمه في إدارة الدول الحديثة.
ثالثا : رفض الكثير من الاسلاميين تخييرهم بين ثنائيتى دولة الخلافة النقية أو الدول الاستبداديه القمعية الغاشمه التى يعيشون فيها و تقبلهم لدولة العدل التى يمارسون فيها شعائرهم و يعاملون بالعدل مثل بقية أفراد المجتمع مهما كان دينها مثل نموذج هجرة المسلمين الاوائل للحبشة و عيشهم فى كنف النجاشى المسلم رضى الله عنه الذى كان يظهر المسيحية.
رابعا : الإدارك لمفهوم الاستقلال الحقيقى، والذي لا يتحقق الا بعد ان تستقل الدولة فى توفير غذائها و دوائها و سلاحها .
فيصل القبول
كل هذه الاسباب و غيرها تدفعنا لنتفهم موقف الاردوغانيين أو إن شئت سمهم ليبراليي الاسلاميين، الذين ينزلوا من سمو نقاء المعتقد الى التعامل على مبادئ الاسلام و اخلاقه العامه.
هذا بما يؤطرللتعامل معهم بشكل مختلف عن العلمانيين الخلص ... شرط أن نجدهم بالفعل يفرقون بين الاسلام شريعة و عقيدة نقية و بين ما يفعلونه من خلط تلجئهم اليه الضرورة و إن كانت نيتهم خالصه و قصدهم سليم.
ولذلك فيجب أن نفرق بين أردوغان الذى يعرف جيدا أن ما يفعله ليس الاسلام المرجو، و إنما هو العلمانيه و بين الغنوشى الذى وصل الى أن الاسلام لا يتعارض مع العلمانيه و أن الاجراءات العالمانيه هى من الاسلام ؟!.
Top of Form
لماذا ننبهر بأردوغان ؟
وإذا تكلمنا من جانب عاطفى بحت لماذا أكثر الناس ينبهرون بأردوغان؟
ومن منا يستطيع أن يملك نفسه و لا ينبهر بمثل هذا االزعيم ؟! .... فى ظل هذا الفقر المدقع الذى تعانيه الساحة الاسلامية من الزعماء.
فأردوغان الخطيب الكارزماتى الذى فاق الجميع فى إلهاب و إثارة مشاعر الجماهير.
أردوغان الشخصية المتفجرة مشاعر و حنان و مواقف انسانيه ليس لها شبيه.
أردوغان الناجحإقتصاديا بشكل أثار أحقاد خصومه و خلق له عدوات لا تنقضى.
أردوغان اللاعب الدبلوماسى الاكبر و الاكثر جدلا فى منطقة الشرق الاوسط من سنوات.
أردوغان القائد صاحب المبادرات الشجاعة حد التهور و صاحب المواقف الاكثر إثارة .
مصائب أردوغان المقلقة
إلا أن كل هذا الانبهار للأسف الشديد يتهشم على صخرة المصائب المقلقة التى يدهمنا بها من حين لأخر، فييصبح من الصعب جدا اقناع الاسلاميين الراديكاليين او المتشددين أو الأصوليين إن ساغت هذه التسميه .. يصبح من الصعب جدا اقناعهم بأن الرجل إسلامى صميم و أنه ارتضى ما هو عليه من علمانية تأولا فقط للأسباب التى سبق تبيينها .
فمصائب من نوع تسليمه الفلسطينيه الشهيرة لسلطة الاحتلال الاسرائيلى،
و من قبلها الشيشانيه لروسيا ،
و علاقاته الدبلوماسيه و الاقتصاديه العاليه بإسرائيل،
و مساعدته لهم فى إطفاء الحرائق الاخيرة ووو.. .
ناهيك عن الأفعال التي لها بعض أوجه التبرير و التي لا يمررها الراديكاليون بأي شكل من الأشكال كفتح قاعدة أنجرليك الجوية للقوات الدولية كمحطة لضرب العراق و الشام بالإضافة إلى قصفه بعض قرى السنة و قتله العشرات من المسلمين المعصومين وووو
مثل هذه المواقف التى من الممكن تفهم بعضها و لا نقبلها بالضرورة .... و لا نتفهم البعض الاخر و نعتبره من باب المبالغه فى المجامله السياسية القادحه فى صلب المعتقد و الدين بشكل لا يرد ...... بالاخص تسليم المسلم للكافر.
هذه المواقف توقفنا كثيرا مترددين أمام تجربة الرجل و تجعلني أحجم عن محاكاتها إن تمكنت ... أو قبول تكرارها مع محاول ...
مع الوضع في الاعتبار استحالة قبول السماح لتكرار تجربته مرة ثانية من قبل المجتمع الدولى العالمانى؛ الذى وجد نفسه تورط بشدة بقبول تجربة تجربة الاسلام الليبرالى مع أردوغان.
فقد أصبح الرجل كيانا مزعجا غاية الازعاج و توسع حتى صار التخلص منه أمر فى غاية الصعوبة .... إن لم يكن وصل الى حد الاستحالة .
وذلك على الرغم من أنه علمانى مثالى للغاية الا ان علمانيته الاخلاقية المتصالحة مع الأديان ، أشد مقتاً على العلمانيين أنفسهم من غيرها، إذ هى تعري علمانيتهم البراجماتيه المنعدمة الضمير و الاخلاق أمام أنفسهم قبل غيرهم.
وموقفنا هذا من الرجل يراه فريق من الاسلاميين أقرب للتبرير منه للإنصاف وسببه الانبهار .... و يراه فريق أخر أقرب للإجحاف أكثر منه للإنصاف وسببه الحقد أو الفشل عن تقديم بديل.
لكننا فى النهاية أمام رجل جدلي مثير بحق للعديد من الاشكاليات،وصاحب تجربة ظاهرها إسلامي مهما قيل، لا نستطيع أبدا حشره هكذا بكل بساطه فى خانة العالمانيين الكفار كما يحلو للبعض وصفه.